Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

المغفرة
المغفرة
المغفرة
Ebook339 pages2 hours

المغفرة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

المغفرة هي رواية تحمل طابع الرومانسية التاريخية، تأخذ مِن التاريخ أحلك وأشدَّ فتراته ظلمًا وظلامًا لتسقط انعكاساتها على الواقع الحالي الذي لا يقِلُّ ظلامية عن السابق.  بحث عن إجابات وجودية لأسئلة أبديَّة مشروعة، وما يرافِق هذا البحث مِن صعوبات وخيبات، خوف وفقدان مع التضحية التي قد تكون طواعية أو مفروضة أو حتمية لا بدَّ منها، وضرورة الغفران كطريق للوصول إلى السلام النفسي والراحة الأبديَّة.
Languageالعربية
Release dateMar 31, 2023
ISBN9789948799603
المغفرة
Author

د.غصون فالح ابراهيم

د. غصون فالح إبراهيم، مِن مواليد العراق - بغداد، طبيبة عراقيَّة عاشت في زمن الحروب والأزمات التي مرَّت على الشَّعب العراقيّ، إضافة إلى الحروب الشخصيَّة التي خاضتها.  هي أم لولدَين اثنين، وقد استطاعت بعد جهد جهيد مِن إنقاذ أولادها ونفسها، والخروج مِن العراق إلى بر الأمان، ومِن أجل ذلك حانت المرحلة التي تقوم فيها بنشر كتاباتها وأفكارها.

Related to المغفرة

Related ebooks

Related categories

Reviews for المغفرة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    المغفرة - د.غصون فالح ابراهيم

    المغفرة

    د.غصون فالح ابراهيم

    Austin Macauley Publishers

    المغفرة

    د.غصون فالح ابراهيم

    الإهداء

    حقوق النشر©

    شكر وتقدير

    1

    روما القرن السابع عشر

    2

    3

    4

    5

    6

    7

    8

    9

    10

    11

    12

    13

    14

    15

    16

    17

    18

    19

    20

    21

    22

    23

    24

    25

    26

    27

    28

    29

    30

    31

    32

    33

    34

    35

    36

    37

    38

    39

    40

    41

    42

    43

    44

    45

    46

    47

    48

    د.غصون فالح ابراهيم

    د. غصون فالح إبراهيم، مِن مواليد العراق- بغداد، طبيبة عراقيَّة عاشت في زمن الحروب والأزمات التي مرَّت على الشَّعب العراقيّ، إضافة إلى الحروب الشخصيَّة التي خاضتها.

    هي أم لولدَين اثنين، وقد استطاعت بعد جهد جهيد مِن إنقاذ أولادها ونفسها، والخروج مِن العراق إلى بر الأمان، ومِن أجل ذلك حانت المرحلة التي تقوم فيها بنشر كتاباتها وأفكارها.

    الإهداء

    إهداء إلى الفارس..

    سأظلُّ أكتب حتَّى ينتهي الألم، ومعه تنتهي كلماتي.

    حقوق النشر©

    د. غصون فالح إبراهيم 2023

    تمتلك د. غصون فالح إبراهيم الحق كمؤلفة لهذا العمل، وفقًا للقانون الاتحادي رقم (7) لدولة الإمارات العربية المتحدة، لسنة 2002م، في شأن حقوق المؤلف والحقوق المجاورة.

    جميع الحقوق محفوظة

    لا يحق إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب، أو تخزينه، أو نقله، أو نسخه بأي وسيلة ممكنة؛ سواء كانت إلكترونية، أو ميكانيكية، أو نسخة تصويرية، أو تسجيلية، أو غير ذلك دون الحصول على إذن مسبق من الناشرين.

    أي شخص يرتكب أي فعل غير مصرح به في سياق المذكور أعلاه، قد يكون عرضة للمقاضاة القانونية والمطالبات المدنية بالتعويض عن الأضرار.

    الرقم الدولي الموحد للكتاب9789948799597 (غلاف ورقي)

    الرقم الدولي الموحد للكتاب 9789948799603 (كتاب إلكتروني)

    رقم الطلب: MC-10-01-4019067

    التصنيف العمري: E

    تم تصنيف وتحديد الفئة العمرية التي تلائم محتوى الكتب وفقًا لنظام التصنيف العمري الصادر عن وزارة الثقافة والشباب.

    الطبعة الأولى 2023

    أوستن ماكولي للنشر م. م. ح

    مدينة الشارقة للنشر

    صندوق بريد [519201]

    الشارقة، الإمارات العربية المتحدة

    www.austinmacauley.ae

    +971 655 95 202

    شكر وتقدير

    أشكر الحروب، والمآسي، والعنف، والفقد، والخيبات لأنَّها فجَّرَت في نفسي مكامن الألم، وترجمَتْه إلى كلمات.

    1

    روما القرن السابع عشر

    كان الليل مطبقًا، قمع بحلكته ضجيج الشوارع الخالية وهو يقترب مِن أن ينتصف، تلفعَت أشباحه السوداء بظلامه بينما تجوب الأزقة والشوارع المنسية المعتمة في دجى يبحث عن ضحاياه، إن أنصت فقد يترامى إلى مسمعك أنَّة مكتومة لمن لَن يذكر بعد اليوم، وقد تتعثر قدماك ببقايا، بقايا لذكرى بشر هجرَتهم الرحمة فهجروا الدنيا، وافترشوا الأرصفة الصخرية القاسية والتحفوا بالأبنية القديمة المهدمة.

    سيطر البرد بقبضته القارسة على الأجواء، وهزم بصقيعه لجة الليل الحالك، في حين التهبت النيران المشردة التي أوقدتها مجموعات صغيرة مِن البشر لتوجِد في قلب ذلك الليل الصامت بعض الحركة والحياة، حيث أضفت الأعمدة الدخانية التي يتصاعد منها شعور خانق بالاحتراق، لكن الدفء البسيط الذي كان يتألق على وجوههم البائسة منحهم شعورًا جميلًا ولو كان زائفًا.

    أطل مِن زقاق قريب شبح مهيب ارتمى سواد الليل بين أحضانه، وحملت قبعته الداكنة قطرات المطر المتزمتة رغبة منها في البقاء فوق هدبانه، تلفعت أجفانه بحطام العالم وغرقت تجاعيده في شطآنه، أخذ يسير بهدوء واتزان، محتميًا مِن رياح تهاجمه، هازمًا البرد الشديد بمعطفه الطويل، متجاهلًا الخوف الذي أغرق المكان والزمان بثقة الخبير، فقد خبر هذه الأزقة جيدًا، وتعوَّد الخروج في مثل هذا الوقت مِن كل يوم، إنه الليل.. ما أجملَه! ما أثقله بستاره الطويل! نجومه الساهدة، وبحره الكبير، الذي حمل سفن العشاق إلى حيث شواطئ الحنان، وإلى حيث تعب قوارب الرهبان أمواجه العالية، إلى حيث مرافئ الأمان.

    هذا ما أسره الأب فانوتشي لنفسه وهو يسير الهوَينى بعد أن انتهى لتوِّه مِن زيارة لفرانشيسكو العجوز صانع الأحذية، وقد علم مِن زوجته اليوم بمَرَضه وأنه قد لازم البيت طوال الأسبوعَين الماضيَين، فجاء الأب ليعوده وليطمئن على حاله وحال عائلته وليباركهم.

    كان لمرأى الموقد وهو ينفث أنفاسه الأخيرة وبرودة الأطراف الهزيلة لبناته ومرأى الجوع وهو يهتك ستار النفس ويطمس ملامح الإنسان وينأى بالروح عن الوعي عميق الأثر في نفسه، وهو يعرف أن كابوس الحزن هذا سيلازمه لأيام، صلى له دون أن يتمكن مِن مخاطبته، ثم خرج مِن عندهم بعد أن وضع في يد زوجته بعض القطع النقدية، شكرَته المرأة بحرارة ودمعة في مآقيها فربت بلطف على كتفها وابتسم ابتسامته الصافية قائلًا:

    - بل اشكري الرب عزيزتي على ما يعطينا.. وخرج.

    لكن بمجرد أن أغلقت الباب خلفه اختفت تلك الابتسامة الهزيلة وحلت محلها تنهيدة أطلقها مِن قلب متوجع على هؤلاء وغيرهم كثيرون ممن كُتِب عليهم الشقاء والفاقة، وغيرهم ينعم بما ينعم به حتى يكاد يختنق.

    انسلَّ بهدوء خارجًا مِن عتمة المكان إلى عتمة الزمان سائرًا في ذلك الزقاق ببطء وهو مستغرق في أفكاره، وتعبير عميق الحزن يعلو وجهه ما انفك أن تحول إلى تنبُّه يقِظ، سببه صوت صدر عن زاوية مظلمة في الشارع، لفَّه تساؤل ورهبة، استدار لكنَّه لَم يستطِع التَّيقُّن مِن مصدر الصوت.

    وبعد لحظات ترقُّب قصيرة خرجَت مِن الظلمة فتاة صغيرة لَم تكد تبلغ خمسة عشر ربيعًا أو هكذا بدا عليها وهي ترتجف مِن البرد، بينما عجزت الملابس القليلة التي كانت ترتديها عن ستر عورتها، ومنحها الدفء اللازم.

    نظرت إليه بإغراء زاد مِن منظرها المزري وشحوب الأموات يعلوها:

    - هل تريد أن أسديَ لك خدمة؟

    لَم ينطِق وقد عجز عقله عن التواصل مع الصور التي تحيط به وقد زادت عتمة أفكاره.

    استمرَّت ترمقه بنظرات المنتظر وهي تريد أن تتبين ردة فعل صامتة على وجهه، لَم ينبس ببنت شفة، ظنت أنه سيتركها، فقالت بتوسل ولهفة الضائع هي التي تنطق عنها:

    - لن تكلفكَ كثيرًا، سأقبل بما تعطيني إياه سيدي!

    عندئذٍ تغيرَت نبرة صوتها إلى توسل واستجداء:

    - أرجوكَ.. فأنا لَم آكُل منذ أيام.

    صعق مِن قولها، ومِن منظرها وأخذ الحزن الشديد يقهره وهو يرى البراءة وهي تدنس بهذا الشكل المخزي، حيث تقف طفلة تنطق بكلمات الفحش لتسد رمقها.

    ظلَّ واقفًا ينظر إليها دون حراك، فاقتربَت منه ومدَّت يدًا مرتعشة نحوه:

    - أرجوك سيدي، خذني كيفما تشاء، لكن أرجوك أعطِني بعض النقود حتى ولو قطعة واحدة.

    فقال لها وصوته يرتجف مِن الرحمة:

    - ماذا لو قدَّمتُ لكِ ما هو أفضل مِن ذلك؟

    - ماذا تقصد؟

    فنظر إليها بعطف واضعًا يده على كتفها العاري:

    - الخلاص.

    ارتجفت الكلمة في فمه، وامتدَّت إليه ارتجافتها التي علت جسدها فأطرقت لتقول:

    - إنكَ تهزأ بي، أليس كذلك؟

    - لا أبدًا، معاذ الله أن أفعل، إنِّي أودُّ إنقاذكِ وإنقاذ نفسي عزيزتي!

    أطرقت وهي تقول متردِّدة كمن تخشى صوتها:

    - لقد بحثتُ عنه كثيرًا لكني لَم أجده،

    فقال لها:

    - ماذا لو ساعدتُكِ في الحصول عليه والوصول إليه؟

    - ولكن كيف؟ كيف؟

    فقال لها:

    - أنا سأدلُّكِ على الدرب، وما عليك سِوَى أن تسيري فيه بقلب طاهر ونِيَّة صادقة؛ لأن طريق الرب مفتوح دائمًا للتائبِين، والرب يرحب دائمًا بالعائدِين إليه، فعودي إليه طفلتي ليعود إليكِ وإلى قلبك إن فتحتِه له وأسكنتِه فيه.

    فحلَّت كلماته الصادقة والواثقة مِن نفسها محل السوط مِن الجسد، وزادت مِن ارتعاشتها حتى أخذَت تبكي بصمت، فأشفق عليها وقال لها:

    - إن البكاء يطهر القلب ويسمو بالروح، لكنَّه ليس الحل.

    فقالت بصوت دامع: إذًا ما هو؟

    - أن تعديني، وتعدِي الرب بأن تتوقَّفي عمَّا تقومين به، بأن تكفِّري عن خطاياك.

    - والفقر ما أفعل به؟ كيف أقاومه؟ الصلاة لن تسدَّ رمقي، ولن تشفيَ والدتي المريضة، ولن توفر لها الدواء اللازم، إنَّ الأوان قد فات الآن، أنا لن أستطيع، حتى وإن أردتُ أن أفعل ذلك فلن أستطيع، مِن السهل عليكَ أن تقول هذا ولكن مِن المستحيل عليَّ أن أعود مِن البداية؛ فالدرب مضنٍ، وأنا متعَبة، والحياة أقسى وأقبح مِن ذلك بكثير، والطريق أشد حلكة ممَّا تتصوَّر، وهي لن تدعني وشأني.

    - مَن تقصدين؟

    شردَت وتاهت منه في صمت مخيف، وقد توقَّف جسدها عن الارتجاف وكأنَّها تحوَّلَت إلى كمٍّ مِن صخر أصمَّ.

    هالَه منظرها، وأرادها أن تعود إلى وعيها مِن جديد، قال:

    - لو منحتِني الفرصة لمساعدتكِ، ورغبتِ مِن كلِّ قلبكِ أن تساعدي نفسكِ لَنجَحنا بإنقاذ روحك، ولأَنرنا طريقكِ المظلم، فهل ستمنحيني الفرصة؟

    فقالت بتردد:

    - وما الذي ستفعله؟

    - هل هذه موافقتكِ التي أودُّ سماعها؟

    أطرقَت قليلًا ثمَّ قالت باستسلام مرتاب:

    - نعم.

    لكنَّه مع ذلك ابتسم، وربت على كتفها ثانية، ثمَّ خلع عنه معطفه، ووضعه عليها وأكمل:

    - وأنا أعدكِ بألَّا أخذلكِ أبدًا على ألَّا تخذلي نفسكِ أنتِ، والآن قولي لي ما اسمك؟

    - سيلينا.

    - أين تسكنين عزيزتي سيلينا؟

    - بالقرب مِن هنا.

    - تعالَي معي سأوصلكِ إلى البيت، ولتكون هذه الليلة ليلتك الأخيرة، ويكون فجر الغد بالنسبة إليكِ فجر يوم جديد، وأنا أعدكِ بهذا طفلتي.

    فابتسمَت وأشرق وجهها الشاحب المتعَب بضياء مؤقَّت، وكأنَّ نورًا قد حلَّ في قلبها محل الظلماء التي اكتنفَته.

    سارا معًا وهو يتبع خطواتها المترنِّحة، ولكن مطمئنة وكأن السماء قد أقبلَت عليها لأول مرة ولَم تعدم الرحمة، أصبحَت أنفاسها المضطربة سابقًا مستكينة حاضرًا، ودَّت لو تسير معه هكذا إلى الأبد، لكن الأبد قصير جدًّا وها قد اقتربا مِن الجحيم.

    بلغا بيتًا قديمًا ذا جدران متصدِّعة تكاد تنطق عن العذاب الذي يحتويه، أرعبَتها فكرة أنها ستعود إليها، توقَّفَت عنده، فنظر إليها وهو يتساءل إن كان هذا هو بيتها، فلَم تجب، لكنَّها ودَّعَته قائلةً:

    - شكرًا لكَ مهما كان اسمك ومهما كنتَ، لقد أثبتَّ لي اليوم أنه لا يزال هناك أحياء، وأنَّ الجميع لَم يَنفق.

    فودَّعها بعد أن أعطاها بعض النقود ممَّا بقيَ معه، وبعد أن وعدَته أن تأتيَ إلى الكنيسة غدًا ليجد لها عملًا، إمَّا في الكنيسة أو في مكان آخَر، شيَّعها بالسعادة، واستودَعها الأمل وهي تبتسم له مودِّعة لتختفي مجددًا في الظلام.

    نظر إلى السماء بامتنان متمتمًا: شكرًا لكَ لأنكَ ساعدتَني على إنقاذ روح مسكينة أخرى.

    ثمَّ استمَرَّ في طريقه والبرد يكاد ينخر عظامه، لكنَّه لَم يشعر بذلك، ولَم يأبَه له وذلك الشعور السامي بالخلاص قد شغلَه عن أي شعورٍ آخَر.

    استدار في زقاق صغير كان سيؤدي به إلى الساحة العريضة المؤدية نحو الكنيسة، أخذ قلبه يخفق للحظات وهو يستيقظ مِن إغفاءة القس ليقظة الرجل الذي نازع القس فيه، ولَم يزل يفعل وهما يتقاسمان معًا نشوة الخلاص وعذوبة الألم.

    وضع يده على قلبه محاولًا السيطرة على نبضاته التي تسارعت لهفة وسعيًا إليها، لَم تعد تجديه صلاة ولا استغفار، ولا آلاف مِن تسابيح المساء، ولا حتى أجنحة ملائكة السماء ستبعد تلك الصورة عن باله.

    حاول أن يمنع تلك الخاطرة من أن تغزوه، وأن يتصدى لقوتها لكنه لَم يستطع، فرفع رأسًا مترددًا إلى نافذة صغيرة في الطابق الثاني مِن بيت قديم، حاول أن يبعد نظره ما استطاع وهو يشاطر السماء بنظراته، فينظر إلى النافذة تارةً وإلى السماء تارةً أخرى وإلى الخلف تارةً خشية أن يراه أحد، ولسان حاله يردد:

    - الرب يراني، الرب يراني.

    تسَمَّر أمام البيت مباشرة، والتمس العون مِن الجدار المقابل، علَّه يحمل عنه آثامه، أسند إليه ظهره وهو مطرق، وكفه لَم تزل موضوعة على صدره حتى إن الناظر إليه ليظن أن خطبًا ما ألمَّ به أو علة ما قد أصابَته، وهذه هي بعض الحقيقة، فمذ رآها وهذا المرض يتسلل إلى جسده وروحه وهو يقف أمامه عاجزًا مشلولًا لا يستطيع فكاكًا، وليس بمقدوره أن يوقف ذلك الزحف الطاغي من أن يدخل حياته لينغص عليه ذلك الشعور الصافي بالنقاء والراحة التي تمتع بها لسنين طويلة حتى وقعَت عيناه عليها.

    حاول أن يتذكر متى حدث ذلك وكيف، لكنَّه لَم يستطع وكأنه قد عرفها عمره كله وليس منذ ثلاث سنوات فقط، شاغَلَه ضوء كان ينبعث مِن النافذة، أراد أن يلمس ذراته التي رأتها، أراد أن يلملمها بدلًا مِن أن تقع على الأرضية القاسية فتضيع فيها، أطرق يصلي دون أن يصلي، وقد انتهت الكلمات وانتأت الصلوات، وعقد زمام الأبد على ألا يكون هناك موت ولا حياة.. حب فقط.

    2

    رفع نظره ثانية بعد مدة، كان الضوء قد انطفأ وانطفأت معه ابتسامة خائفة رزح تحتها شعور جميل، سمح له بأن يطفوَ على وجهه للحظات فقط، لكنه ذهب بذهاب ذلك الضوء، وعادت نظرة الحزن العميقة لتغرق ملامحه العتيقة وهو ينظر بعين حزينة إلى النافذة المظلمة، تصلَّبَت تلك اللحظات وتجمَّدَت مع أنامله التي لَم تمسس أناملها أبدًا.

    ثم أطرق مجددًا وقد ذهب عنه ما اعتراه مِن البهجة والنشوة الزائفة، وعاد يخط طريقه المعتاد إلى الكنيسة التي سخر لها سنِي عمره الطويلة والتي تجاوزت الخمسين عامًا، أفنى منها ثلاثين عامًا فيما نذر نفسه له، ثلاثون عامًا مِن التفاني، والإخلاص، والوحدة.

    دخل الأب فانوتشي إلى الكنيسة بعد انقضاء جولته الليلية التي يقوم بها عادة، باحثًا فيها عمن أضاع طريقه فيدله إليه، ويأخذ بيد المحتاجِين والأشقياء تحت جنح الليل الثقيل، والذي يثقل كاهله أكثر وجود ذلك الكم مِن البؤس والشقاء في هذا العالم، فيحاول أن يسري عن نفسه بأنه على الأقل حاول تخفيف وطأة الظلم، وإزاحة هذا الهم الجاثم على صدره بأن يمد يده بالإحسان لأيادٍ كثيرة ممتدة نحوه ممرغة بالفقر والعوز.

    كانت كنيسته الصغيرة والتي قضى فيها السنوات الثلاثين الماضية، تمثل رمزًا مِن رموز الخير والعطاء، وهذا ما حاول فعله منذ اليوم الأول الذي خطا فيه خطوته الأولى داخلها، حيث أشرقَت في نفسه شمس الأمل والحماس والحلم بفجر عالم جديد

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1