Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الإنجيل بحسب بارنبا - بشارة عيسى عليه السلام بنبوة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإنجيل بحسب بارنبا
الإنجيل بحسب بارنبا - بشارة عيسى عليه السلام بنبوة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإنجيل بحسب بارنبا
الإنجيل بحسب بارنبا - بشارة عيسى عليه السلام بنبوة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإنجيل بحسب بارنبا
Ebook1,365 pages8 hours

الإنجيل بحسب بارنبا - بشارة عيسى عليه السلام بنبوة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإنجيل بحسب بارنبا

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

الإنجيل بحسب بارنبا بشارة عيسى عليه السلام بنبوة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ترجمة مقارنة جديدة ودراسة نقدية تحليلية تكشف حقائق جديدة في ديانة النصرانية القديمة وبشارة عيسى عليه السلام بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن مخطوطة بالإيطالية في المكتبة الوطنية بفيينا ومخطوطة بالإسبانية في مكتبة فيشر بسيدني. هذا الكتاب 112 عاما مضت على ظهور أول ترجمة إلجليزية لهذا الإنجيل المهم المثير للجدل. ولكن، هل كانت تلك الترجمة على المستوى العلمي المطلوب؟ هل نجحت ومثلها الترجمة العربية المنقولة عنها (دون الرجوع إلى المخطوط) فى فك رموز إنجيل بارنبا؟. في هذه الترجمة الجديدة المقارنة يتم للمرة الأولى الكشف عن الأصول القديمة لهذا الإنجيل، وإثبات الدليل النصي الدامغ علي أن أصلا أوليا له باليونانية قد تمت ترجمته إلى اللاتينية: وبعدها إلى الإيطالية والاسبانية، وأن ذلك كان ضمن سلسلة تاريخية مطولة من الإخفاء والتحريم التام. تسلط هذه الترجمة اليوم الأضواء على معطيات بالغة الأهمية في المخطوطتين: سواء من الناحية النصية أو العقائدية. ففيها يتجلى الجوهر الأقرب إلى حقيقة المسيح عليه السلام، وبعثته وانكاره الشديد لدعوة تأليهه الباطلة، وأنه رفع ولم يصلب. والجديد حسب المخطوطة الاسبانية التي ظهرت قبل 42 عاما: ما الذي كان يعرفه بطرس؟. كذلك من أهم محاور إنجيل بارنبا حول سيرة المسيح، حربه الضارية على اليهودية الهيكلية الفريسية. المنحرفة عن شريعة موسى: التي تمخض عنها التلمود فيما بعد. أما ما يتوج هذه الوثيقة النصرانية القديمة النقية: فهي بشارة المسيح عليه السلام بنبوة سيد البشر نيينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الدين الحق كما أنزله الله تعالى على سيدنا موسى ثم عيسى ثم محمد عليهم السلام إنما كان سلسلة مستمرة متوافقة متوائمة، لا انقطاع فيها، كان جوهرها ولحمتها وسداها: التوحيد!. العبيكان للنشر.
Languageالعربية
PublisherObeikan
Release dateJan 1, 2019
ISBN9786035090971
الإنجيل بحسب بارنبا - بشارة عيسى عليه السلام بنبوة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإنجيل بحسب بارنبا

Related to الإنجيل بحسب بارنبا - بشارة عيسى عليه السلام بنبوة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم

Related ebooks

Related categories

Reviews for الإنجيل بحسب بارنبا - بشارة عيسى عليه السلام بنبوة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الإنجيل بحسب بارنبا - بشارة عيسى عليه السلام بنبوة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم - يوسف الليوي القبرصي

    الغلاف

    شركة العبيكان للتعليم، 1443هـ

    فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر القبرصي؛ يوسف الليوي

    الإنجيل بحسب بارنبا./ يوسف الليوي القبرصي ، الرياض، 1441هـ

    ردمك: 1-097-509-603-978

    1- الدين – السعودية أ. العنوان ديوي 813٫039531 6659/1441

    حقوق الطباعة محفوظة للناشر الطـبعة الأولى 1443هـ/2022م

    نشر وتوزيع

    المملكة العربية السعودية – الرياض طريق الملك فهد - مقابل برج المملكة هاتف: 4808654 11 966 + فاكس: 4808095 11 966+

    جميع الحقوق محفوظة. ولا يسمح بإعادة إصدار هذا الكتاب أو نقله في أي شكل أو واسطة، سواء أكانت إلكترونية أو ميكانيكيـــة، بما في ذلك التصوير بالنسخ (فوتوكوبي)، أو التسجيل، أو التخزين والاسترجاع، دون إذن خطي من الناشر.

    فضل-بسم-الله-الرحمن-الرحيم.jpg

    قبل الشروع

    شاع لدى أكثر النّاس اسم مدوّن هذا الإنجيل: بَرْنابا، وهذا خطأ، فاسمه في الآراميّة: ܒܲܪ – ܢܒܼܐ (بارْ – نَبَا)، أي ابن الوعظ، أو النُّبوّة (من مصدر ܢܒܼܝܼܘܼܬܼܵܐ). ولذلك سأكتبه هنا بصورة أصحّ: بارْنَبا.

    وهذا كقولهم: بار يشوع، بار هبراوُس (ابن العبري). ويقابله في العربيّة: الابن البارّ. فما وجه حذف الألف الممدودة في قولهم: بَرنابا؟ ومن أين أتت الألف في مُفردة: نَبا، حتى صارت: نابا؟ الجواب: من اللفظة اليونانيّة: Βαρνάβας التي مدّت الألف الثانية هكذا: «بَرناباس». ومن غير المنطقي أن نلفظ اسمه بالصّيغة اليونانيّة، بينما الآراميّة أقرب إلى العربيّة قلباً وقالباً.

    Basmallah-4-White-940x454 - Copy.jpg

    ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾[الصّف: 6[

    الحمدُ لله، فاتحة كلّ خير، وخاتمة كلّ نعمة،

    الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيّدنا مُحمّد الصّادق الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:

    يكادُ لا يكون ثمّة مثقّفٌ عربـي أو مُسلم لم يُحِط بجانب - ولو يَسير - من قضيّة «إنجيل بارْنَبا»، وما أثاره ظهوره غير المتوقّع في مطلع القرن العشرين من تداعيات علميّة وإيمانيّة في عالمي الشّرق والغرب، بما يمسّ الدّيانتين الإسلاميّة والنَّصرانيّة على حدّ سواء. وكذلك نبأ العثور على مخطوطة سُريانيّة منه في تُركية أخيرًا. إنّ النّتيجة التي أدّى إليها ظهور هذا النّصّ الدّيني البالغ الأهميّة واضحة جليّة لا لُبس فيها: وهي أنّه يطرح البُرهان السّاطع على ذكر نبوّة سيدنا محمّد خاتم الأنبياء والرُّسل في الإنجيل، وعلى أنّ ما وصلنا من الأناجيل الأربعة (المُسمّاة بالقانونيّة) في المجمعين الكنسيّين المعقودين في كلّ من نيقية (325 م) وخَلقيدونية (451 م) إنّما هو مجالٌ لكثير من البحث، بما يُثبته مُحكم التّنزيل الإلهي في القُرآن الكريم حول مسألة التّبديل والتّحريف.

    مئة عام ونيّف مَضت على ظهور أوّل ترجمة إنجليزيّة لهذا الإنجيل المُثير للجَدَل. ولكن، هل كانت تلك التّرجمة على المستوى المطلوب؟ هل نجحت ومثلُها التّرجمة العربيّة المنقولة عنها (دون الرُّجوع إلى المخطوط) في فكّ رموزه؟ في هذه التّرجمة الجديدة، يتبصَّر القارئ بالجوهر الأقرب إلى حقيقة المسيح ، وبعثته وإنكارَه الشّديد لدعوى تأليهه الباطلة، وأنَّه رُفع ولم يُصلَب. والجديد بحسب المخطوطة الإسپانيّة: ما الذي كان يعرفه بُطرُس؟

    أيضًا في هذه التّرجمة العربيّة الجديدة المُقارَنة، يتمّ للمرّة الأولى الكشف عن الأصول القديمة لهذا الإنجيل، وإثبات الدّليل النَّصّي على أنّ أصلًا له باليونانيّة قد تمّت ترجمتُه إلى اللّاتينيّة، وبعدها إلى الإيطاليّة والإسپانيّة، وأنّ ذلك كان ضمن سلسلة تاريخيّة مطوّلة من الإخفاء والتَّحريم التّام.

    هذه التّرجمة اليوم تسلّط الأضواء على مُعطيات بالغة الأهمّيّة ترد في متن المخطوطتين، سواءٌ من النّاحيّة النَّصّيّة أو العقائديّة. ومن أهمّ محاورها حول سيرة المسيح حربُه الضّاريَة على اليهوديّة الهيكليّة الفريسيّة المُنحرفة عن شريعة مُوسى ، والتي تمخّض عنها التَّلمود فيما بعد.

    أمّا ما يتوّج هذه الوثيقة النَّصرانيّة القديمة النَّقيّة، فهي بشارة المسيح بنُبوّة سيّد البشر نبيّنا مُحمّد . وأنَّ الدّين الحَقّ كما أنزله الله تعالى على سيّدنا مُوسى ثمّ عيسى ابن مريم ، ثمّ سيّدنا محمّد ، إنّما كانت سلسلة مُستمرّة مُتوافقة مُتوائمة لا انقطاع فيها، وكان جوهرُها ولُحمتُها وسُداها: التَّوحيد!

    * * *

    بدأت المسألة برمّتها تحديدًا قبل قرن كامل وأحد عشر عاماً، عندما نُشر للمرّة الأولى نصٌّ لإنجيل كان يُعدُّ من قبل بحكم الضّائع، وكان ذِكرُه في بعض الوثائق القديمة يأتـي مُقترنًا بالغُموض. فعام 1907 م، قام القسّ الإنجليزي لونسْدايل راڠ Lonsdale Ragg وزوجته لورا ماريّا Laura-Maria بترجمة نصّ مخطوطة إيطاليّة تعود إلى خاتمة القرون الوسطى وتحقيقها ونشرها، بعنوان أثار جدلًا ولَغَطًا بالغين آنذاك. كان عنوان الكتاب:

    = THE GOSPEL OF BARNABAS =

    وللقارئ الكريم أن يتصوّر مدى الشَّغف العلمي والدّيني الذي استولى على نفوس المثقّفين للاطّلاع على محتويات هذه الوثيقة النّادرة. فماذا أضافت على صعيد معارفنا عن الإنجيل وعن المسيح ؟ والأهمّ من ذلك: ما هي علاقتها بنبيّنا محمّد ، وبمَ تذكره فيما سكتَ التُّراث المسيحي قرونًا؟

    الواقع أنّ فوائد هذا السِّفر الثّمين جَمّة، وفي مقدّمتها الإثباتُ النّصّي لمصداقيّة قُرآننا الكريم، المعجزة الإلهيّة الدّائمة الموجّهة للبشر، كلّ البشر.

    فحول مُعجزة حفظ نصّ القرآن، ما زال السّؤال الأزلي يدور ويكرّر نفسه على مدى القرون دون انقطاع: هل الأناجيل الأربعة، ومثلها في ذلك أسفار اليهود القديمة، وحيٌ سماوي مُنزل بنصّه وحرفيّته التّامّة المُنزّهة، كما هو القُرآن الكريم؟ أم هل هي «كتب تُعدّ مُقدّسة نظرًا إلى قيمتها الإكليركية»، قام بتحرير مُتونها بشر عاديّون؟ بمعنى أنها استندت، عبر التّواتر الشّفهي، إلى أحداث محدّدة جرت في عصور معروفة ومؤرّخة، لتروي (على لسان كَتَبتها ومؤلفيها) ما جرى من أحداث وقعت للرُسُل والأنبياء، وما تم تداوله من أقوال نطقتها أفواههم، وتناقلتها الأسماع والألسُن حتى وصلت إلى نصوص هذه الكتب المقدّسة، وذلك دون أن يكون تحريرها بالأصل قد تم مباشرةً على أيدي هؤلاء الرُّسل أنفسهم!

    هذا التّساؤل كبير ومهمّ وبالغ الحساسية بغير شك، ولكن الأكبر منه والأهمّ هو النّتيجة الكبرى، التي يمكن للباحث المُنصف أن يخرج بها عقب التّدارس الطّويل والممحِّص للكتب المقدّسة التّابعة للدّيانات السَّماوية الثّلاث (اليهوديّة - المسيحيّة - الإسلام)، شريطة أن يكون ذلك بلغاتها الأصلية: العبريّة، واليونانيّة، والعربيّة. وهي: «التَّوراة» المُنزلة على سيّدنا موسى ، و«الزَّبُور» المُنزل على النّبي داود ، و«الإنجيل» المُنزل على سيّدنا عيسى ، و«القرآن الكريم» المُنزل على سيّدنا محمّد ، رسالة الإسلام وخاتمة الوحي الإلهي للبشر.

    هذه النّتيجة الكبرى ليست سوى الحقيقة السّاطعة والمُعجزة الباهرة، التي تقف أمامها العُقول والنّفوس مأخوذةً ومبهورةً وعاجزةً عن المُدافعة والرّدّ، ألا وهي أنّ «القُرآن الكريم» بمفرده، بآياته الكريمة وصُحُفه المطهّرة، يقف نسيج وحده بلا مُنازع، صافيًا منزّهًا كاملًا مُبرًّأ، كما أوحت به الذّات الإلهيّة بالتّنزيل الحرفي الدّقيق الكامل والمحفوظ، دون أدنى تغيير أو تحريف أو تضادّ ترجمة، ودون أدنى يَد أو رأي أو اجتهاد لبشر، على مدى أربعة عشر قرنًا مضتْ، وقرونٍ ستأتـي لا يعلمُ عِدّتها إلا الله. وهو رُوح حضارتنا وعِمادُها الأكبر.

    أمّا حول موضوع «إنجيل بارْنَبا»، فأُضيف: من خلال اهتمامي بإعداد دراسة علميّة حول هذا الإنجيل، قمتُ باستطلاع موادّ كثيرة عنه في شبكة الإنترنت فهالَني أن أُطالع ردودًا وهجمات مُغرضة، لم تكتفِ بمحاولة نقض مصداقيّة هذا الإنجيل فحسب، بل راحت تلجأ إلى أساليب وعبارات ينقصها الكثير من الموضوعيّة!

    فلمّا قرأتُ بعض ما جاء في هذه المواد، عقدتُ العزم على بذل غاية الجهد العلمي، للتّحقُّق إن كان هذا الإنجيل بالفعل وثيقة أصيلة ذات قيمة، تظهر فيها حقيقة نبوّة سيّدنا محمّد وتثبت فيها مُعجزة «القرآن الكريم» الخالدة، وأنه الوحي الإلهيّ الوحيد المنزّه والمحفوظ، وأنّه دعوة الله الدّائمة لبني البشر أجمعين لكي يؤمنوا ويتّبعوا الحقّ بدين الإسلام الحنيف.

    وبمجرّد أن بدأتُ بمطالعة الدّراسات الغربيّة (العلميّة الرّصينة منها)، لاحظتُ مجموعةً من الإشكاليّات العلميّة واللّغويّة حول نصّ «إنجيل بارْنَبا» ومخطوطيه الباقيين (مخطوط الأصل بمكتبة ڤيينّا الوطنية، العائد إلى القرن السّادس عشر، ومخطوط مكتبة فيشر بسيدنـي العائد إلى القرن الثّامن عشر، الذي عُثر عليه أخيرًا في السَّبعينيّات). فعلى الفور تبادر إلى ذهني السّؤال التّالي:

    ما هي مصداقيّة التّرجمة الأولى للإنجيل (بالإنجليزيّة) عن نسخة ڤيينّا الأم المكتوبة باللّغة الإيطاليّة؟ هذه التّرجمة التي أشرتُ إليها أعلاه، وقام بها لونسْدايل راڠ وزوجته لورا Lonsdale & Laura Ragg، وصدرت عن مطبعة كلارندون پرِسّ Clarendon Press في أُكسفورد عام 1907 م.

    والسّؤال الأهمّ هنا:

    جميع الدّراسات العربية التي تناولت «إنجيل بارْنَبا»، قد رجعت ولا تزال إلى مصدر أوّلي وحيد لا ثانـي له، هو التّرجمة العربيّة لنصّ الزّوجين راڠ، التي قام بها الطّبيب اللّبنانـي الأرثوذوكسي خليل سعادة (عن التّرجمة الإنجليزيّة دون أصلها الإيطالي)، فصدرت بمصر عام 1908 م بمطبعة مجلة المنار مع مقدّمة للسّيّد محمّد رشيد رضا صاحب المجلّة، ثم أُعيد نشرها ثانية عام 1958 م.

    أفلا يُلاحظ المرء نقصًا فادحًا في الأمر على الصّعيد العلمي؟ فإلى اليوم نستند إلى ترجمة ناقصة مبتورة، لم تعتمد الأصل الإيطالي بل ترجمته الإنجليزيّة وقد مضى على زمن صدورها اليوم 111 عامًا، ظهرت خلالها عشرات البحوث النّقدية والتّرجمات والدّراسات (الجادّة منها والمُجرّحة).. هذا فضلًا عن العثور على نسخة مخطوطة جديدة في مكتبة فيشر بأُستراليا!

    علينا دومًا أن نلاحظ أمرًا جوهريًا: إنّ لترجمة النّصوص المخطوطة القديمة أصولًا لا ينبغي تعدّيها بأيّ شكل، وإلّا كان البحث ضعيفًا لا يرقى إلى مستوى العمل الأكاديمي الجادّ. فما بالك بترجمة نصٍّ خطيرٍ كهذا الإنجيل؟! إنّ من أدنى معايير التّرجمة الصّحيحة الرّجوع إلى جميع المخطوطات المتوافرة أولًا، ثم تحقيق المتن بالكلمة والعبارة والحرف، بنصّ لغته الأصليّة (هنا الإيطاليّة)، مع وجوب مُقارنته بالمخطوطة الإسپانيّة التي كتبها مُصطفى دي آراندا Mostafá de Aranda (من آمبيل Ambel بإقليم آراغون Aragon في إسپانيا)، في نُسختيها: الأولى التي حازها بعض علماء أوروپا وضاعت، والثّانية التي ظهرت بمكتبة فيشر.

    ثم إنّ ما نُسبت كتابته من هوامش عربية إلى رجل دين مُسلم تركي في تُركية أو قُبرُص إنما هو غايةٌ في الخطأ، لسببين: أوّلًا أن الرّكاكة اللُّغوية وأغلاط النّحو الواردة في هذه الحواشي ليست تدلّ على الإطلاق على نكهة تركيّة (كمسألة تأخير الاسم المُضاف عن المُضاف إليه، والتّصحيف اللّفظي، وهلُمّ جَرّا)، فللتُّركيّة مذاهب لغوية ونحويّة مُغايرة تمامًا. ثم إنّ القلم اليابس في الكتابة لا يمكن أن يكون كتبه رجل دين مُسلم تركي، إذ إنّ التُّرك قد برعوا في فنون الخط العربـي أيّما براعة، ووصل هذا الفن بين أيديهم في القرن السّادس عشر (زمن نسخ المخطوط) وما تلاه إلى أوجه ونهاياته في الرّوعة والإتقان.

    هذه الادّعاءات جاء بها لونسْدايل ولورا راڠ وتبعهما سعادة، فرأيتُ أنّ من الواجب إعادة دراستها بشكل نقدي صحيح. والذي أراه (وأنا أجيد التُّركيّة) أنّ كاتب الحواشي كان رجلًا إيطاليًا أسلم بعدما قرأ نصّ «إنجيل بارْنَبا»، وكتب ما كتب بروح مُتعمّقة في الإيمان بنبوّة سيّدنا محمّد وبصدقيّة القرآن. ولا يبعد أن يكون ناقلًا بالحرف عن الرّاهب الإيطالي مارينو Fra Marino.

    قُصارى القول: إنّ إعادة تعريب «إنجيل بارْنَبا» البالغ الأهميّة تبقى مطلبًا كبيرًا لرفع قيمته العلميّة من جهة ومحتواه الدّيني من جهة أخرى، وتفنيد مزاعم مَن يقولون ببُطلانه (ومنهم مُسلمون: عبّاس محمود العقّاد ومحمّد شفيق غربال)، وإثبات البشائر بنبوّة سيّدنا محمّد ، في كتب الوحي السّماوي كلّها قبل أوان بعثته الشّريفة بقرون مديدة. هذا بغير الحاجة إلى مُهاجمة أديان الآخرين، بل بالتّأكيد على أنّ دين الإسلام إنّما هو دين الحقّ أوّلًا، ثم هو دين الحوار والانفتاح، والدّعوة الدّائمة لكلّ البشر إلى الإيمان والإسلام لربّ العالمين .

    واجبٌ كبير كان أمامي في هذه المهمّة الصّعبة والحسّاسة، لكنّني - بحمد الله تعالى - لم أدّخر في سبيله أيّ جُهد. واليوم، بعد سنوات طويلة من العمل الدّؤوب والمُضني، مع 4 رحلات إلى جامعات أوروپا لتحصيل المراجع العلميّة النّادرة، والغوص في أعقد متاهات المسائل اللّاهوتيّة والكلاميّة ولُجّة السِّجال النّقدي الذي يطرحه البحث، في عدد كبير من المراجع ضمن 12 لغة.. أنظر أخيرًا إلى حصيلة عملي بعين الرّضا، وأفخر بتقديمه إلى أمّتنا الإسلاميّة، آملًا أن يكون فيه الفائدة والباعث على مزيد من الدّراسات العلميّة الجادّة حوله.

    كانت غايتي الرّئيسيّة من هذه التّرجمة المُقارنة التّثبُّت إنّ كان بارْنَبا صاحب الإنجيل حَواريًّا مُعاصرًا للمسيح ، وليس واحدًا من يهود الأندلس المارّانوس Marranos تنصّر ثم أسلم فألّف الكتاب، أو مُسلمًا شاء الطّعن في الدّين المسيحي، إلى ما هنالك من هذه الأقاويل.. هنا نسأل مَن ادّعى ذلك: إذن فسّروا لنا.. لماذا لم يلجأ المسلمون (أو اليهود) في أيّة مناسبة إطلاقًا إلى الإلماع بذكر هذا الإنجيل في سِجالاتهم الدّينية مع النّصارى، إن كان حقًا من وضعهم؟! وذلك على غرار ما رأيناه في كتاب السّموءَل بن يحيى المغربـي: «بذل المجهود في إفحام اليهود».

    تمّت الغاية أوّلًا عبر تحليل لغة النّصّ، وتَوافُقها الجمّ مع الأصل الآرامي المُفترض (اللّغة السّائدة في عصر المسيح )، مع مقارنة الكمّ المعرفي لصاحب النّصّ وما يمكن أن يُنسب إليه من حقبة زمنيّة، فمعرفته النَّقليّة مثلًا بمفردات التّوراة والهَجَداه تدلّ على ترجيح كونه من حَواريي المسيح، وهم أصلًا من اليهود المُتمرّسين بالشّريعة (التّوراة)، ويُجيدون العبريّة المَشوبة بالآراميّة آنذاك.

    أمّا حول آليّة عملي: فلقد عمدتُ إلى جمع الأصول المخطوطة كلّها من مَظانّها الأصليّة، مع جميع الدّراسات والتّرجمات الصّادرة حديثًا. ولإثبات مصداقيّة النّصّ عمدتُ إلى تحليله لغويًّا ونصّيًّا ومعرفيًا، على ضوء العلوم الآتية:

    - علم الفيلولوجيا: Philology (فقه اللّغة).

    - علم النّقد النَّصّي: Textual-criticism (دراسة النُّصوص القديمة).

    - علم اللّسانيات اللّغويّة المقارنة: Comparative Linguistics.

    - علم الاشتقاق اللّغوي: Etymology.

    - علم اللّاهوت والكريستولوجيا: Theology & Christology.

    - علم الأنطولوجيا: Anthology (المرويّات الأدبيّة).

    - علم الطّپوغرافيا التّاريخيّة: Historical Topography.

    - علم الطّوپونوميا: Toponymy (دراسة أسماء الأماكن).

    - علم التّاريخ الحَولي: Chronology.

    وعند ترجمة النّص وتحريره، اعتمدتُ متنَي المخطوطين الإيطالي والإسپانـي، وقمتُ بمقارنة ذلك بنصوص الأناجيل الأربعة (باليونانيّة) والإلماعات التّوراتية (بالعبريّة من التّوراة المَسُوراتيّة)، وما ورد منها مُستنسخًا بلفظ الڤولجاتِه (بنُسخها اللّاتينيّة المختلفة)، ثمّ مقارنة لغة النّصّ وأساليبه التّعبيريّة بلغته الأصليّة الأولى (الآراميّة). وهذا كلّه على غرار ما كنتُ فعلته في كتابـَي: «تطوّر الإنجيل» (صدر 2003 م)، و«التّلمود كتاب اليهود المقدّس» (2006 م).

    * * *

    الغريب كما يُلاحَظ أنّ الدّراسة العربيّة النّقديّة الأشهر حتى يومنا هذا عن «إنجيل بارْنَبا» إنما هي التي صدّر بها خليل سعادة ترجمته القديمة عام 1908 م، علمًا أنها منقولة جُزافًا عن راڠ ولا تأتـي بجديد! أيُعقل ذلك؟ هذا شيء عجيب! كم يحسّ المرء بفداحة الفارق عندما يقارن ما يرد عن «إنجيل بارْنَبا» بالعربيّة على أديم الإنترنت وبين ما يطالعه من بحوث أجنبيّة مُهمّة حول الموضوع، تضمّ مُعطياتٍ جديدة موثّقة وبحوثًا علميّة جادّة رصينة تصل إلى أعلى المستويات الأكاديميّة.

    فأولًا: أغلب الدّراسات العربية المتاحة فيها تكرار للأفكار العتيقة الواردة في المقدمة المُبتسرة التي كتبها سعادة.. يندر جدًا العثور على فكرة أو خبر أو حتى مجرّد رأي يتّسم بالأصالة أو الجدّة. أوَليس هذا بغريب؟ لماذا لم يتصدَّ لهذه المهمّة أحد من باحثينا، وهو بهذه الأهميّة والخطورة البالغة؟!

    ثانيًا: لما راجعتُ البحوث الأجنبيّة حول الموضوع، أمضيتُ في ذلك أكثر من أسبوعين وأنا أتنقّل من بحث إلى دراسة، ومن ترجمة جديدة إلى نظريّة جريئة، ومن خبر اكتشاف مخطوط جديد في أُستراليا إلى خبر اكتشاف مخطوط سُريانـي أقدم يتّصل بـ «إنجيل بارْنَبا» في تُركية¹، فأين جهودنا نحن من ذلك كلّه؟!

    أحصيتُ حتى الآن 12 ترجمة للإنجيل المذكور، مع أكثر من 24 دراسة وافية عنه بكل من: الإنجليزيّة، والإيطاليّة، والإسپانيّة، والفرنسيّة، والتُّركيّة، والألمانيّة، والهولنديّة (وحصلتُ على بعضها)، هذا غير الفارسيّة، والأورديّة.

    * * *

    مع ذلك: فالباقي أمامنا من مجال، للإدلاء بدلونا في هذا المجال الحيوي، قد نراه أكبر ممّا فاتنا، وعملًا بقاعدة «ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جُلُّه»، تابعتُ بكلّ طاقة وتوخّيتُ الدّقة والأمانة العلميّة، فأرجو أن أكون نجحت. أمّا لماذا لم يتصدَّ لهذه المهمّة أحدٌ إلا بعد 111 سنة من صدور الطّبعة الأولى وترجمتها العربيّة (الرّكيكة)، فأمرٌ عجيب غير مفهوم!

    وثمّة مهمّة تبقى ضروريّة لاستكمال هذا العمل الحاضر، ألا وهي الاطّلاع على المخطوطة السُّريانيّة القديمة التي عُثر عليها في شرقي تُركية، وقيل إنّها نسخة قديمة من «إنجيل بارْنَبا»، بينما أشكّ في أن تكون نسخة من «إنجيل متّى الآرامي»، وفي الحالتين لا ريب أنّها فرصة نادرة للبحث، أرجو أن أوفّق إليها.

    * * *

    الآن، كيف نقيّم ترجمة راڠ وترجمة سعادة؟

    هذا الإنجيل الذي بين يديك أخي القارئ ليس مجرّد كتاب قديم في أصول العقيدة النَّصرانيّة، بل هو وثيقة نفيسة، شقّت طريقًا وعرًا محفوفًا بالمآزق ومحاولات الطّمس المُستميتة كيلا تصل إلى النّور، فوصلت.

    وما أذكره هنا لا ينطبق فقط على مراسيم المَنع والتّحريم، التي كبّلته عبر سبعة عشر قرنًا بقيود ثقيلة، ولا بإخفاء نسخه المخطوطة والمطبوعة قديمًا وحتى في عصرنا (كما سنرى في الصّفحة التّالية).. وإنما الغريب الآن أنّه حتى في طبعتيه القديمتين (راڠ وسعادة) بُذلت جهود استثنائيّة، هذه المرّة لا لمنعه من الصّدور، بل لإظهاره بمظهر الوثيقة المزيّفة، الطّافحة بنُقاط الضّعف، وبالأخطاء العقائديّة والجغرافيّة والتّاريخيّة والمنطقيّة، وحتى في تراكيبه اللّغويّة.

    ومن خلال ما كتبه راڠ في مقدّمته المطوّلة (77 صفحة) وتبعه سعادة، يُنظِّر الرّجلان أنّه كتابٌ لا بدّ أنّ واضعه رجلٌ يهودي تنصّر أولًا ثم أسلم، وشاء الطّعن في المسيحيّة فألّفه في إسپانيا مُستقيًا من الكوميديا الإلهيّة لدانتِه ومن سواها.. ومتى؟ في أثناء حَومة محاكم التّفتيش، التي كانت تُعاقب بالحرق كلّ من نَطقَ بحرف يُخالف الكثلكة. أهذا يُعقَل؟!

    ولم يكتفيا بذلك، بل راحا يتصرّفان في ترجمة النّصّ بغير وجه حقّ، فيُقحمان فيه - والعياذ بالله - بكلمات نابية على لسان المسيح الطّاهر، لإظهاره بمظهر البعيد عنه كلّ البُعد، بافتراء واضح! وسُرعان ما انثال العشرات يكيلون الهجوم لإنجيل بارْنَبا ومصداقيّته. فلنسألهم: هل حاول أيٌّ منكم الرّجوع إلى المخطوطين الأصليين، ليفنّد هذا الكلام؟!

    لذلك كلّه أعَدتُ التّرجمة، ومرّ إنجاز الكتاب بدوّامة مُضنية جدًا من البحث والمتابعة، في تحصيل أصوله المخطوطة وطبعاته القديمة النّادرة، ثمّ في بذل غاية الطّاقة لترجمته وتحقيقه وتبيان غوامضه بالشّرح والنّقد.

    * * *

    فما سرُّ هذا الإنجيل، ولمَ هذه التّرجمة؟

    منذ اللّحظة الأولى التي شددتُ فيها العزم على إعادة نشر الإنجيل بمستوى علمي رفيع، ورحتُ أطوف على مواقع الإنترنت المختلفة أستطلع الآراء والنّقد والأبعاد الأيديولوجيّة المتباينة حوله، وَقَرَ في ذهني - كأيّ باحث جادّ - أن أُبادر في البداية إلى جمع الأصول المخطوطة للنّصّ.

    هنا كانت المفاجأة: أحجمت مكتبة هُوف بيبليوتيك Hofbibliothek في ڤيينّا عن الرّد على مُراسلاتـي، ولا بشكل من الأشكال.. مرّة، مرّتين، ثلاثًا، أبدًا! طفقتُ أبحث عن نسخة قديمة من طبعة راڠ الأولى (1907 م)، فراعَني أنْ لا أثر لها أبدًا في المكتبات الكبرى! حاولتُ في المكتبة الوطنيّة بپاريس، مكتبة چستر بيتي بدَبلن، دار الكتب بالقاهرة ومكتبات جامعة القاهرة وعين شمس والإسكندريّة، مكتبة الجامعة الأمريكيّة في بيروت.. لا أثر يُذكر!!

    أخيرًا، أسفر البحث المُضني عن العثور على نسختين فقط: في مكتبة المتحف البريطانـي The British Library، ومكتبة الكونجرس The Library of Congress. ثمّ كم سُررتُ بعثوري على نسخة نادرة للغاية معروضة للبيع في مؤسّسة Alibris للكتب النّادرة، ولكن لم أكد أراسلها حتى جاء الجواب: مع الأسف، بيعت!

    هذا من جهة، ومن جهة أخرى رغبتُ في الاطلاع على طبعة د. سعادة القديمة (القاهرة 1908 م)، ولا بأي شكل من الأشكال! هناك عمليّة طمس وإبادة تامّة ناجزة وواضحة تعرّض لها هذا الكتاب بطبعتيه القديمتين.. ثمّة مَن لا يريد أبدًا أن يطّلع على هذا الكتاب أحد.. فلماذا؟ أظنّ أن الصّورة بدأت تتّضح!

    أخيرًا - بعد غاية الإصرار والدّأب - عثرتُ على غايتي المنشودة: فنسخة مكتبة فيشر تمّت الموافقة على نَسخها من قسم المخطوطات والوثائق النّادرة (والشّكر للدّكتور Neil Boness)، ومخطوطة مكتبة ڤيينّا عثرتُ على رَوسَم كامل عنها في المكتبة الوطنيّة بپاريس La Bibliothèque Nationale، وطبعة راڠ الأولى حظيتُ بصورة عنها من مكتبة جامعة تورونتو Toronto بكندا، وأمّا طبعة سعادة الأولى فظفرتُ منها بميكروفيلم فريد في الجامعة الأمريكيّة ببيروت.

    ثمّ علمتُ أنّ مخطوطة ڤيينّا آلت إلى مُتحف Kaiserliche Schatzkammer بقصر Hofburg. كانت رحلة الكتاب طويلة وعسيرة ومُضنية، فهل أثمرت؟ يكفي أن أشير إلى بضعة رؤوس أقلام صغيرة، وأتمنّى من القرّاء الأكارم على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم الفكريّة أن يرفدونا بآرائهم التي نكنّ لها كل احترام وتقدير. فنحن لا ريب إخوة: في بشريّتنا إخوة وفي إيماننا إخوة، وهذا أكثر من كافٍ لكي نتبادل الآراء والأفكار، وبكلّ محبّة.

    فهذا الإنجيل، بترجمته الجديدة، يرسم صورة جديدة للمسيح ، هذا الإنسان النّقيّ الطّاهر المكرّم، وهي لا شكّ صورة مغايرة في كثير من رُموزها لما هو مألوف لدى المسيحيين: «أهو بشر فقط، أم له طبيعة فوق بشرية»؟ ولكن، إذا أجّلنا بحث هذه المسألة الآن، فها هو ذا النّبيُّ، بصفاته الإنسانيّة النّبيلة يظهر بأروع ما تكون سجايا الطُّهر وأخلاق النبوّة، معلّمًا وأيّ معلّم، أخًا ونِعمَ الأخ، مثالًا رُوحيًا وخُلقيًا فريدًا في صيرورة علاقة التّوحيد بين الله والبشر، الخالق والخليقة. يتكلّم بهَدي الله فيأسر القلوب والعقول.

    والأجمل، عندما يعمد المرء إلى قراءة هذا النّص برُوح مُتجرّدة، متحرّرة من جُمود العبارات وحرفيّة الصّيغ التي اعتادها مُسبقًا، ويستشفّ النّصّ كمحاولة جديدة لفهم هذه الرّسالة النّبيلة: رسالة المسيح .. إذا به يلمح ترميزاتٍ جديدة، ويبدأ باكتشاف خيوط لم تكن من قبل مترابطة: فما هي علاقة رسالة موسى بالمسيح ؟ ومن هم اليهود المعاصرون له؟ هَلّا أدركنا أنّ المسيح كانت ثورته لا على شريعة موسى، بل ضدّ اليهوديّة الفَريسيّة الهَيكليّة التي انقلبت على شريعة موسى إلى شريعة الحاخامات الشّفويّة؟!

    ثمّ كيف نستطيع أن نفهم أنّ المسيح المُشيد (في جميع الأناجيل) بكل إجلال بشريعة نبيّ الله موسى، يُمكن له أن ينقُض جوهر عقيدة التّوحيد السّابقة ويلغي أهمّ وصاياها العشر (التّوحيد)؟!! هذا يعسُر للغاية فهمُه. تمعّن أخي القارئ في شخصيّته الآسرة بعدما أُميط عنها الرُّكام من التّآويل والتّرجمات، تتبيّن ألَقَها الأصيل النّقي والنّبيل. وستُحبّ المسيحَ ، بَشرًا نبيًّا عابدًا طائعًا موحِّدًا، يعوذُ عن الإشراك بالفَرد الصّمَد، ربّ الكون القُدّوس جَلّ جلالُه.

    ما إنجيل يَهوداه؟، وما علاقته بإنجيل بارْنَبا؟

    كثيرون منّا سمعوا في ربيع عام 2006 بإنجيل يَهوداه (أو كما يُسمّى بالعربيّة بصيغته الآراميّة: يَهوذا)، أو بالإنجليزيّة: The Gospel of Judas. فما حكاية هذا الإنجيل الجديد والمثير؟ ما سرّ كل ذلك الاهتمام الضّخم الذي ناله؟ وهل له علاقة بإنجيل بارْنَبا هذا الذي بين أيدينا؟

    الجواب: نَعَم، كلّ العلاقة وكلّ الصّلّة.. هذا الإنجيل القبطي الذي عُثر عليه بمصر في السّبعينيات يعود إلى القرن الثّالث الميلادي، ويكشف عن واقعة جدّ خطيرة تتطابق مع ما يذكره إنجيل بارْنَبا (وما ينصّ عليه القُرآن الكريم)، أنّ الصّلب إنّما وقع على «يَهوذا» وليس على المسيح ! هذه حقيقة مهمّة للغاية ونعدّ أن من أخصّ واجباتنا الآن عرض نُبذة تعريفيّة عن هذا الإنجيل الجديد، إلى جانب «إنجيل بارْنَبا»، وربط مُعطياتهما المُبهرة معًا بشكل علميّ سليم.

    هذه كلّها خطوات أولى على درب مشروع علمي كبير وطموح، أسعى بغاية الجُهد إلى القيام به بوصفه فرض كفاية: ترجمة علميّة لإنجيل يهوداه - دراسة تحليليّة لإنجيل بارْنَبا - ترجمة التَّلمود البابلي - ترجمة المِدراش.

    * * *

    في الختام، إذ نقدّم ترجمتنا العلميّة لهذا السِّفر الفريد والثّمين، ما أجدرنا أن يسمو في نفوسنا إشراقُ كتابنا المكرّم «القرآن الكريم» كلمة الله الخالدة، فنردّد الآية الكريمة: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9[. وما أحرانا بعدُ أن نقول إنّ بارْنَبا الحواريّ الأمين، تلميذ المسيح ، قد استحقّ وبكلّ جدارة معنى اسمه بالآراميّة بَرنَبا: «ابن النُّبوّة» أو الوعظ!

    وفوق كلّ ذي علمٍ عَليم، والحمدُ لله ربّ العالمين.

    24 محرّم 1440 هـ د. أحمد إيبش

    ما «الإنجيل»؟ تاريخه وأقسامه المختلفة

    يتألف «الكتاب المقدّس» لدى المسيحيين ممّا يسمّى لديهم: «العهد القديم» و«العهد الجديد». أمّا الأول فيحتوي على أسفار اليهود التي يقدّسها المسيحيون أيضًا، وهي مكتوبة أصلًا باللّغة العبرية. بينما يضمّ الثّانـي ما يقدّسه المسيحيون وحدهم من نصوص، كُتبت أصلًا باللّغة اليونانية.

    و «العهد القديم» يتألف من ثلاثة أقسام²، هي على التّوالي:

    أسفار «تُوراه» תורה (الشّريعة)، 5 أسفار: التّكوين، الخـُروج، اللّيويين، العَدَد، التّثنية، وجميعها يُنسب إلى موسى النّبي . وأسفار «نبيئيم» נביאים أي الأنبياء (ومنها أسفار ذات محتوى تاريخي)، وهي 21: يشوع، القضاة، صَمُوئيل الأول والثّانـي، سفرا الملوك الأول والثّانـي، إشَعياه، إرِمْياه، حزقيال، هُوشَع، يُوئيل، عاموس، عُوبَدياه، يُوناه، ميخايا، ناحُوم، حَبَقّوق، صَفَنياه، حَجّاي، زكريّا، مَلاخيا. ثم الأسفار التّاريخية والأدبية «كتوبيم כתובים» (المدوّنات) 13 سفرًا: أخبار الأيام الأول والثّانـي، المزامير، أيّوب، الأمثال، راعوت، نَشيد الأنشاد، الجامعة، مراثي إرِمْياه، سفر إستير، دانيال، عِزرا، نِحِمْياه.

    وإطلاق المسيحيين على أسفار اليهود هذه مُجتمعةً تسمية «العهد القديم»، يحمل في المفهوم اللّاهوتـي المسيحي معني الميثاق الذي حدّد العلاقة الخاصّة بين الله و«شعبه المختار». ويقابل ذلك المصطلح «العهد الجديد»، وهو الذي جرى - في المفهوم اللّاهوتـي المسيحي - بين الله والعالم أجمع، من خلال موت المسيح على الصّليب ليفتدي البشر (بحسب اعتقادهم).

    أمّا «العهد الجديد»، الذي هو الجزء الخاص حصرًا بالمسيحيين من «الكتاب المقدّس»، فيتألّف من أربعة أسفار تسمّى «الأناجيل»³، ويليها سفر «أعمال الرُّسُل»، ثم «الرّسائل» (ومجموعها إحدى وعشرون رسالة، ثلاث عشرة منها بقلم بولس الرّسول)، وأخيرًا سفر «رؤيا يوحنّا اللّاهوتـي» الموجّه هو أيضًا على شكل رسالة من «يوحنّا إلى سبع الكنائس التي في آسيا» (أي في بلاد الأناضول، والتّسميّة يونانيّة Ἀνατολή «أناتولي» تعني المشرق).

    والأناجيل الأربعة من «العهد الجديد» تحمل أسماء اثنين من تلاميذ المسيح: متّى ويوحنّا، واثنين من معاونـي بولس الرّسول: مَرقُس ولوقا⁴. وموضوع هذه الأناجيل سيرة المسيح، يضاف إليها سفر «أعمال الرُّسُل» الذي يتحدّث عن أحوال تلاميذ المسيح وأفعالهم من بعده. والواضح أنّ سفر «أعمال الرُّسُل» جاء بالقلم نفسه الذي صدر عنه إنجيل لوقا، وهو الموجّه على شكل رسالة إلى «العزيز ثاوفيلُس»، كما هو الواقع بالنّسبة إلى سفر «أعمال الرُّسُل» حيث المقدّمة تقول: «الكلام الأول أنشأتُه يا ثاوفيلُس عن جميع ما ابتدأ يسوع يفعله ويُعلّم به، إلى اليوم الذي ارتفع فيه». ثم ينتقل الكلام إلى ما حصل لرُسُل المسيح من بعده.

    والرّأي السّائد بين علماء «العهد الجديد» اليوم، أنّ كتابة الأناجيل الأربعة ابتدأت قبل عام 70 للميلاد بقليل، وانتهت مع نهاية القرن الميلادي الأول أو بداية الثّانـي. ومن الباحثين من يعدّ أنّ إنجيل متّى أقدم الأناجيل الأربعة، وأنّ من ضمن محتويات إنجيل يوحنّا ما هو أقدم من إنجيل مَرقُس، ممّا يعني أنّ نصًّا بدائيًا من إنجيل يوحنّا كُتب أصلًا قبل إنجيل مَرقُس، ثم أُعيدت كتابته مع إضافات إليه في وقت لاحق⁵. وأيضًا ينفرد إنجيل يوحنّا بمقطع مهمّ للغاية ومتميّز عمّا في باقي الأناجيل، عند ذكره «المُعَزِّي» فَرَقليطُا (فَرَقليطا) الآتـي (إصحاح 15-16)، فيشهد (بلسان المسيح) على شفيع مُنتظر لاحق.

    لكن يبقى هنا سؤال محوري: هل من دليل على أنّ الذين كتبوا الأناجيل الأربعة - على افتراض أنهم كانوا حقًا متّى، ومَرقُس، ولوقا، ويوحنّا - اعتمدوا على مصادر ما⁶، سابقة لهذه الأناجيل؟

    1- من الملاحظ حول الأناجيل الأربعة، أنّ ثلاثة منها - إنجيل متّى، ومَرقُس، ولوقا - تتحدّث عن المسيح بشكل إزائي متّسق، على عكس الإنجيل الرّابع - إنجيل يوحنّا - الذي يختلف جذريًا عنها في حديثه عن المسيح (وسنرى سبب ذلك في إنجيل بارْنَبا).

    2 - كذلك فإنّ المعلومات الأساسية التي يوفّرها إنجيل مَرقُس عن المسيح، واردة أيضًا في إنجيلَي متّى ولوقا، وذلك إلى جانب معلومات أخرى لا يأتـي مَرقُس على ذكرها. هذا يعني أنّ إنجيل مَرقُس لم يكن إلا واحدًا من المصادر التي اعتمد عليها متّى ولوقا في كتابة إنجيليهما.

    3- ثمّة معلومات إضافية واردة في إنجيلي متّى ولوقا مشتركة بينهما، ومنها ما هو خاص بإنجيل واحد دون الآخر. وهذا يعني أنّ متّى ولوقا استقيا بعض معلوماتهما من مصدر مشترك، وبعضها الآخر من مصادر مختلفة.

    4- من المعلومات الواردة في إنجيل لوقا وحده من بين الأناجيل الإزائيّة الثّلاثة ما يرد أيضًا في إنجيل يوحنّا، لكن بكلمات أخرى. وهذا يعني أنّ المصدر الخاص بلوقا، الذي أخذ عنه يوحنّا أيضًا، كان مكتوبًا بلغة غير يونانية لا بدّ أنها الآرامية، فنقل كلٌّ منهما مقاطع من هذا المصدر إلى اليونانية بأسلوبه الخاص. أو أنّ هذا المصدر كان موجودًا في أصله الآرامي، وكذلك في ترجمة يونانيّة، فاستخدم واحد منهما (يوحنّا) الأصل، والآخر (لوقا) التّرجمة اليونانية المتوافرة.

    5- قصّة ولادة المسيح التي يوردها لوقا ولا يوردها يوحنّا، تأتـي من مصدر استخدمه لوقا ولم يستخدمه يوحنّا. أو لعلّها كانت جزءًا من المصدر المشترك بينهما، استخدمه لوقا وأهمله يوحنّا لسبب ما.

    * * *

    من خلال هذه الملاحظات، اصطلح الباحثون على الاستنتاجات الآتية، مع اختلافهم وتباينهم الواضح عليها⁷:

    أولًا: أنّ كلًا من متّى ولوقا استخدم إنجيل مَرقُس مصدرًا في كتابة إنجيله. ولو أن ثمّة دراسات حديثة (E. Powell) تفترض أنّ إنجيل متّى أقدمها.

    ثانيًا: أنّ متّى ولوقا اشتركا في استخدام مصدر آخر، ربما كان مكتوبًا باليونانية أصلًا، وربما كان مصدرًا يونانيًا مترجمًا عن أصل آرامي، فنقلا عنه حرفيًا بالطّريقة نفسها تقريبًا. وقد درج المختصّون على تسمية هذا المصدر Q من العبارة الألمانية: Quelle بمعنى «المصدر».

    ثالثًا: أنّ متّى استخدم مصدرًا لم يستخدمه لوقا ولا يوحنّا، لعلّه يكون إنجيلًا قديمًا لبطرس، ضاعت آثاره بعد عصر متّى.

    رابعًا: أنّ يوحنّا ولوقا استخدما مصدرًا آراميًّا لم يستخدمه متّى. فنقل يوحنّا عن أصله الآرامي، ولوقا عن ترجمة يونانيّة؛ لكونه لا يجيد الآرامية كما يبدو.

    خامسًا: أنّ لوقا نقل قصّة ولادة المسيح، كما هي واردة في إنجيله، من مصدر لم يستخدمه متّى، إذ إنّ متّى يورد قصّة ولادة المسيح بشكل آخر. وقد يكون هذا المصدر هو نفسه المصدر الآرامي الذي أخذ عنه كل من يوحنّا ولوقا، إلا أنّ لوقا شاء أن ينقل قصّة ولادة المسيح عن هذا المصدر، في حين أحجم يوحنّا عن ذلك، لسبب نجهله.

    * * *

    ويُجمع الباحثون أيضًا على كون رسائل بولس - وهي التي كُتبت بيده، معظمها على الأقل - هي أقدم من أي الأناجيل (ولهذه النّقطة أهميّة بالغة جدًا عندما نقوم بتقاطع بينها وبين مُعطيات إنجيل بارْنَبا)، نظرًا إلى أنّ بولس توفي عام 67 م تقريبًا. والرّأي السّائد بشأن هذه الرّسائل هو أن تلك الموجّهة منها إلى أهل رومية (أي روما، وهي رسالة واحدة)، وإلى أهل غلاطية (أيضًا رسالة واحدة)، وإلى أهل كورنثوس (رسالتان)، لا شك في أقدميّتها.

    أمّا ما تبقّى منها (الرّسائل إلى أهل إفسُس، وفيلبي، والرّسالتان إلى أهل تسالونيكي، والرّسالتان إلى تيموثاوس، والرّسالتان الموجّهتان واحدة إلى تيطُس، والثّانية إلى فليمون)، فمن محتوياتها ما هو أصيل، ومنها ما قد يكون مُضافًا إلى الأصل لاحقًا عن طريق التّحرير.

    وأمّا بقيّة «الرّسائل» من «العهد الجديد»، فاثنتان منها منسوبتان إلى أخوين من إخوة عيسى (واحدة إلى أخيه يعقوب، والأخرى إلى أخيه يَهوداه)، واثنتان إلى تلميذه بطرس، وثلاث إلى تلميذه يوحنّا، وواحدة موجّهة إلى «العبرانيين» من دون ذكر لاسم صاحبها. وللباحثين شكوك بأنّ الرّسائل المنسوبة إلى يعقوب، ويهوداه، وبطرس، ويوحنّا، قد جاءت بالفعل من أقلامهم.

    وأمّا «إنجيل بارْنَبا»، الذي يعدّه المسيحيّون قدّيسًا من التّلاميذ - لا الرُّسل الاثني عشر - فيعدّون: إمّا غير موجود أصلًا. أو أنّ المذكور منه في وثيقتين مسيحيّتين قديمتين هو مجرّد نصّ «أپوكريفا» (إنجيل منحول غير مقبول كنسيًّا) لم يصلنا أبدًا، وأنّه ليس هذا النّصّ الذي أمامنا الآن نفسه.

    * * *

    أصول التثليث في المسيحيّة

    يقرّر دستور الإيمان المسيحي (الپوليني) الذي أقرّته كنيسة روما العامّة، بناءً على قرار مجمع نيقية المسكونـي للأساقفة عام 325 م، (والعياذ بالله) أنّ:

    «يسوع المسيح (هو) ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدّهور، نورٌ من نور، إله حقّ من إله حقّ، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر، الذي به كان كلّ شيء، الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السّماء، وتجسّد من الرُّوح القُدُس ومن مريم العذراء، وتأنَّس، وصُلب عنّا على عهد پيلاطُس البُنطي، وتألّم، وقُبر، وقام في اليوم الثّالث»⁸.

    تلك هي عبارة دستور إيمان المسيحيين بالمسيح بحرفيّتها⁹، وتعتقد غالبيّة الجمهور بأنّ الله واحدٌ ذو أقانيم ثلاثة، والأُقنـوم لفظة يونانية εικοινον تعبّر عن «الكيان» ὑπόστασις (إيپوستاسيس)، والأقانيـم الثّلاثة هي: شخص الآب، الخالق لكل شيء والمالك والضّابط للكلّ، وشخص ابنه المولود منه أزلًا المساوي لأبيه في الألوهية والرُّبوبية؛ لأنّه منه، وشخص الرُّوح القُدُس¹⁰.

    وهذه الأقانيم الثّلاثة متّحدة في الجوهر والإرادة والمشيئة، إلا أنّ هذا لا يعني أنّها شخص واحد، بل هم أشخاص ثلاثة، كل واحد منهم إله كامل في ذاته غير الآخر، فالآب إله كامل، والابن إله كامل غير الآب، وروح القُدُس أيضًا إله كامل غير الآب والابن، ولكن مجموع الثّلاثة لا يشكّل ثلاث آلهة كما هو مقتضى الحساب، بل يشكّل إلهًا واحدًا. ويتمّ الإجماع على أنّ هذا المبدأ لا سبيل لإدراكه وفهمه بالعقل، وهو يسمّى «سرّ التَّثليث» trinity.

    ثم يعتقدون أنّ الأُقنوم الثّانـي للإله، أي أُقنوم الابن، هو الذي تجسّد وصار إنسانًا حقيقيًا، بكل ما في الإنسانية من معنى، وهوالمسيح المولود من مريم العذراء، فالمسيح في اعتقادهم إلهٌ إنسان، أي هو بشر حقيقي مثلنا تمامًا تعرض له أعراض الضّعف والاحتياج البشرية جميعها، وهو في عين الحال إله قادر كامل الألوهية. ويسمّون هذا بـ «سرّ التّجسُّد» incarnation.

    وهكذا، فالمسيح بحسب تفسير قانون الإيمان المسيحي الذي تقرّر في مجمع خلقيدونية عام 451 م (وهو المجمع المسكونـي الخامس)، هو شخص واحد ذو طبيعتين: طبيعة إنسانية (ناسوت)، وطبيعة إلهية (لاهوت)، فهو إله بشر في آن واحد. وفي هذا المجمع قام نحو 500-600 أسقف بإقرار عقيدة مجمع نيقية، من حيث مساواة الكلمة أو الابن مع الآب في الذّات والجوهر¹¹.

    هذه كانت عقيدة جمهور المسيحيين: الرُّوم الكاثوليك (اللّاتين) أو الكنيسة الغربيّة التي رئاستها في روما، والرُّوم الأرثوذوكس، أي الكنيسة الشّرقية اليونانيّة التي كانت رئاستها في القسطنطينية (انفصلت عن الكنيسة الغربية 879 م)، والپروتستانت بفرقهم المختلفة من أنجليكان ولوثريين وإنجيليين وغيرهم، الذين خرجوا من الكنيستين السّابقتين في القرن السّادس عشر وما تلاه.

    لكنّ هناك طائفتين قديمتين من المسيحيين لم تعترفا أبدًا بقرار مجمع خلقيدونية المذكور، الذي نصّ على أنّ المسيح شخصٌ واحد في طبيعتين، وهما: «النساطرة» أتباع نسطوريوس، و«اليعاقبة» أتباع يعقوب البرادعي.

    أما «النَّساطرة» Nestorians، وهم أقلّية تتوطّن حاليًا شمال غرب إيران وجنوب شرق تركية وشمال العراق وشمال سوريا، وعددًا من المناطق الأخرى (ويسمّون كذلك بالآشوريين) فهم يميّزون في المسيح بين شخصين: شخص عيسى البشر المولود من مريم العذراء، الذي هو إنسانٌ بشرٌ محض، وشخص الإله الابن، أو ابن الله الذي هو إلهٌ كامل، المتّحد بعيسى الإنسان، فالذي ولد من مريم العذراء هو عيسى الإنسان، وليس الله.

    ولذلك رفض النَّساطرة عبارة «مريم والدة الإله»، وكذلك فإنّ الذي صُلب في اعتقادهم وتألّم ومات، لم يكن الإله الابن، بل عيسى الإنسان البشر. والحاصل أنّ المسيح - في اعتقادهم - شخصيتان متمايزتان، ولكلّ شخصية منهما طبيعتها الخاصة: البشريّة المحضة لعيسى النّاصري المولود من مريم العذراء، والإلهيّة المحضة لابن الله المتّحد بعيسى في اعتقادهم.

    وعلى النّقيض من ذلك تمامًا كان رأيُ الطّائفة الأخرى، وهم «اليعاقبة» Jacobites الذين يرون أنّ عيسى المسيح شخص واحد فقط، لا شخصان. وليس هذا فحسب، بل هذا الشّخص الواحد ذو طبيعة واحدة أيضًا، ولذا يُسمّون أيضًا بـ «المونوفيزيين» monophysites، القائلين بالطّبيعة الواحدة للمسيح. فاعتقادهم هو أن: أُقنوم الابن من الله تجسّد من روح القُدُس ومريم العذراء، فصيّر هذا الجسد معه واحدًا وحدة ذاتية جوهرية؛ أي صار الله (الابن) المتجسّد، طبيعة واحدة من أصل طبيعتين ومشيئة واحدة وشخصًا واحدًا.

    وبعبارة أخرى: المركز المسيِّر والطّبيعة الحقيقية لعيسى المسيح الذي وُلد من مريَم هي الألوهيّة المحضة، فهو الله عينُه (نعوذ بالله من هذا البُهتان)، أمّا بشريّته فهي مجرّد لباسٍ فانٍ في إلهيّته. فلذلك يُعدّ الله لديهم هو بذاته الذي وُلد من مريَم العذراء؛ لذا فهي والدة الإله (كما يرون)، والله نفسه هو الذي عُذِّب وتألّم وصُلب ومات، ثم قام بعد ثلاثة أيام من قبره حيًّا! نعوذ بالله من ذلك.

    إذَن تتّفق الفرق المسيحية جميعًا على أنّ المسيح بشرٌ وإلهٌ في الوقت نفسه (أعوذُ بالله). وتختلف عن بعضها في مدى تأكيدها وإبرازها لأحد الجانبين الإلهيّ والبشريّ في المسيح، فاليعاقبة يؤكّدون الجانب الإلهي أكثر، وبنقيضهم النَّساطرة الذين يُبرزون أكثر الجانب البشري، في حين يطرح الجمهور الأعظم رؤيةً متوازية ومتعادلة للجانبين الإلهي والبشري، دون ترجيح أيٍّ منهما على الآخر.

    تأليه المسيح في المذاهب المسيحيّة

    يقرّ جُلّ مؤرّخي المسيحية الأوائل (مثل يوسيبيوس القيصري) أنّ الاعتقاد بألوهيّة المسيح لم يغدُ عقيدة مستقرّة سائدة بين المسيحيّين، إلا بعد عهد التّلاميذ الأوائل للمسيح؛ أي بعد قرن على الأقل على رفعه. أمّا قبل ذلك في القرن الأول، فكانت مذاهب النّاس فيه لا تزال مُتضاربة، فاليهود الحاخاميّون المعاصرون له أبغضوه وأنكروا رسالته من الأساس، وعدّوه ساحرًا ودجّالًا، وجهدوا لمحاربة أتباعه والقضاء على دعوته. وفي المقابل، آمن به عددٌ من يهود فلسطين، ورأوا فيه «المَشِيَّح» משיח المنتظر المُبشَّر به في أسفارهم، ومن هؤلاء التّلاميذ.

    كما وُجد في القرن الأول وما بعده يهودٌ تشبّعوا بأفكار الفلسفة الهيلّينية (اليونانية)، ولا سيما الأفلاطونية الحديثة منها، فنظروا للمسيح ولارتباطه بالله بمنظار ما كانوا مُشبعين به من تلك الفلسفة حول الإلهيات، وما تُعلّمه حول مفهوم «اللُّوجوس» Logos (باليونانية: λόγος)؛ أي العقل الكلّي «الكلمة» الذي ترى فيه أول ما فاض عن المبدأ الأول أي الله، فاللّوجوس هو الوسيط بين الله في وحدته وبساطته وبين العالم المتكثّر. فطابقوا بين المسيح واللّوجوس، ورأوا فيه مخلوقًا لله، فلم يقولوا بأُلوهيته، ولا ساووه مع الآب في الجوهر.

    وأخيرًا، كان هناك المؤمنون الجدد من الأمميين (غير اليهود، وغالبًا المُراد الهلّينيّون اليونان)، وغالبهم آمن بدعوة التّلاميذ بعد رفع المسيح، وهؤلاء كانوا متشبّعين بثقافة عصرهم الوثنية الهيلينيّة، التي تنظر للعظماء من أباطرة أو قادة فاتحين أو فلاسفة عظام، على أنهم أنصاف آلهة أو أبناء آلهة هبطت لعالم الدّنيا، وتجسّدت لخلاص بني الإنسان وهدايتهم. فصار كثير منهم ينظرون لشخصية المسيح بالمنظار نفسه، خاصّة أنه كان يُعبَّر عنه في لغة الأناجيل بابن الله، فأخذوا هذه البُنوّة على معناها الحرفي لوجود نظير لذلك في ثقافتهم الوثنية، ورأوا فيه ابن الله الحقيقي الذي كان إلهًا فتجسّد، ونزل لعالم البشر لخلاصهم.

    لاقت هذه العقيدة رواجًا لدى جمهور العامّة، الذين يُعجبهم الغُلوّ في رفع مقام من يقدّسونه ويؤمنون به، ويرون ذلك من كمال الإيمان به والمحبّة له. كما لعبت عوامل سياسية وثقافية واجتماعية عدّة لمصلحة الاتجاه الوثني الأخير في النّظر لشخصية المسيح، فَسادَ وانتشر وشيئًا فشيئًا صار هو الأصل، وصارت مخالفته هرطقة وخيانة لحقيقة المسيح! وصار الموحّدون فئات ضئيلة تتعرّض للاضطهاد، ويُنظر إليها على أنها بدعيّة ضالّة تستوجب الطّرد والمحاربة.

    ومن الأمثلة على العوامل السّياسية التي لعبت دورًا في ترجيح هذه الصّيغة الوثنية لتأليه المسيح، المناخ السّياسي الذي حدا بالإمبراطور البيزنطي قُنسْطنطين الأول (274-337 م) إلى اعتناق الدّيانة المسيحيّة عام 313 م، وتفشّي الاضطراب السّياسي والإداري في عصره وصراع المسيحيّة والوثنيّة، فهذا ما جعله يعمد إلى اعتناق المسيحيّة وإعلانها ديانة رسميّة للدّولة، لما لها من دور في تكييف مشاعر النّاس نحو الدَّعة والمسالمة، وطاعة الحاكم ورئيس الكنيسة على اعتباره نائبًا للإله «نصف البشري»، بحسب النّكهة الرُّومية الهلّينية.

    وإلّا، فما هو السّبب في أنّ الدّين المسيحي (بصيغته الپولينيّة التّثليثيّة) قد فشل في تحقيق ذاته فشلًا ذريعًا طوال القرون الثّلاثة الأولى لقيامه؟ وكيف يمكن لنا مقارنة ذلك بانتصار الدّعوة الإسلاميّة منذ بداياتها الأولى (فتح مكّة 8 هـ)، وكسرها في غُضون عقود يسيرة أهمّ إمبراطوريّتين آنذاك (بيزنطة وفارس)، حتى دالَ لها العالم القديم من الصّين شرقًا إلى الأطلسي غربًا؟!

    أمّا العوامل الثّقافية، فلا أدلّ عليها من أنّ الدّيانات الوثنيّة الغربيّة لدى اليونان والرُّومان، كانت تعدّدية تؤمن بتعدّد الآلهة وانقسام شخصياتها، على نقيض الدّيانتين المشرقيتين التّوحيديتين آنذاك: اليهوديّة والنَّصرانيّة¹². فإنّ أوروپا تقبّلت المسيحيّة بعدما أُضفيَت عليها صِبغتُها الثّقافية وغَدَت نسخة أوروپيّة معدّلة تُوائم تراثها الفكري. ومَن يقارن المفهوم في منظور التّثليث المسيحي، يعثر على ظلال له في مفهوم زيوس أبـي الآلهة الإغريقي، أو جوپيتر أبـي الآلهة الرّومانـي.

    ومن العوامل اللّغوية أيضًا، إشكاليّات ترجمة الإنجيل الأول، من لغته الشّفهية الأصليّة (الآراميّة) إلى لغته المكتوبة الأولى (يونانيّة أواخر العهود الكلاسيكية)، فإلى اللّغات الأخرى، وأولها لاتينيّة روما. ومن أسطع الأمثلة على هذه الإشكاليات، التّقلقل في ترجمة عبارة Κύριε «كيرييه» اليونانية إلى: «يا ربّ» بدلًا من «يا سيّد»، كما سنفصّل بذكره أدناه.

    * * *

    مذاهب التوحيد المسيحي عبر التاريخ

    أثبتت التّواريخ المدوّنة والوثائق المكتوبة، أنه وُجدت ولا تزال، أعداد من المسيحيّين الذين أنكروا تأليه المسيح ، ورفضوا عقيدة التّجسُّد والتّثليث، وأكّدوا تفرّد الله الآب وحده بالألوهيّة والرُّبوبيّة والأزليّة، وأنّ المسيح بشرٌ مخلوق.

    ولقد ذكرت المصادر التّاريخيّة المسيحيّة، المختصّة بتاريخ الكنيسة، أسماء فرق عدّة في القرون المسيحيّة الثّلاثة الأولى، كانت تنكر التّثليث والتّجسّد وتأليه المسيح، وهي: فرقة الإبيونيين، وفرقة الكارينثيانيين، وفرقة الباسيليديين، وفرقة الكارپوقراطيين، وفرقة الهيپسيستاريين، وفرقة الغنوصيين.

    أشهر الشّخصيات المسيحيّة التّوحيديّة في التّاريخ

    بولس السُّميساطي: كان بطريرك أنطاكية 260 م، آمن ببشرية المسيح، ووافقه على مذهبه التّوحيدي الخالص كثيرون، عُرفوا بالبوليقانيين. كان يفتتح صلواته بعبارة سريانيّة لافتة جدًا للنّظر: بشم آَلُؤُا رَحمُنا مرَحًمُنا «بْشيْم أللّوهو رَحْمُونو مْرَحّمُونو» وترجمتها حرفيًا: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ﴾.

    الأسقُف لوقيانوس الأنطاكي (الشّهيد): أستاذ آريوس، مات شهيدًا في نيقوميديا عاصمة الإمبراطورية الشّرقية عام 312 م.

    ديودوروس أسقُف طَرسوس: من أعلام المدرسة الأنطاكيّة في اللّاهوت المسيحي، توفي نحو عام 390 م.

    يوسيبيوس النّيقوميدي: أسقُف بيروت ثم نيقوميديا، كان واحدًا من أتباع لوقيانوس الأنطاكي وصديقًا لآريوس ومن أتباعه، توفي نحو 452 م.

    أمّا الحديث عن آريوس ومذهبه التّوحيدي، فيستلزم منا إفراد دراسة خاصّة له، نظرًا للأهمية البالغة للعلاقة الجدلية لمذهبه مع العقيدة الإسلاميّة. ولكن قبل البحث به، في أواخر القرن الثّالث وأوائل الرّابع للميلاد، نعود للتّذكير بمذهب الوحدانية اليعقوبـي monophysitism «المونوفيزيّة»، الذي شاع في القرن الخامس وحُرِّم في مجمع خلقيدونية عام 451 م، القائل بطبيعة واحدة للمسيح.

    ومن المهمّ ذكره هنا، أنّ إقرار عقيدة المسيح الأُقنوم (الشّخص) الواحد في طبيعتين: ناسوتيّة ولاهوتيّة، والذي تمّ في مَجمَع خَلقيدونية، إنما كان على إثر جدل واسع حول هذه النّقطة¹³. ولقد أسفر قرار ذلك المجمع عن انشقاق بعض الكنائس الشّرقيّة عن كنيسة روما اللّاتينية، كالكنيسة القبطيّة التي رفضت القرار، وقالت بالمسيح الشّخص الواحد ذي الطّبيعة الواحدة فقط. واتفق مع الأقباط في هذا المُعتقَد اليعاقبة في بلاد الشّام والجزيرة الفُراتية (وهم السُّريان الأرثوذوكس)، وطائفة من الأرمَن هم أتباع الكنيسة الغريغوريّة الأرمَنيّة.

    يضاف إلى ذلك انشقاق النَّساطرة إثر انعقاد مجمع إفِسُس قبل عشرين عامًا من مجمع خَلقيدونية، الذي حكم بوجود «اتّحاد جوهري بين الطّبيعتين في المسيح، وأنّ الإله والإنسان في المسيح واحد، وبأنّ مريَم والدة الإله». فقد رفض البطريرك الكبير نسطوريوس بطريرك القسطنطينيّة هذه العقيدة؛ لأنه كان يؤكّد على التّمايز بين أقنوم الإله وأقنوم الإنسان في المسيح، ومن ثمّ فقد ميّز بين أقنومين في المسيح، وليس فقط بين طبيعتين. ولذلك، فقد كان مذهبه على النّقيض تمامًا من مذهب الأقباط واليعاقبة، وكان بالتّالي كلّ من المذهبين يكفِّر الآخر، ويلعنه ويتبرّأ منه. هذا، وقد انحاز إلى نسطوريوس في عقيدته هذه كثير من مسيحيّي المشرق، الذين عُرفوا بالنَّساطرة، أو بطائفة الآشوريّين أو الكَلدان.

    * * *

    قُصارى القول: نستخلص ممّا تقدّم أنّ الشّكل الحالي لعقيدة تأليه المسيح في المذاهب المسيحيّة الرّسمية، قد بدأ نشوءه في روما بأواخر القرن الميلادي الأول، ثم أخذ شكله النّهائي في القرن الرّابع الميلادي في مجمع نيْقية المسكونـي المُنعقد عام 325 م، وليس قبل ذلك على الإطلاق.

    أمّا عقيدة النَّصرانيّة الأولى¹⁴ (كالإبيونيّة والنّاصريّة)، فسُرعان ما عَفَت آثارها وتلاشَت بعد رفع المسيح وموت تلامذته. وأمّا الموحّدون النَّصارى في القرون التّالية (خاصّة الأريانيّين أو الأريوسيّين أتباع آريوس) فقد حُوربوا بعد مجمع خَلقيدونية في القرن الخامس عام 451 م، وشنَّت عليهم الدّولة البيزنطيّة حربًا ضارية، ثمّ انحسروا واقتصر وجودهم على أطراف الولايات البيزنطيّة في كيليكيا، وسوريا، والعراق، وبعض تخوم فارس.

    ثم من المفارقات العجيبة، أن يُضحي هؤلاء أغرابًا في أوطانهم، في حين تعود الدّيانة المسيحيّة إلى الشّرق بنسختيها الأوروپيتين المعدّلتين (الشّرقية والغربية) فتسيطر هاتان النّسختان، وتصبحان المرجعيّة الرّسميّة الوحيدة لهذه الدّيانة، في الشّرق والغرب على حدّ سواء!

    ومن أخبار الاضطهاد البيزنطي لأتباع الكنائس غير الملكيّة البيزنطيّة، أنّه في أيام الإمبراطور يوستينوس الثّانـي Justinus II (565-578 م) أمر البطريرك يُوانّيس سخولاستيكوس بإقفال أديرة السُّريان في سوريا وكيليكيا وكَپادوقيا، وبهدم كنائسهم وطرد أساقفتهم وحبسهم، وبحرق رعاياهم بتهمة انتمائهم إلى العقيدة اليعقوبية «المونوفيزيّة» (المؤمنة بطبيعة واحدة للمسيح)، التي كان حرّمها مجمع خَلقيدونية عام 451 م (في أيام الإمبراطور مَرقيانوس Marcianus الذي حكم 450-457 م). أمّا الإمبراطور هِراكليوس Heraclius «هِرَقْل» (حكم بين 610-641 م) فقد أمر بصلم آذانهم، وجَدع أنوفهم، ونهب بيوتهم.

    ويذكر سُريان سوريا إلى اليوم الحاضر بالتّواتر الشّفهي فظائع البيزنطيّين في تعذيبهم وتقتيلهم وحرق تراثهم المخطوط الثّمين، بما في ذلك آدابهم ونصوصهم الدّينية القديمة النّادرة! وثمّة شهادة ثمينة للغاية - تُكتب بماء الذّهب - تركها لنا بطريرك أنطاكية «ميخائيل السُّريانـي» (1166-1199 م) في تاريخه (نشره بالفرنسية جان باتيست شابو J. B. Chabot، پاريس 1899-1914)¹⁵:

    «فعندما اطلّع الله المنتقمُ الجبّار على طُغيان هؤلاء الرُّوم الذين كانت يدهم هي العُليا في كلّ مكان، والذين جعلوا ينهبون كنائسنا وأديرتنا ويعذّبوننا بغير رحمة، قيّض الله إلى التُّخوم الجنوبية بني إسماعيل [أي العرب] ليخلّصونا من أيديهم.. فكان من حُسن مآلنا أن نتحرّر من جَبروتهم وطُغيانهم واضطهادهم وتَعنُّتهم، الذي عانينا منه التّباريح، فنعمنا أخيرًا بالسّلام والأمان».

    وكان أُسقفٌ نسطوريّ كتب بعد نحو 15 سنة من فتح الشّام¹⁶، يُشيد بتسامُح الفاتحين: «إنّ طَيًّا [أي العرب في الأدب السُّريانـي] الذين أعطاهم الله السُّلطة علينا، قد صاروا أسيادنا، لكنهم مع ذلك بادروا إلى حماية عقيدتنا، واحترام قساوستنا وقدّيسينا، وكانوا يقدّمون إلى كنائسنا وأديرتنا العطايا».

    * * *

    التوحيد المسيحي بين الآريوسيّة والإسلام

    نعود هنا إلى القرن الرّابع الميلادي، لتتبّع مسألة مذهب الآريوسيّة (أو كما تُعرف بالأريانيّة)، وإسقاطاتها الجدليّة الدّراماتيكية على الخلاف الكلامي ما بين التّثليث المسيحي والتّوحيد الإسلامي.

    لا مِراء أنّ آريوس Arius (250-336 م) المولود في ليبيا، وأسقُف كنيسة بوكاليس في الإسكندرية، يُعدّ أشهر أعلام التّوحيد المسيحي على الإطلاق في جميع العصور. ومنذ بدء انتشار أفكاره اللّاهوتية، صار له أُلوف الأتباع الذين عُرفوا بالآريوسيّين، وبقي مذهبهم التّوحيدي حيًّا أزمنة طويلة. وأضحى آريوس رمزًا للتّوحيد، حتى إنّ كلّ من جاء بعده وأنكر التّثليث وُصم بأنه آريوسي أو أريانـي، نسبةً إلى مذهبه المعروف بالأريانية Arianism¹⁷.

    تتلمذ آريوس على لوقيانوس الأنطاكي، الذي كان يرفض ألوهيّة المسيح، فكان أن استُشهد دون عقيدته التي تُناقض تعاليم بولس¹⁸. وكان آريوس طويل القامة نحيلًا، مكتئب المظهر، وتبدو على محيّاه آثار التّقشّف وشَظف العيش، وكان معروفًا أنه من الزُّهّاد كما يُستدلّ من ملبسه، وهو جلباب قصير من غير كمّين تحت ملحفة يستخدمها عباءة. وكان أسلوبه في الحديث ظريفًا وحُججه مقنعة، وكان له من بين رجال الدّين عدد كبير من المؤيّدين¹⁹.

    يُعدُّ آريوس، من وجهة النّظر الأرثوذُكسية²⁰، هرطقيًّا أو زنديقًا شكّل خطرًا على العقيدة المسيحيّة طوال عشرة القرون الأولى من تاريخ المسيحيّة. ويقوم خلافه مع الكنيسة على أطروحة واحدة، هي أنّ يسوع كائنٌ فانٍ ليس إلهيًا بأيّ معنى، وليس بأيّ معنى شيئًا آخر سوى معلّم يُوحى إليه²¹.

    تنصّ عقيدة التّوحيد المسيحي التي تبنّاها آريوس، على أنّ «الله واحدٌ فَردٌ غير مولود، لا يشاركه شيء في

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1