Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

شرح ألفية ابن مالك للشاطبي
شرح ألفية ابن مالك للشاطبي
شرح ألفية ابن مالك للشاطبي
Ebook703 pages6 hours

شرح ألفية ابن مالك للشاطبي

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

كتاب في النحو شرح فيه الإمام الشاطبي ألفية ابن مالك فأوضح غوامضها وتيسر فهمها وقد ذكر تلميذه أحمد بابا شرحه الجليل على الخلاصة في النحو في أسفار أربعة كبار لم يؤلف عليها مثله بحثا وتحقيقا وعلما
ألفية ابن مالك والمسماة أيضًا بـ «الخلاصة» هي متن شعري من نظم الإمام محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني، من أهم المنظومات النحوية واللغوية، لما حظيت به من عناية العلماء والأدباء الذين انْبَرَوْا للتعليق عليها، بالشروح والحواشي، ومتن اختصرها من منظومته الكبرى «الكافية الشافية»، والذي جمع فيه خلاصة علمي النحو والتصريف، في أرجوزة ظريفة، مع الإشارة إلى مذاهب العلماء، وبيان ما يختاره من الآراء، أحيانًا. وقد كثر إقبال العلماء على هذا الكتاب من بين كتبه بنوع خاص، حتى طويت مصنفات أئمة النحو من قبله، ولم ينتفع من جاء بعده بأن يحاكوه أو يدعوا أنهم يزيدون عليه وينتصفون منه، ولو لم يشر في خطبتهِ إلى ألفية ابن معطي لما ذكره الناس، ولا عرفوه. وحظيت ألفية ابن مالك بقبول واسع لدى دارسي النحو العربي، فحرصوا على حفظها وشرحها أكثر من غيرها من المتون النحوية، وذلك لما تميزت به من التنظيم، والسهولة في الألفاظ، والإحاطة بالقواعد النحوية والصرفية بإيجاز، مع ترتيب محكم لموضوعات النحو، واستشهاد دقيق لكل منها، فهي تُدرس في العديد من المدارس والمعاهد خاصةً الدينية واللغوية.
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateFeb 28, 1902
ISBN9786334367231
شرح ألفية ابن مالك للشاطبي

Read more from الشاطبي

Related to شرح ألفية ابن مالك للشاطبي

Related ebooks

Reviews for شرح ألفية ابن مالك للشاطبي

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    شرح ألفية ابن مالك للشاطبي - الشاطبي

    الغلاف

    شرح ألفية ابن مالك للشاطبي

    الجزء 1

    الشاطبي، إبراهيم بن موسى

    790

    كتاب في النحو شرح فيه الإمام الشاطبي ألفية ابن مالك فأوضح غوامضها وتيسر فهمها وقد ذكر تلميذه أحمد بابا شرحه الجليل على الخلاصة في النحو في أسفار أربعة كبار لم يؤلف عليها مثله بحثا وتحقيقا وعلما

    مالك الصغرى وهي المسماة بـ (الخلاصة) شرحا يوضح مشكلها، ويفتح ويرفع على منصة البيان فوائدها، ويجلو في محك الاختيار فرائدها، ويشرح ما استبهم من مقاصدها، ويقف الناظر فيها على اغراضها من مراصدها، من غير اعتراض إلى ما سوى هذا الغرض، ولا اشتغال عن الجوهر بالعرض، فسمحت الأيام بما شاء الله أن تسمح وسرح القلم في ميدانه إلى ما قدر له أن يسرح، ثم عاق عن إتمامه بعض الأمور اللوازم، ودخلت على فِعلَي الحال فيه أدوات الجوازم، فثنت عنه عناني وأمسكت عن التفكير فيه جناني، وبعد بُعدٍ وانتزاح ثابت إلى نفسي، وتخلصت من تقييد تشخصي بالرجوع إلى أبناء جنسي، فقد بقي بعض من اعتمد على صفاء وده وإخلاصه، إلى تمام ذلك المقصد وخلاصه، وحين رفع عني حجاب العذر، انتدبت إلى الوفاء بذلك النذر، مستندا إلى منّ الله وطوله وخارجا من حولي إلى حوله، وهو المسئول أن يسنى مقاصدنا لديه، وأن يقف آمالنا عليه، فإنه لا ملجأ ولا منجأ منه إلا إليه، وأنا أعرف ان الناظر فيه أحد ثلاثة:

    إما عالم طالب للمزيد في علمه، وأقف من أدب العلماء عنده مده ورسمه، موقن أن كل البشر سوى الأنبياء غير معصوم، آخذ بالعذر في المنطوق به من الخطأ والمفهوم، فلمثل هذا بثثت فيه ما بثثت، وإليه حثثت من خيل عزمي وركاب فهمي ما حثثت، فهو الأمين على إصلاح ما تبين فساده، حين تخلق بأخلاق أهل العلم والإفادة.

    وإما متعلم يرغب في فهم ما حصل، ويسعى في بيان ما قصد وأشكل والنفوذ فيما قصد وامل، فلأجل هذا حالفت عناء الليل والأيام، واستبدلت التعب بالراحة والسهر بالمنام، رجاء أن أكون ممن أثر بما أسدي إليه، وشكر ما أنعم به عليه.

    وإما طالب للعثرات، متبع للعورات، يضعف ويقبح، ويحسن ظنه بنفسه ويرجح، وفسد ظانا أنه يصلح، فمثل هذا لا اعتمد عليه، لا ألتفت في رد ولا قبول إليه، وإن كان أعرب من الخليل وسيبويه، لأنه ناطق عن الهوى سالك سبيل من ضل وغوى، ولم يتخلق بآداب العلماء، ولا أم طريق الفضلاء، والله هو الرقيب على القلوب، والعلم بسرائر الغيوب، ومن عمل صالحا فلنفسه، ومن غرس جنى ثمرة غرسه، إنما العمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ماهاجر إليه

    قال الناظم -رحمة الله عليه-:

    قال محمد هو ابن مالك ... أحمد ربي الله خير مالك

    مصليا على الرسول المصطفى ... وآله المستكملين الشرفا

    ابتدأ الناظم -رحمه الله - بأشياء ينبغي تقديمها في أوائل الأمور المعتنى بها.

    أحدها: التعريف بنفسه لئلا يجهل القائل، ثم الثناء على الله عز وجل الذي هو مقدم على كل امر ذي بال، ثم الصلاة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم التي هي الوسيلة لقبول الطاعات، وتعبيره عن القول بلفظ الفعل الماضي فيه السؤال، إذ يقال: إن صيغة الماضي حقيقة فيما وقع وانقطع، وهو بعد لم يقل شيئا، فكان من حقه أن يأتي بلفظ يقول، الذي صيغته موضوعة للاستقبل؟

    والجواب: أن ذلك لا يصح حيث يكون المستقبل مظنون الوقوع كهذا الموضع، كما يصح حيث يكون معلوم الوقوع كقول الله تعالى - ((أَتَى أَمرُ الله)) - وليس بواقع بعد لقوله: ((فَلَا تَستَعجِلُوهُ)).

    وقوله: قال محمد هو اسم الناظم - رحمه الله-.

    وقوله: هو ابن مالك هي المعرفة التي اشتهر بها، وهو محمد بن عبدالله بن عبدالله بن مالك الطائي الجيّاني يكنى أبا عبدالله ويدعى جمال الدين، أحد أئمة الصناعة النحوية والعلوم العربية، صنف كتبا مفيدة في النحو والقراءات واللغة، ونظم رجزين في النحو.

    أحدهما: يستعمله أهل البلاد المشرقية، وهو الذي نثره في كتابه المسمى: بـ الفوائد المحوية في المقاصد النحوية.

    والثاني: هذا الذي شرع في الكلام عليه وهو عظيم الفائدة، استولى من علم النحو على جل القدر المحتاج إليه، موفّى الأقسام، محرر القوانين، خاليا من الحشو، قليل الألفاظ، كثير المعاني.

    قال الإمام أبو عبدالله بن رشيد -رحمه الله-: أخبرني بتصانيفه في الجملة الإمام المقرئ نور الدين أبو الحسن علي بن محمد بن بركات، شُهر بالبديع، وقال لي: قرأت عليه بعض المفصل للزمخشري وبعض تسهيل الفوائد، وأجاز لي جميع رواياته ومصنفاته في النحو وغيره، توفي -رحمه الله - عام اثنين وسبعين وستمائة.

    قال لنا شيخنا القاضي أبوعبدالله المقرئ -رحمه الله - وفي هذه السنة ولد شيخنا الوزير أبو محمد عبدالمهيمن بن محمد بن عبدالمهيمن / الحضرمي السبتي فكان يقال: مات فيها إمام نحو /4 وولد إمام نحو انتهى.

    وقال الإمام أبو عبدالله بن النحاس الحلبي يرثي ابن مالك: قُل لابن مالكٍ ان جرت بك أدمُعي حُمرًا يحاكيها النّجيعُ القاني

    فلقد جرحت القلب حين نعيتَ لي فتدفقت بدمائها أجفاني

    لكن يسهل ما أُجنّ من الأسى عِلمِي بِنُقلَتِهِ إلى رضوان

    فسقَى ضَريحًا ضمّه صَوبَ الحيَا ... يهمي له بالروح والريحان

    وقول الناظم: هو ابن مالك بالقطع وإظهار المبتدأ، أتى به كذلك لأن الصفة التي هي ابن مالك، صفة بيان، وذلك جائز وإن كان قليلا، والأكثر الاتباع في نعوت البيان.

    وقوله: أحمد ربي الله خير مالك أما الحمد فمعناه: الثناء على الله تعالى بصفات الكمال والإنعام والإفضال، وهو أعم من المدح والشكر، لأن المدح ثناء على ماهو عليه من أوصاف الكمال والجلال، والشكر ثناء على ما هو منه من أوصاف الإنعام والإفضال، فالحمد يشملهما.

    وقيل: إن الحمد والمدح يجريان مجرى المترادفين، وكذلك قيل في الحمد والشكر: إنهما بمعنى واحد، والتحقيق ما تقدم.

    و(الرب): هو السيد القائم على الأشياء المصلح لها، يقال: ربَّهُ يَرُبُّه ربًّا وربّاه يُرَبِّيه تَربِيةً، إذا قام بشئونه ومصالحه. و (الله): أصله الإله، ومعناه المعبود، والعرب تطلق الإله على كل معبود بحق أو باطل، إلا أنهم حذفوا الهمزة تخفيفا ونقلوا حركتها إلى لام المعرفة فصار اللّاه، فاجتمع عند ذلك مثلان، فاعتدُّوا بالعارض وأدغموا أحدهما في الآخر على غير قياس، فصار الله، وألزموا الكلمة الألف واللام عوضا مما حذف منها، ثم فخموا اللام تعظيما للاسم، وفرقا بينه وبين اللات فصار مختصا بالإله المعبود بحق وهو رب العزة سبحانه. و (خير) بِنْيَة تفضيل من الخير ضد الشر، وأصل التفضيل بهما على أفعل فكان الصل أن يقال: فلان أخير من فلان وأشر منه، ومما يدل على ذلك قولهم: الخُورَى والشُرَّى تأنيث الأخيَر والأشرّ، إلا أنهم رفضوا الصل لكثرة الاستعمال فيهما وحذفوا الهمزة، وقد جاءوا بهما علىلأصل نادرا، وقال رؤبة

    بلال خير الناس وابن الأخير

    وقرأ أبو قلابة: ((منِ الكَذّابُ الأشرّ)). والمالك: الذي يملك الأشياء ويصرّفها تحت يده وقهره باستحقاق، وحقيقة الملك: احتواء على الشيء والقدرة على الاستبداد به، وإضافة خير إلى مالك هي من إضافة أفعل التفضيل إلى جنسه، وأصله في الإضافة خير المَالِكِين، إلا أنهم اختصروا وأضافوا المفرد، إذا كان يعطي من المعنى ما يعطيه من الأصل. ومعناه: أنه خير كل مالك قيس ملكه بملكه، وسيأتي في أفعل التفضيل حكمه مستوفى إن شاء الله. ولفظ (الله) هنا بدل من (ربي)، أو عطف بيان، و (خير مالك) بدل، أو منصوب على المدح، ولا يكون صفة، لأنه نكرة. وإنما أتى الناظم بفعل الحمد فقال: (أحمد ربي) ولم يقل الحمد لله مع أنه أبلغ، لأنه قصد إظهار ولاية ذلك بنفسه وعمله فيه، تحقيقا للعبودية بذكره، مضافا ذلك إلى قَصد الابتداء بالحمد لئلا يكون كلامه أجذم عن البركة والخير، على ما جاء في الحديث خرجه أبو داوود، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل كلا لا يبدا فيه بحمد الله فهو أجذم. وفي لفظ النسائي: كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع.

    وقوله: خير مالك قصد به المجانسة لقوله في القسم الأول: (هو ابن مالك) وليسا بمترادفين، لأن الأول معرفة والثاني نكرة، فهو سالم عن الإيطاء، إذا هذا عند أهل القافية مما يقع به الاختلاف، ونظيره ما أنشده أبو الحسن من قوله:

    1 - يارب سلّم سَدْوَهُنَّ الليلة ... وليلة أخرى وكل ليلة

    لأن النكرة والمعرفة مختلفان بالشياع والخصوص، بل الاختلاف في كلام الناظم أتمّ منه في الشاهد، لأن العلمية مخرجة للمسمى به عن أصل معناه، وإن كان ملحوظا من طرف خفيّ في مثل هذا، فيمكن أن يكون الجرمي موافقا هنا وإن خالف في نحو الشاهد، وفي مثله حكي الخلاف عنه فيما أحسب، لا في مثل كلام الناظم، وقد حصل الناظم في مثل هذه المجانسة معنى لطيفا، وهو أن مالكا العلمَ إنما سمي بذلك ليكون ممن يملك وتحصل له رتبة المالكين، على عادة العربي في التسمية بالصفات كحارث وقاسم ونحوهما من قصد التفاؤل بالأسماء، فكأنه خطر للناظم في نسبته إلى مالك هذا المعنى، فصرف عنان الاعتناء به إلى الدخول في خفارة خير المالكين، الذي له الملك الصحيح والاستيلاء الحق، وهو المعتصم المانع والحصن الثابت بالأصل والاستحقاق والدوام، وأيضا فإنه قصد مع ذلك التنبيه على أنه عبد داخل تحت يد ذلك المالك فليحمده بلسان الافتقار والاضطرار الذي هو أقرب للنجاح وأحرى بالفلاح، ولذلك أيضا قال (أحمد ربي) بإضافة الرب إلى ضمير نفسه، إذا كان قصده تقييده بالعبودية التي هي مناط قيام الرب له بما يصلحه في جميع شئون وتصرفاته عموما، وفيما يحاوله من هذه الإفادة التي أخذ فيها خصوصا، وهذه كلها مقاصد حسنة مجدية بفضل الله.

    وقوله: (مصليا على الرسول المصطفى) نصبَ (مصليا) على الحال من الضمير الفاعل في أحمد، أي أحمد الله في كل حال كوني مصليا، وأراد الجمع بين الثناء على الله عز وجل، والصلاة على رسوله لما في ذلك من البركة الموعود بها في الشرع، وذلك مرجو القبول والإجابة، كما جاء في حديث فضالة بن عبيد أنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد، إذ دخل رجل فصلى فقال: اللهم اغفر لي وارحمني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجلت أيها المصلي، إذا صليت فقعدت، فاحمد الله بما هو أهله وصل عليه، ثم ادعه، قال: ثم صلى رجل آخر بعد ذلك، فحمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أيها المصلي ادعُ تُجَب.

    فإن قلت: إنما جاء هذا في السؤال، فأين السؤال، في هذا الكلام؟

    فالجواب: أن في تنصله [تنفله] أولا بالثناء على الله تعالى وإدخاله نفسه نصا تحت الرق للمالك الحق، واعتصامه بإضافته إلى اسمه الرب تعرضا بباب مالكه القائم بمصالحه، وهو معنى السؤال بلسان الحال، وهو معروف عند العرب، وله أصل في الشرع، ذكر الرشاطي في تاريخه عن الحسين بن الحسن المروزي قال: سألت سفيان بن عيينة فقلت: يا أبا محمد: ما تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم: كان من أكثر دعاء الأنبياء قبلي بعرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وليس فيه من الدعاء شيء؟ فقال لي: أعرفت حديث مالك بن الحارث؟ إذا شغل عبدي ثناؤه علي عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، ثم قال: أعلمت ما قال أمية بن أبي الصلت حين خرج إلى ابن جدعان يطلب نائله وفضله؟ قلت: لا أدري. قال: قال:

    أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء

    إذا أثنى عليك المرء يوما كفاه من تعرضك الثناء

    ثم قال سفيان: هذا مخلوق ينسب إلى الجود، قيل له: يكفينا من مسألتك أن نثني عليك ونسكت حتى تأتي على حاجتنا، فكيف الخالق؟ وذكر ابن عبد البر هذه الحكاية في التمهيد على نحو آخر، والمقصد واحد، فأردف الناظم بالصلاة على الرسول صلى الله عليه (وسلم) لتحصل الإجابة؛ لأن الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم مستجابة على القطع، فإذا اقترن بها السؤال شفعت بفضل الله فيه فقبل، وهذا المعنى مذكور عن بعض السلف الصالح، والصلاة أصلها الدعاء، أي داعيا له بالرحمة والبركة وزيادة التشريف والإكرام، والرسول هو الذي أرسله الملك ليبلغ الرعية، فالرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الخلق المرسل إليهم بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، و (النبي) هو المنبئ، أي المخبر عن الله تعالى، وهو أعم من الرسول والرسول أخص، لأن كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا، فقد يخبر النبي من غير أن يرسل، ولا يرسل الرسول من غير أن يخبر، فهو إذًا أمدح، فلأجل هذا أتى به الناظم، ولم يقل مصليا على النبي المصطفى.

    و(المصطفى): مفتعل من صفو الشيء وصفوته، وهو خالصه، أي الذي اختصه الله واختاره من سائر الخلق صفوةً ولبابا منهم، وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعيِّنه أمران:

    أحدهما: أنه أخص بهذه الأمة من سائر الرسل عليهم السلام.

    والثانهي: أنه صفوة الصفوة الذين هم الأنبياء والرسل، فالمصطفون من الخلق هم الأنبياء والرسل، ومحمد صلى الله عليه وسلم مصطفى من أولئك المصطفين. ألا ترى إلى ما جاء من نحو قوله: أنا سيد ولد آدم، وما في معنى ذلك.

    وقوله: (وآله) أصل آل عند سيبويه، أهل بدليل تصغيره على أهيل وعند الكسائي أَوَلُ، وحكي في تصغيره أُويل والأول أشهر، ولما كثر فيه التغيير قلّت إضافته إلى المضمر، فالكثير ان يقال: آل فلان، والقليل نحو قول عبدالمطلب:

    2 - وانصر على آل الصيـ ... ـب وعابديه اليوم آلك

    لكن جرت عادة المحدثين باستعمال الوجه القليل، فاتبعهم الناظم فيه وذلك يدل على جوازه عنده خلافا لمن منع ذلك، ولا يضاف آل إلا إلى مُعَظّم واختلف المراد بآل الرسول عليه السلام فقيل: هم رهطه الأقربون وعشيرته الأدنون.

    فقوله: (المستكملين الشرفا) يعني باتباعه والإيمان به؛ لأن آله عليه السلام كانوا هم أهل ذروة الشرف غير مدافعين، ثم باتبعاه على مقدار الاقتداء به كمل لهم ذلك الشرف، كما قال عليه السلام خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا وقيل: آل الرسول صلى الله عليه وسلم من يؤول إليه في الدين -يعني أمته - وهذا القول مبني على مذهب الكسائي في آل؛ لأن الاشتقاق من آل يؤول يدل عليه، بخلاف الأول: فإنه يصح على مذهبي سيبويه والكسائي، وعلى كل تقدير فقوله: المستكملين الشرفا يعني به الصحابه رضوان الله عليهم، فإن هذا الكلام يقتضي أنهم كانوا أهل شرف قبل الإسلام، ثم جاء الإسلام فاستكملوه به، ولا أحد من الأمة أعظم شرفا في الأصل منهم.

    وقد جاء في الصحيح عن واثلة بن الأسقع أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله اصطفى من ولد آدم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم"

    وخرج الترمذي عن العباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق الخلق، فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل، فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا، فجعلني في خيرهم بيتا، والشرف: الرفعة في نسب أو دين، وأصله من الشرف: وهو المرتفع من الأرض.

    ***

    وأستعين الله في ألفية ... مقاصد النحو بها محوية

    تقرب الأقصى بلفظ موجز ... وتبسط البذل بوعد منجز هنا أخذ في بيان مقصده من هذا النظم، وذلك بعد ما قدم ما ينبغي من تقديمه من التعريف بنفسه، والثناء على الله تعالى، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. والاستعانة: طلب العون، وهو طلب بالتصريح بعد ما قدم الطلب بالتعريض، وأصل الاستفعال للطلب.

    وقوله: (وأستعين الله) جملة معطوفة على قوله: (أحمد ربي الله) أي: أحمده على جميع نعمه وأستعينه في كذا، وحرف الجر متعلق بأستعين، وأتى الحرف الذي يقتضي الظرفية ليجعل هذه القصيدة محلا للاستعانة بالله، وكأنه على حذف مضاف، أي: في نظم ألفية، وفي هذا القول معنى الدعاء لله أن يعينه على ما قصد، وهو محل صادف فيه مَحَزَّ الدعاء؛ لأنه وقع له بعد الثناء على الله تعالى والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا الترتيب حضّ الشارع كما تقدم، والألفية منسوبة إلى الألف، وهي صفة لموصوف محذوف، أي في قصيدةٍ ألفية، والقصيدة من الشعر من عشرة أبيات فما زاد.

    وحكى القاضي ابن الطيب، عن الفراء بسند يرفعه إليه أن العرب تسمي البيت الواحد يتيما، ومن ذلك الدرة اليتيمة لانفرادها، فإذا بلغ الاثنين والثلاثة فهي نتفة، والعشرة تسمى قطعة، فإذا بلغ العشرين استحق أن يسمى قصيدا، والعرب تجعل القصيدة كلها تارة على روى واحد وهو المشهور في أشعارها، وتارة تجعله على حروف مختلفة، وتستعمله شطرين شطرين، أو أربعة أربعة، ولا يكون إلا مزدوجا.

    وهذه القصيدة الألفية التي ابتدأها الناظم من هذا القسم، ويسمى المخمس ويكثر في الرجز والسريع، ومنه قول امرأة من جديس:

    لا أحد أذل من جديس ... أهكذا يفعل بالعروس

    يرضى بهذا يا لقومي حر ... أسدى وقد أعطى وسيق المهر

    لأخذه الموت غدا بنفسه ... خير من أن يفعل ذا بعرسه

    ويعني الناظم بقوله: (ألفية) النسبة إلى ألف مزدوج، لا إلى ألف بيت لأنها ألفا بيت من مشطور الرجز، ويبعد أن يكون قصده النسبة إلى الألفين وإن كان في اللفظ ممكنا.

    وقوله: (مقاصد النحو بها محوية) معنى محوية: مجموعة محاط بها، يعني أن هذه القصيدة قد أحاطت بمقاصد النحو وجملتها مجموعة فيها.

    وأصل النو في اللغة: القصد، وهو ضد اللحن الذي هو العدول عن القصد والصواب، والنحو قصد إليه وهو في الإصطلاح: علم بالأحوال والأشكال التي بها تدل ألفاظ العرب على المعاني ويعني بالأحوال وضع الألفاظ بعضها مع بعض في تركيبها للدلالة على المعاني المركبة، ويعني بالأشكال ما يعرض في أحد طرفي اللفظ أو وَسَطِهِ أو جملته من الآثار والتغييرات التي بها تدل ألفاظ العرب على المعاني، هذا حد بعض المتأخرين

    وقال الفارسي: النحو علم بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب يعني بالمقاييس القوانين الكلية الحاصلة في مَلَكَةِ الإنسان من تتبع كلام العرب.

    ثم إن الناظم نص على أن قصيدته هذه محتوية من النحو على جميع مقاصده لقوله: (مقاصد النحو) وهذه صيغة عموم تفيد الاحتواء من المقاصد على جميعها، وعلى هذا فيه سؤال وهو أن يقال: إنه قد نص آخر النظم على أنه إنما احتوى الجُلَّ، لا على الجميع لقوله هنالك: (نظما على جُلّ المهمات اشتمل) ولم يقل: على المهمات اشتمل، ولا على جميع المهمات، ومهمات النحو ومقاصده بمعنى، فإما ان يكون نظمه مشتملا على الجميع، وإما على الجُلّ دون الجميع، وعلى كلا التقديرين يكون أحد الموضعين، غذ قد فاته أشياء من مقاصد النحو ومهماته كباب القسم، وباب التقاء الساكنين، وغير ذلك مما يتبين في موضعه إن شاء الله تعالى، فتخلص أن كلامه هنا غير صادق.

    والجواب: أن الكلامين غير متنافرين، بل هما متوافقان؛ وذلك أن المهمات ليس بمرادف للمقاصد، لأن المقاصد أعم المهمات لانقسامها إلى المهم وغيره، فمن مقاصد النحو ما هو مهم كالذي ذكر في نظمه، ومنها ما ليس بمهم كباب التسمية، ومسألة الأمثلة الموزون بها في باب ما ينصرف، وفصل الاستثناء من الاستثناء وما أشبه ذلك، إلا أنه يبقى وجه إتيانه بلفظ العموم، مع أنه لم يتكلم إلا على الجُلّ من المقاصد، بل على جاءني أهل مصر، إذا جاءك جلُّهم أو رؤساؤهم، وأهل مصر صيغة العموم كمقاصد النحو، ومن هنا صح الاستثناء الاستثناء من العام على ما هو مبسوط في موضعه، فإذا كان كذلك سقط الاعتراض فإن قلت: فلم لمْ يبين هنا كما بين هناك؟

    فالجواب: إن مقصده هنا ليس البيان عما احتوت عليه على الحقيقة، وإنما مقصده أمر آخر خلاف ما قصد هنالك، وذلك أنه أراد هنا التعريف بأن نظمه احتوى على الضروري من علم النحو، لأن علم النحو يحتوي على نوعين من الكلام:

    أحدهما: إحراز اللفظ عند التركيب التخاطبي للإفادة عن التحريف والزيغ عن معتاد العرب في نطقها -وما وقع عليه كلامها، حتى لا يرفع ما وضعه في لسانهم أن ينصب أو يُخفض، ولا ينصب ما وضعه في لسانهم على أن يُرفع أو يُخفض، ولا أن يؤتى بما حقه أن يكون عندها على شكل وهيئةٍ على شكل آخر وهيئة أخرى، بل يجري في ذلك على مَهْيَع نُطقهم، ومعروف تواضعهم. فإن كان المتكلم فيه مما قد تقدمت العرب للتكلم به، وحفظ عنهم لم يحرفه عما نطقوا به وإن كان مما لم يحفظ عنهم من التركيب النطقي، إما لأنهم لم يتكلموا به، أو تكلموا به ولم يبلغنا، أو بلغ بعضا ولم يبلغ بعضا، أعملنا في ذلك المقاييس التي استقرأناها من كلامهم حتى توصلنا إلى موافقتهم، وحت نقطع أو يغلب على ظنوننا أنهم لو تكلموا بهذا لكان نطقهم كذا، فإذا تحصل لنا مجاراتهم في ذلك ومساواتهم كنا جديرين بأن نسمى مُعربين، واستحق المتصف منا بذلك أن يسمى نحويا، وهذا النوع هو المقصود من علم النحو، وهو الذي أراد الناظم أن يأتي به في هذا النظم، فلذلك قال: (مقاصد النحو بها محوية).

    والنوع الثاني: التنبيه على أصول تلك القوانين وعلل تلك المقاييس والأنحاء التي نحت العرب في كلامها وتصرفاتها، مأخوذا ذلك كله من استقراء كلامها، وهذا النوع متمم وليس بواجب، ولا هو المقصود من علم النحو، فلذلك لم يتعرّض له الناظم. إذا لا يبنى عليه من حيث انتحاء سمت كلام العرب شيء، لكن لما كان هذا النوع لائقا بغرض الشرح لم أخل هذا الكتاب منه فيما استطعت، وعلى ما أعطيه الحال في شرح كلام الناظم والله المستعان.

    وقوله: (تقرب الأقصى بلفظ موجز) له تفسيران:

    أحدهما: أن يكون معنى الكلام أن هذه الأرجوزة تضم أطراف المعاني البعيدة عن التحصيل والضبط، فتضبطها بقوانين وجيزة مختصرة، حتى تجمعها سهلة الانقياد، لا تتعاصى على ذي فهم، ولا تشذ عن الضبط، ولعمري إنه لكما قال: إذا كان قد سهل فيها طريق التحصيل، ويسر الأمر على منتحلة، خلاف ما عليه كثير من التقدمين الذين لم يصلوا من الضبط والتنقيح إلى ما وصل إليه وعلى هذا المعنى نبه في خطبة التسهيل بقوله: وإذا كانت العلوم منحا إلاهية ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين.

    والثاني: من التفسيرين أن يكون معنى قوله: (تقرب الأقصى) أي تجمع أشتات المعاني الكثيرة في الفظ اليسير، إشارة منه إلى الاختصار الذي نحاه مما بَعُدَ على غيره جمعه من المعاني الكثيرة قربه هو اللفظ الموجز، وإنه لكما قال: فإنه يأتي بالقانون الواحد في الألفاظ اليسيرة، يضبط به ما يأتي به الأقدمون من النحويين في ورقة أو ورقتين، وليس في هذه الأرجوزة في الغالب لفظةٌ لغير معنى، ولا لمجرد ضرورة وزن أو قافية، بل كل لفظ فيها تحته معنى أو معان، فقد أخلاها من الحشو إلا نادرا، حتى أنه كثيرا ما يشح بالألفاظ إذا فهم معناها كحروف العطف وغيرها، وقد يأتي بالمثال ليستقرئ منه شروط الباب أو قانونه حرصا على قلة الألفاظ وكثرة المعاني، وسترى ذلك في أثناء كلامه إن شاء الله تعالى، ويتعلق قوله: (بلفظ موجز) على هذا التفسير بالفعل المتقدم، وعلى الوجه الأول باسم فاعل حال: أي: تقرب الأقصى كائنا بلفظ موجز، وهذا الوجه أيضا مما يدخل تحت مقصود كلامه في خطبة التسهيل وكان التفسير الأول أولى: إذْ كان يتضمن الثاني بقوله (بلفظ موجز) ولا يتضمن الثاني الأول.

    وقوله: (وتبسط البذل بوعد منجز) يحتمل وجهين أيضا:

    أحدهما: أن يكون عبارة عن إتيانه بالقوانين والضوابط موفاةً، وبالأبواب مكملة المقاصد. مضمومة الأطراف، بحسب ما يُحتاج إليه، لا ينقص ذلك عن المطلوب المقصود، ولا يختل له فيه قانون، فمتى طلبت منها -أعنى من الأرجوزة - مسألة أو بابا أو قانونا وجدته فيها موفى لا تفتقر إلى نظر في غيرها، فوعده فيها منجز لا تأخير فيه عن حال الْتماسك الفائدة، ليست كغيرها من الكتب التي تقع فيها المسائل ناقصة الأغراض والأبواب، مبتورة المقاصد، غير مستوفاة الأقسام.

    والثاني: أن يكون المعنى مؤكدا لما تقدم في القسم الأول من أنها سهلة الملتمس لا يصعب فهمها على اللبيب، ولا يقف دون الوصول إلى حاجته منها لقربها من الأفهام، وإحكام ضبطها للقوانين والمسائل، وهذا المعنى غير بعيد أن يكون قصده.

    و(الأقصى) ضد الأدنى، أي تقرب الأبعد على الطالب، و (البذل): العطاء ومعنى تبسط البذل، أي توسعه وتكثرة، ويقال: بسط يده بالعطاء، إذا وسعه وكثّر فيه، وهو إشارة إلى كثرة فوائد هذه القصيدة مع إيجاز لفظها، والوعد المنجز، معناه المُحْضَرُ. يقال: بعته ناجزا بناجز، أي حاضرا بحاضر لا نسيئة فيه.

    ***

    وتقتضي رضا بغير سخط فائقة ألفية ابن معط

    وهو بسبق حائز تفضيلا مستوجب ثنائيَ الجميلا

    والله يقضي بهبات وافرة لي وله في درجات الآخرة

    أصل قضى أن يكون بمعنى حَكَمَ، وعلى هذا الأصل جرت مُتصرَّفاتُها في الاشتقاق وقضى بمعنى أدى منه أيضا. ويقال: اقتضى دينه، إذا طلب قضاءه، وكلام فلان يقتضي كذا، أي يطلب الحكم به.

    والرضا: مصدر رضى عنه يرضى رضا بالقصر، وقد يكون الاسم، وحكى الجوهري عن الأخفش المد في الاسم. والسُّخطُ والسَّخّطُ: خلاف الرضا.

    ويقال: سخط عليه، إذا غضب عليه فهو ساخط، وأسخطه، أي أغضبه.

    ويقال أيضا: رضيت عمل فلان وسخطته، وعلى هذا المعنى الثاني يجري كلام الناظم والله أعلم، والمعنى أنها تقتضي الرضا، أي الحكم به يعني برضا ناظمها، وليست بمقتضية سخطا أصلا، و (فائقة) حال من الضمير في تقتضي أي تقتضي الرضا بألفية ابن معط، حال كونها فائقة لها، وكأن الكلام جاء على الإعمال، لأن (ألفية) في البيت يطلبه المصدر الذي هو (رضا)، و (فائقة) في البيت الآخر.

    وإن قلت: إن سخط يطلبه كذلك فهو صحيح، فيكون مما طلب: المعمول فيه ثلاثة عوامل، كقول الحطيئة:

    سئلت فلم تبخل ولم تعط طائلا

    على مذهب المؤلف وجماعة. ويقال: فاق الرجل أصحابه، إذا علاهم بالشرف أو غيره، ومراده أن ينبه على أن نظمه لهذه الأفية ليس معارضة لابن معط في ألفيته، ولا لسخط يتعلق بها منه، بل هو جار على سبيل الرضا بما صنع ابن معط وإن كانت هذه قد فاقتها بأوصاف حسان كتثقيف الأبواب، وتصحيح القوانين والتوفية بشروطها، واختصار الألفاظ مع كثرة المعاني، إذا كل من نظر فيهما يعلم أنها قد فاقتها بهذه الأوصاف، فالناظم بين أنها حال شُفُوفها على ألفية ابن معط ليست بمقتضية لسخط، بل هي مقتضية للرضا المحض الذي لا يشوبه شيء، وهذا شأن العلماء والفضلاء، أن يأتوا بالفائدة مجردة من التنكيت والاستصغار لما جاء به غيرهم وإن كان ما يأتون به أتم وأكمل، وألفية ابن معط مشهورة بأيدي الناس، وهي ذات محاسن من تقريب المرام للأفهام وعذوبة المساق، وسهولة الحفظ، والبيان بالمثل مع قلة الحشو، مع أنها مؤذنة بفصاحة صاحبها، شاهدة له بجودة القريحة، وسعة العلم، وقد نظم في مدحها بعض من اعتنى بشرحها فقال:

    الدرة المنظومة الألفية ... أجَلُّ ما في الكتب النحوية

    لكونها في حجمها صغيرة ... جليلة في قدرها كبيرة

    قد ضبطت أصل كلام العرب ... واختصرت ما في الطوال الكتب

    من أجل ذاك لقبت بالدرة ... واشتهرت في الناس أي شهرة

    نظمها الشيخ الإمام يحيى فذكره يبقى ويحيا

    على ممر الدهر والأعصار ... وحيثما حلت من الأمصار

    فرحمه الله مع السلام ... عليه من علّامة إمام وابن معط ناظم الألفية التي أشار إليها ابن مالك هو زين الدين أبو زكريا يحيى بن معط بن عبدالنور المغربي الأصل والمنشأ، الزواويُّ القبيلة الجزائري البلد، اشتغل بالعربية في المغرب على شيخه أبي موسى عيسى بن يلَلْبخْت الجُزُولِيّ فتهمر فيها، ثم رحل إلى بلاد المشرق فلقي المشايخ، وباحث العلماء وناظر الفضلاء، ثم أقام بدمشق فولّاه الملك المعظم النظر في مصالح المسجد، وفي ذلك الوقت نظم هذه الأرجوزة، وكان معاصرا لتاج الدين أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي البغدادي، فكانا في عصرهما رئيسَىْ أهل الأدب في دمشق، فلما توفي الملك المعظم نقل الملك الكامل أبا زكريا إلى مصر، فأقام بها إلى أن توفي -رحمه الله - يوم الاثنين في آخر يوم من ذي القعدة، ودفن يوم الثلاثاء أول يوم من ذي الحجة بالقرافة، سنة ثمان وعشرين وستمائة، وكان رحمه الله مبرّزا في علم الأدب قادرا على النظم للعلوم، نظم هذه الأرجوزة ونطم العروض، وشرع في نظم للعلوم، نظم هذه الأرجوزة ونظم العروض، وشرع في نظم كتاب الصحاح للجوهري فتوفي قبل إتمامه، وله من التواليف غير المنظومة كتاب الفصول وهو كتاب حسن، وتعليقات على أبواب الجزولية وغير ذلك، ومن وقف على تصانيفه المذكورة علم غزارة علمه وقوة فهمه، وجودة طبعة، وفصاحة نظمه.

    ثم قال: (وهو بسبق حائز تفضيلا) إلى آخره. الضمير عائد على ابن معط.

    والسّبق: التقدم في الأمر، والحائز هو المستولي على الشيء. يقال: حاز الشيء، إذا ضمه إلى نفسه. والتفضيل: الحكم بالفضل للشيء على غيره أو تصييره صاحب فضل. يقال: فضلت فلانا على فلان: إذا حكمت له بالفضل عليه أو صيرته كذلك والفضل والفضيلة خلاف النقص والنقيصة، ونسب إليه حوز التفضيل، والتفضيل هو فعل المفضل، لا وصف للمفضل، وإنما وصْفُهُ الفضلُ، فكان الأولى أن يقول: وهو بسبق حائزٌ فضلا لكن لما حاز سببه وهو السبق في هذه المكرمة صار كأنه حاز المسبب، وهو التفضيل بحوزه للسبب الذي هو السبق، أو لأن التفضيل به يتعلق فنسب حوزه إليه لأجل ذلك. والمستوجب هو المستحق.

    والثناء -بالمد وتقديم الثاء: هو ذكر الرجل بما فيه من الأوصاف الحسنة. يقال: أثنيت على أبي وعلى شيخي، أثنى عليه إثناءن والاسم الثناء هذا ما ذكره الجوهري والأعلم من أن الثناء المختص بالخير بخلاف النَّثَا -بتقديم النون والقصر - فإنه في الخير والشر.

    وحكى غيرهما أن الثناء الممدود يكون في الخير والشر كالثنا المقصور وأنه يقال: أثنيت عليه خيرا وأثنيت عليه شرا، وإياه ذكر ابن القوطية، وإلى الأول مآل ابن السيد فذكر أن الغالب على الثناء الممدود أن يستعمل في الخير دون الشر، بخلاف النثا المقصور كما تقدم، قال: وقد جاء الثناء الممدود في الشر إلا أنه قليل، ومحمول على ضرب من التأويل، وأنشد أبو عمر المطرز عن ثعلب: أثني عليَّ بما علمت فإنني ... أثني عليك بمثل ريح الجورب

    ثم جوز أن يكون المعنى: إني أقيم لك الذم مقام الثناء، كما قال تعالى ((فبشرهم بعذاب أليم))، والعذاب ليس ببشارة، وإنما المعنى: إني أقيم لهم الانذار بالعذاب الأليم مقام البشارة. قال: فإذا حمل على هذا التأويل لم يكن في البيت حجة، ولما كان إطلاق لفظ الثناء محتملا بحسب هذا الخلاف، حرر الناظم -رحمه الله - عبارته وبين مراده وقصده، فوصف الثناء بالجمال فقال: مستوجب ثنائي الجميلا ليظهر للعيان شكره لما صنع ابن معط، ومدحه له. والجميل اسم فاعل من جمل الرجل -بالضم - جمالا فهو جميل، وامرأة جميلة، وجملاء -بالمد - والجَمَال: الحسنُ، وهذا كله إقرار منه لابن معط بفضل السَّبقية، وأن لابن معط الفضل عليه من جهة كونه تابعا له، ومقتفيا أثره، وسالكا على طريقه، وهكذا الأر في نفسه، فإن السابق له فضيلة ظاهرة على غيره من اللاحقين، إذا كان اللاحق مهتديا بناره، مقتديا بفعله، فكانا كالإمام والمأموم.

    روى أن إسحاق بن إبراهيم لما صنع كتابه في النغم واللحون عرضه على إبراهيم بن المهدي فقال: لقد أحسنت يا أبا محمد وكثيرا ما تحسن، فقال إسحاق: بل أحسن الخليل، لأنه جعل السبيل إلى الإحسان، يعني بعلم العروض فقال إبراهيم: ما أحسن هذا الكلام! فممن أخذته؟ قال: من ابن مقبل، إذ سمع حمامة من المطوقات فاهتاج لمن يحب فقال:

    فلو قبل مبكاها بكيت صبابة ... بليلى شفيتُ النفس قبل التندم

    ولكن بكت قبلي فهاج لي البكا ... بُكاها فقلت الفضل للمتقدم

    وهو فضلٌ عند الكافة مرعى، وينضاف هاهنا إلى فضل شرعي نبه عليه قوله صلى الله عليه وسلم: من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ثم لما بين فضل السبقية عمل في ذلك بما يلزمه في مكارم الأخلاق من الثناء عليه والدعاء له، وأدى حق السابق من أجل ذلك، فحصّل الناظم بذلك أيضا فضل الأدب معه والإقرار له بالأفضلية، وهذه أخلاق أهل العلم والفضل، ثم أخذ في الدعاء له بقوله: (والله يقضي بهبات وافره لي وله .....) إلى آخره.

    معنى: يقضي بهبات يحتمها ويحكم بها، والهبات: العطايا والهدايا، الوافرة: الكاملة التي لا ينقص منها شيء، ومن كلامهم إذا عرض على أحدهم الطعام أو غيره أن يقول: تُوفر وتُحمد، أي لا يُنقص من مالك ولا من عرضك شيء على معنى الدعاء، وتُحمَدُ أي لازلتَ محمودا. والدرجات: المنازل بعضها فوق بعض ودرجات الآخرة أراد بها الجنة، أدخلنا الله إياها برحمته، وبدأ بالدعاء لنفسه، ثم لابن معط اقتداء بالسنة في أن يبدأ الإنسان بنفسه، ثم بمن يليه لقوله عليه السلام: ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول وأبين من هذا ما خرّج الترمذي، عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحدًا فدعا له بدأ بنفسه.

    الكلام وما يتألف منه

    الكلام في الترجمة على حذف مضاف، أراد: باب الكلام أو فصل الكلام، وهو خبر مبتدأ محذوف اختصار تقديره: هذا باب كذا، وأكثر المؤلفين يقتصرون على الخبر، ويحذفون المبتدأ اختصارا، لكن يبقون لفظ الباب فيقولون: باب كذا فاختصر الناظم ذلك هنا وفي سائر التراجم لعلم المخاطب ما يعني، و (ما) عبارة عن الكلم، وهي موصولة، والعائد عليها الضمير المجرور بـ من، والضمير المستتر في (يتألف) عائد على الكلام، أي وما يتألف الكلام منه.

    وهذا الباب مقدمة لابد من تقديمها قبل النظر في شيء من أبواب النحو، إذ لا يتحصل شيء من تلك الأبواب إلا بعد تحصيله، ومضمّنه بيان الكلام وأجزائه وتمييز بعضها من بعض، فأخذ في ذكر ذلك فقال:

    كلامنا لفظ مفيد كاستقم ... واسم وفعل ثم حرف الكلم

    واحدة كلمة والقول عم ... وكلمة بها كلام قد يُؤم

    لما كان الكلام ينطلق على أشياء لغة واصطلاحا، فيطلق في اللغة على القول بترادف، وينطلق على أيضا في اصطلاح المتكلمين على المعنى القائم بالنفس، ومراد الناظم -رحمه الله - حد الكلام في اصطلاح النحويين وهو مغاير لذينك الإطلاقين أخرجهما بقوله: (كلامنا) يعني كلام النحويين وهو المراد بضمير المتكلم ومعه غيره، أي كلامنا أيتها الطائفة النحوية كذا، وهو داخل فيهم، ولذلك أتى بضمير المتكلم ومعه غيره. وبعض اللغويين يطلق الكلام على الجمل المركبة المفيدة وهو الذي اختار ابن جني في تفسيره لغة، واحتج عليه في (الخصائص) فهو على هو في عرف اللغة موافق لإطلاق النحويين.

    وقوله: (لفظ) إتيان منه بالجنس القريب، والصوت أبعد منه: إذ الصوت ينطلق على مالم يتقيد بحرف بخلاف اللفظ، والإتيان بالأقرب أولى، واللفظ: ما نطق به الإنسان، وتحرز به مما ليس بلفظ، فيخرج الكلام في اصطلاح المتكلمين، وكذلك الإشارة لا تسمى عندهم كلاما وإن جاء ذلك في الشعر، وينشد النحويين عليه.

    أرادت كلاما فاتقت من رقيبها ... فلم يك إلا ومؤها بالحواجب

    أي فلم يكن الكلام غلا ومأها، والومء والإيماء: الإشارة، ولما كان اللفظ منه ما تحصل به فائدة كقولك: زيد قائم قام زيد، ومنه ما لا يحصل به فائدة كقولك: زيد، فأن المفرد لا إفادة له من حيث هو مفرد، وإنما هو حال خاصة، وكذلك قام هل، وهل زيد، وما أشبه ذلك وكان الأول هو الذي يسمى كلاما عند النحويين لا الثاني أخرجه بقوله: (مفيد). والمفيد: ما يحصل منه عند السامع معنى لم يكن عنده، وهذا التعريف جملى، وأما على التفصيل فالنحويين في تفسير الإفادة طريقان:

    أحدهما: أنها صلاحية اللفظ لأن يحصل منه عند السامع معنى لم يكن عنده، وذلك إذا كان فيه مسند ومسند إليه.

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1