Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

جنكيز خان وصناعة العالم الحديث
جنكيز خان وصناعة العالم الحديث
جنكيز خان وصناعة العالم الحديث
Ebook732 pages5 hours

جنكيز خان وصناعة العالم الحديث

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

جنكيز خان وصناعة العالم الحديث جاك ويذرفورد طوالَ 25 عامًا من الخوض في أصقاع الأرض نجح جيش المغول بقيادة جنكيز خان في إخضاع أراضٍ وشعوب أكثر مما فعل الرومان في 400 عام. وحقق المغول في كلّ بلدٍ غزوهُ نهضةً غير مسبوقة في التواصل الثقافي ووسعوا أفق التجارة ورسخوا أسس الحضارة التي نلمس أبعادها إلى يومنا هذا. ونظرًا لأنّه يحمل فكرًا تقدميًّا أرقى بكثير من فكر نظرائه الأوروبيين أو الآسيويين، ألغى جنكيز خان التعذيب، وفسح المجال للحريات الدينية العالمية، وحطم الأنظمة الإقطاعية ذات الامتياز الأرستقراطي، كما رسّخ نظامًا ماليًّا اقتصاديًّا متينًا شمل أدق التفاصيل. في رحلةٍ تنقلنا من انطلاقته عبر التشعبات القبلية المؤلمة وصولًا إلى ثورة الحضارة الهائلة التي فجرتها الإمبراطورية المغولية، يفتح هذا العمل المهم والرائع بصيرتنا على ما في التاريخ من تحريفٍ وزيفٍ ويروي لنا تفاصيل القصة الملحمية لصناعة العالم الحديث

Languageالعربية
Publishertevoi
Release dateMay 9, 2024
جنكيز خان وصناعة العالم الحديث

Related to جنكيز خان وصناعة العالم الحديث

Related ebooks

Reviews for جنكيز خان وصناعة العالم الحديث

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    جنكيز خان وصناعة العالم الحديث - جاك ويذرفورد

    سلالات المغول

    العائلة المالكة في إمبراطورية المغول العظمى

    الخان العظيم

    تشير الأعوام إلى فترات الحكم

    (التواريخ الواردة بين قوسين تشير إلى حكم متنازع عليه)

    يُدعى هذا الملك النبيل جنكيز خان،

    الذي حقق في عصره شهرة كبيرة

    وما من بقعة في العالم

    شهدت رجلًا، سيدًا،

    بارعًا في كلّ شيء، مثله.

    جيفري تشوسر،

    حكاية السيد،

    حكايات كانتربري (1395)

    جنكيز خان

    وصناعة العالم الحديث

    المقدمة

    الفاتح المفقود

    ’’كان جنكيز خان رجل أفعال لا أقوال‘‘

    واشنطن بوست، 1989

    عام 1937، اختفت روح جنكيز خان من الدير البوذي وسط منغوليا على طول نهر القمر أسفل جبال شانخ السوداء حيث تعهد اللامات المخلصون بحمايتها وتبجيلها على مدى قرون عدة. خلال ثلاثينيات القرن الماضي، أعدم أتباع ستالين نحو ثلاثين ألف مغولي في سلسلة حملات لإبادة ثقافتهم ودينهم. دمرت القوات ديرًا تلو الآخر، وأطلقت النار على الرهبان واعتدت على الراهبات وحطمت المعالم الدينية ونهبت المكتبات وأحرقت الكتب المقدسة وهدمت المعابد. وبحسب ما ورد، قام أحدهم سرًّا بإدخال روح جنكيز خان إلى جسده من دير شانخ ونقلها بعيدًا إلى العاصمة أولان باتور حيث اختفت في النهاية.

    على مرّ القرون عبر السهوب الخضراء الممتدة في آسيا الداخلية، حمل راعٍ محارب رايةً تدعى الروح، صنعت من جدلِ خصلات شعر أفضل فحول الخيل لديه وربطها إلى عصا الرمح أسفل النصل مباشرة. وكان كلما نصب معسكره، غرس المحارب راية الروح خارجًا أمام المدخل لإعلان وجوده وإثبات هويته وصيًّا دائمًا عليها. لطالما رفرفت راية الروح في الهواء الطلق تحت السماء الزرقاء السرمدية التي عبدها المغول. وحين تتطاير وتتناثر خصلات الشعر في نسيم السهوب الدؤوب، فإنها تقبض على قوة الرياح والسماء والشمس معًا، وتحملها هديةً من الطبيعة إلى المحارب.

    ألهمت الريح التي تداعب خصلات شعر الخيل أحلام المحارب وشجعته على متابعة المضي إلى مصيره. كان تدفقها وتمايلها مع الريح يغري صاحبها بالرحيل بعيدًا عن هذه البقعة للبحث عن أخرى وإيجاد مرعى أفضل واستكشاف فرص ومغامرات جديدة ليخلق مصير حياته في هذا العالم. نما الاتحاد بين الرجل وراية روحه وصار عظيمًا حتى إنه حين مات، قيل إن روح المحارب بقيت إلى الأبد تسكن خصلات شعر الخيل تلك. إذ طالما كان المحارب على قيد الحياة تحمل راية شعر الخيل مصيره؛ وعند موته تصير روحه. سرعان ما دفن الجسد المحسوس في الطبيعة، لكن الروح عاشت إلى الأبد في خصلات شعر الخيل تلك لتمنح الإلهام للأجيال القادمة.

    كان لدى جنكيز خان راية مصنوعة من شعر خيول بيضاء تستخدم في أوقات السلم وأخرى مصنوعة من شعر خيول سوداء تقود طريقه في الحرب. اختفت البيضاء مع بداية التاريخ، لكن السوداء عاشت لتبقى موئلًا لروحه. وفي القرون التي تلت وفاته، واصل المغول تكريم الراية حيث تسكن روحه. في القرن السادس عشر، قام أحد أبناء نسله، اللاما زنبازار، ببناء ديرٍ يضطلع رهبانه بمهمة خاصة تتمثل في السفر وحماية رايته. وسط الأعاصير والعواصف الثلجية والغزوات والحروب الأهلية، قام أكثر من ألف راهب من طائفة القبعة الصفراء البوذية التبتية بحراسة الراية العظيمة، لكنهم فشلوا في الانسجام مع السياسات الشمولية للقرن العشرين. فقُتل الرهبان واختفت راية الروح.

    القدر لم يرسم لجنكيز خان مصيره، لقد صنعه لنفسه، وبدا أنه من المستحيل أن يكون لديه ما يكفي من الخيول لصنع راية روح، ناهيك عن أنه قد يتبعها في شتى بقاع الأرض. نشأ الصبي -الذي أصبح جنكيز خان- في عالم من العنف القبلي المفرط تحكمه نزعات القتل والاختطاف والاسترقاق. ونظرًا لأنه ابن عائلة منبوذة فقد ترك ليموت في السهوب، ومن المرجح أنه لم يصادف أكثر من بضع مئات من الأشخاص في طفولته بأكملها، ولم يتلق أي تعليم رسمي. وفي ظل هذا الوضع القاسي، وبأدق التفاصيل المروعة تعلّم الطيف الكامل للمشاعر الإنسانية: الرغبة والطموح والقسوة. كان لا يزال طفلًا عندما قَتلَ أخاه الأكبر غير الشقيق، وخضع للأسر والاستعباد من قبل عشيرة منافسة ونجح في الفرار من خاطفيه.

    ووسط هذه الظروف الوحشية أظهر الصبي غريزة البقاء والحفاظ على الذات ولكن لم يظهر ما يعد بالإنجازات التي سيحققها ذات يوم. في طفولته كان يخشى الكلاب وتنهمر دموعه لأتفه الأسباب. وبدا أن أخاه الأصغر أقوى منه ويتمتع بمهارات أفضل منه في الرماية والمصارعة؛ في حين فرض أخوه غير الشقيق سيطرته عليه وضربه. ومع ذلك، ورغم هذه الظروف المنحطة والجوع والذل والاختطاف والعبودية، بدأ رحلته الطويلة إلى أعلى درجات القوة. وقبل أن يصل سن البلوغ، كان قد صاغ للتو أهم علاقتين في حياته. أقسم الصداقة الأبدية والولاء لصبي أكبر سنًّا منه بقليل أصبح أقرب صديق له في شبابه لكنه تحول إلى العدو الأكثر إخلاصًا لعدائه في سن رشده، ووجد الفتاة التي يحبها إلى الأبد ويجعلها والدة الأباطرة. القدرة المزدوجة على الصداقة والعداوة التي نشأت في شباب جنكيز خان استمرت طوال حياته وأصبحت السمة المميزة لشخصيته. والأسئلة المضنية عن الحب والأبوة التي طرحها على نفسه تحت غطاء يتقاسمه مع الآخرين أو أمام ضوء النار الوامض لموقد الأسرة، أصبحت تُعرض علنًا على خشبة المسرح الأكبر لتاريخ العالم. غمرت أهدافه الشخصية ورغباته ومخاوفه العالم.

    وسنة إثر سنة، تمكن تدريجيًّا من هزيمة كل شخص أقوى منه، حتى غزا كل قبيلة من قبائل السهوب المغولية. عندما بلغ الخمسين، وكان معظم الغزاة العظماء قد غادروا ساحات الوغى وتركوها وراءهم، أغرت راية روح جنكيز خان بالخروج من دياره النائية لمواجهة جيوش الشعوب المتحضرة الذين لطالما أنهكوا واستعبدوا القبائل البدوية لقرون.. وفيما تبقى من سنوات حياته، تبع راية الروح تلك لتحقيق الانتصار تلو الآخر عبر صحراء جوبي والنهر الأصفر ووسط ممالك الصين وفي أصقاع آسيا الوسطى بلاد الأتراك والفرس، وعبر جبال أفغانستان وصولًا إلى نهر السند.

    ومن غزوة إلى أخرى، حول الجيش المغولي الحرب إلى قضية عابرة للقارات يقاتلون على جبهات عدة تمتد عبر آلاف الأميال.  لاحظ جنكيز خان أن سلاح الفرسان -المدرعة الثقيلة التي عرفتها أوروبا في العصور الوسطى- قد عفا عليه الزمن، فلجأ إلى تقنياته القتالية المبتكرة واستبدله بسلاح فرسان منظم يتحرك ضمن وحدات منسقة، وبدلًا من الاعتماد على التحصينات الدفاعية، استخدم ببراعة عنصري السرعة والمفاجأة في ساحة المعركة، فضلًا عن إتقان حرب الحصار لدرجة أنه أنهى عصر المدن المحاطة بالأسوار. لم يعلّم جنكيز خان شعبه القتال عبر مسافات لا تصدق وحسب بل علمهم أيضًا كيف تدوم حملتهم لسنوات وعقود، وربما لأكثر من ثلاثة أجيال من القتال المستمر.

    في غضون خمسة وعشرين عامًا، أخضع الجيش المغولي بلادًا وشعوبًا أكثر مما احتله الرومان في أربعمئة عام. وغزا جنكيز خان مع أبنائه وأحفاده أكثر الحضارات كثافة سكانية في القرن الثالث عشر. سواء جرى تقديرها من خلال العدد الإجمالي للشعوب المهزومة أو مجموع الدول التي ضمت إلى إمبراطوريتهم أو إجمالي المساحة المحتلة، فقد غزا جنكيز خان أكثر من ضعف أي رجل آخر في التاريخ. تناثرت حوافر خيول المحاربين المغول في مياه كل نهر وبحيرة من المحيط الهادئ إلى البحر الأبيض المتوسط. وفي ذروة عظمتها، غطت الإمبراطورية ما بين 11 و12 مليون ميل مربع على امتداد واحد، وهي مساحة تقارب حجم القارة الإفريقية وأكبر بكثير من أمريكا الشمالية، أي مجموع مساحة الولايات المتحدة وكندا والمكسيك وأمريكا الوسطى وجزر الكاريبي. امتدت من التندرا الثلجية في سيبيريا إلى سهول الهند الحارة، ومن حقول الأرز في فيتنام إلى حقول القمح في المجر، ومن كوريا إلى البلقان. يعيش غالبية الناس اليوم في البلدان التي غزاها المغول، وحسب الخريطة الحديثة، تشمل فتوحات جنكيز خان ثلاثين دولة يزيد عدد سكانها على 3 مليارات نسمة. الجانب الأكثر إثارة للدهشة في هذا الإنجاز هو أن قبيلة المغول بأكملها تحت قيادته بلغ عدد أفرادها نحو مليون نسمة أي أقل من عدد القوى العاملة في بعض الشركات الحديثة. من هذا المليون، جند جيشه الذي لم يتألف من أكثر من مئة ألف محارب -مجموعة يمكن أن تجتمع بشكل مريح في بعض الملاعب الرياضية الأكبر في العصر الحديث-.

    ومن منظور أمريكي، قد يُفهم إنجاز جنكيز خان إذا اعتبرنا أن الولايات المتحدة، بدلًا من أن يؤسسها مجموعة من التجار المثقفين أو المزارعين الأثرياء، أسسها أحد عبيدها الأميين الذي تمكن بفضل قوة شخصيته وجاذبيته وإرادته من تحرير أمريكا من الحكم الأجنبي ووحد الشعوب وأنشأ أبجدية ووضع دستورًا ورسخ الحريات الدينية العالمية وابتكر نظامًا جديدًا للحرب وسيّر جيشًا من كندا إلى البرازيل وشقّ طرقًا للتجارة في منطقة تجارة حرة امتدت عبر القارات. على كل مستوى ومن أي منظور، يتحدى حجم ونطاق إنجازات جنكيز خان حدود الخيال ويرهق موارد التفسير العلمي.

    عندما اندفع فرسان جنكيز خان عبر القرن الثالث عشر، أعاد رسم حدود العالم. لم تكن هندسته المعمارية بواسطة الحجر بل بواسطة الأمم، ونظرًا لعدم رضاه عن العدد الهائل من الممالك الصغيرة، قام جنكيز خان بتوحيد البلدان الأصغر في دول أكبر. ففي أوروبا الشرقية، وحد المغول عشرات الإمارات والمدن السلافية في دولة روسية واحدة كبيرة. وفي شرق آسيا، وعلى مدى ثلاثة أجيال، أسسوا دولة الصين عن طريق نسج بقايا سلالة السونغ في الجنوب مع أراضي الجورشن في منشوريا والتبت في الغرب ومملكة تانجوت المجاورة لصحراء جوبي، وأراضي الأويغور شرق تركستان. ومع توسع المغول في حكمهم، أقاموا دولًا مثل كوريا والهند التي استمرت حتى العصر الحديث في نفس الحدود تقريبًا التي وضعها غزاة المغول.

    كما ربطت إمبراطورية جنكيز خان ودمجت العديد من الحضارات من حولها في نظام عالمي جديد. في الفترة التي ولد فيها عام 1162، ضمّ العالم القديم سلسلة من الحضارات الإقليمية التي يمكن لكل منها أن تدعي تقريبًا عدم علمها بوجود أي حضارة في ما وراء أقرب جار لها. لم يسمع أحد في الصين بأوروبا، ولم يسمع أحد في أوروبا عن الصين، وكما هو معروف، لم يقطع أي شخص المسافة من حضارة إلى أخرى. ومع وفاته عام 1227، كان قد ربط بينهم بعلاقات دبلوماسية وتجارية لم تنقطع بعد.

    وعندما أمر بإلغاء النظام الإقطاعي القائم على الامتيازات الأرستقراطية والوراثة، بنى نظامًا جديدًا وفريدًا يعتمد على الجدارة الفردية والولاء والإنجاز. استولى على المدن التجارية المفككة والضعيفة على طول طريق الحرير ونظمها لتصبح أكبر منطقة تجارة حرة في التاريخ، كما أنه خفض الضرائب على الجميع، وألغاها نهائيًّا للأطباء والمعلمين والكهنة والمؤسسات التعليمية. أنشأ نظام الإحصاء الرسمي لتعداد السكان وأول نظام بريدي دولي. لم تكن إمبراطوريته من النوع الذي يكنز الثروات والأموال؛ بل عمد إلى توزيع الغنائم المكتسبة في القتال على نطاق واسع حتى يتمكنوا من العودة إلى التداول التجاري. كما أنشأ قانونًا دوليًّا واعترف بالقانون الأعلى المطلق للسماء الزرقاء الخالدة على جميع الناس. وفي الوقت الذي اعتبر فيه معظم الحكام أنفسهم فوق القانون، أصر جنكيز خان على قوانين تحمل الحكام نفس القدر من المساءلة مثل أدنى راعٍ. لقد منح الحرية الدينية داخل عوالمه، رغم أنه طالب الرعايا المهزومين من جميع الأديان بالولاء التام له. أصر على حكم القانون وألغى التعذيب، لكنه شن حملات كبيرة للبحث عن عصابات قطاع الطرق والقتلة الإرهابيين وقتلهم. لقد رفض احتجاز الرهائن، وعمد بدلًا من ذلك إلى إرساء أسس الممارسات الجديدة المتمثلة في منح الحصانة الدبلوماسية لجميع السفراء والمبعوثين، بمن فيهم سفراء ومبعوثو الدول المعادية ممن هم في حالة حرب معه.

    ترك جنكيز خان إمبراطوريته بعد أن وطد فيها هذه الأسس الراسخة التي استمرت في النمو مئة وخمسين عامًا أخرى. وفي القرون التي أعقبت انهيار إمبراطوريته، استمر نسله في حكم مجموعة متنوعة من الإمبراطوريات الصغيرة والبلدان الكبيرة بدءًا من روسيا وتركيا والهند وصولًا إلى الصين وبلاد فارس. وحملوا مجموعة متنوعة من الألقاب ومنها لقب خان والإمبراطور والسلطان والملك والشاه والأمير والدالاي لاما. واستمرت آثار إمبراطوريته تحت حكم نسله لسبعة قرون. كما حكم بعض المغول الهند حتى عام 1857، عندما طرد البريطانيون الإمبراطور بهادور شاه الثاني وقطعوا رؤوس اثنين من أبنائه وحفيده. على حين بقي سليل جنكيز خان الحاكم، عليم خان، أمير بخارى، في السلطة في أوزبكستان حتى الإطاحة به عام 1920 بسبب المد المتصاعد للثورة السوفيتية.

    حكم التاريخ على معظم الغزاة الفاتحين بالموت البائس المبكر. ففي سن الثالثة والثلاثين، توفي الإسكندر الأكبر في ظروف غامضة في بابل، في حين قتل أتباعه عائلته وقسمت أراضيه. وعمد زملاء يوليوس قيصر الأرستقراطيون وحلفاؤه السابقون إلى طعنه حتى الموت في قاعة مجلس الشيوخ الروماني. وبعد أن عانى نابليون من دمار وخسارة كل فتوحاته، واجه الموت في سجن انفرادي في أقصى جزيرة نائية يتعذر الوصول إليها على هذا الكوكب. لكن جنكيز خان البالغ من العمر سبعين عامًا توفي في سريره في معسكره، محاطًا بعائلة محبة وأصدقاء مخلصين وجنود مخلصين مستعدين للمخاطرة بحياتهم تحت إمرته. في صيف عام 1227، وخلال حملة ضد شعب التانجوت على طول الروافد العليا للنهر الأصفر، مات جنكيز خان أو -على حد تعبير المغول، الذين يمقتون ذكر الموت أو المرض- صعد إلى الجنة. في السنوات التي أعقبت وفاته، أثارت السرية المستمرة التكهنات حول سبب الوفاة، ولاحقًا بدت الأساطير الملهمة التي ظهرت غالبًا مع مرور الزمن وكأنها حقيقة تاريخية. كتب بلانو دي كاربيني، أول مبعوث أوروبي إلى المغول، أن جنكيز خان توفي لأن صاعقة برقٍ ضربته. وأفاد ماركو بولو، الذي سافر عبر أصقاع الإمبراطورية المغولية في عهد قوبلاي حفيد جنكيز خان، أن جنكيز خان قد وافته المنية بسبب طعنة سهم أصابه في ركبته. وادعى البعض أن أعداء مجهولين وضعوا له السم. وأكد تفسير آخر أنه قُتل بمفعول تعويذة سحرية ألقاها عليه ملك تانجوت الذي كان في صراع معه. في حين ذكرت إحدى القصص التي تداولها منتقدوه أن ملكة تانجوت الأسيرة أدخلت أداة غريبة في مهبلها حتى إذا ما جامعها جنكيز خان تمزقت أعضائه التناسلية وهكذا فقد مات بسبب ألم رهيب.

    وعلى عكس الروايات العديدة حول وفاته، فإن موته في خيمة بدوية تشبه تلك التي ولد فيها، يوضح مدى نجاحه في الحفاظ على أسلوب الحياة التقليدي لشعبه؛ ومع ذلك، ومن المفارقات، أنه في حين حافظ على أسلوب حياتهم، فقد تمكن من تغيير المجتمع البشري. اصطحب جنود جنكيز خان جثة خانهم إلى دياره في منغوليا لدفنها سرًّا. بعد وفاته، دفنه أتباعه دون الكشف عن هويتهم في أرض وطنه دون ضريح أو معبد أو هرم أو شاهدة قبر صغيرة للإشارة إلى المكان الذي يرقد فيه. إذ وفقًا للاعتقاد المغولي، يجب ترك جثة الموتى في سلام ولا تحتاج إلى نصب تذكاري لأن الروح لم تعد موجودة فيها بل تعيش في راية الروح. وبعد دفنه، اختفى جنكيز خان بصمت عائدًا من حيث أتى إلى تضاريس الطبيعة الشاسعة لمنغوليا. ظلت الوجهة النهائية غير معروفة، ولكن في ظل عدم وجود معلومات موثوقة، اخترع الناس بحرية تاريخهم الخاص مع الكثير من الإضافات والتعديلات الدراماتيكية للقصة. تؤكد الرواية الأكثر شيوعًا أن الجنود الذين رافقوا موكبه الجنائزي قتلوا كل شخص وحيوان صادفوه في رحلة الأربعين يومًا، وأنه بعد الدفن السري، داس ثمانمئة فارس مرارًا وتكرارًا فوق المنطقة لإخفاء أي أثر لموقع القبر. ووفقًا لهذه الروايات الخيالية، فقد قُتل هؤلاء الفرسان بدورهم على أيدي مجموعة أخرى من الجنود حتى لا يتمكنوا من إفشاء سر الموقع؛ ومن ثم قُتل هؤلاء الجنود على يد مجموعة أخرى من المحاربين.

    وبعد الدفن السري في دياره أغلق الجنود المنطقة بأكملها لعدة مئات من الأميال المربعة. لا أحد يستطيع الدخول باستثناء أفراد عائلة جنكيز خان وقبيلة من المحاربين المدربين تدريبًا خاصًّا الذين تمركزوا هناك لقتل كل دخيل. لما يقرب من ثمانمئة عام، ظلت هذه المنطقة (إيخ خوريج Ikh Khorig أو المحرمات الكبرى)، في عمق قلب آسيا، مغلقة أمام العامة. يبدو أن جميع أسرار إمبراطورية جنكيز خان بقيت مدفونة داخل وطنه الغامض. بعد فترة طويلة من انهيار الإمبراطورية المغولية، وغزو الجيوش الأجنبية الأخرى لأجزاء من منغوليا، منع المغول أي شخص من دخول المنطقة المقدسة لأسلافهم، وعلى الرغم من تحول المغول في نهاية المطاف إلى البوذية، فإن خلفاءه رفضوا السماح للكهنة ببناء ضريح أو دير أو نصب تذكاري لإحياء دفنه.

    وفي القرن العشرين، وحرصًا على أن منطقة ولادة جنكيز خان وموضع دفنه لن تصبح نقطة تجمع للقوميين، أبقى الحكام السوفيت عليها حراسة مشددة. وبدلًا من تسميتها منطقة المحرمات الكبرى أو استخدام أحد الأسماء التاريخية التي تشير إلى أي ارتباط بجنكيز خان، أطلق عليها السوفيت تسمية بيروقراطية جدًّا منطقة محظورة للغاية. وعمدوا إلى فصلها إداريًّا عن المقاطعة المحيطة بها ووضعوها تحت الإشراف المباشر للحكومة المركزية التي كانت بدورها تخضع لسيطرة مشددة من موسكو. أغلق السوفيت المنطقة عبر محاصرة مليون هكتار منها بمنطقة محظورة أخرى بنفس مساحتها. ولمنع السفر داخل المنطقة، حظرت الحكومة بناء الطرق أو الجسور داخلها خلال الحقبة الشيوعية. واحتفظ السوفيت بقاعدة ميج الجوية شديدة التحصين، وربما مخزن للأسلحة النووية بين المنطقة المحظورة والعاصمة المنغولية أولان باتور. وسدّت قاعدة دبابات سوفيتية كبيرة المدخل إلى المنطقة المحرمة، واستخدم الجيش الروسي المنطقة لتدريبات المدفعية ومناورات الدبابات.

    لم يحقق المغول اختراقات تكنولوجية، ولم يؤسسوا ديانات جديدة، وكتبوا القليل من الكتب أو الأعمال الدرامية، ولم يمنحوا العالم أي محاصيل أو أساليب جديدة للزراعة. كما لم يستطع الحرفيون نسج القماش أو صب المعادن أو صنع الفخار أو حتى خبز الخبز. لم يصنعوا الخزف ولا الفخار ولم يرسموا أي لوحات، ولم يشيدوا أي مبانٍ. ومع ذلك، عندما غزا جيشهم ثقافة إثر ثقافة، جمعوا كل هذه المهارات ونقلوها من حضارة إلى أخرى.

    كانت الهياكل الدائمة الوحيدة التي أقامها جنكيز خان هي الجسور. على الرغم من أنه رفض بناء القلاع أو الحصون أو المدن أو الجدران، بينما كان يتنقل عبر التضاريس الطبيعية، فإن من المرجح أنه بنى جسورًا أكثر من أي حاكم آخر في التاريخ. لقد مد الجسور عبر مئات الجداول والأنهار من أجل تسريع حركة جيوشه وبضائعه. كما فتح المغول العالم عن عمد أمام تجارة جديدة ليس فقط للسلع بل أيضًا للأفكار والمعرفة. أحضر المغول عمال المناجم الألمان إلى الصين والأطباء الصينيين إلى بلاد فارس، وتراوحت عمليات النقل من الضخم إلى التافه. نشروا استخدام السجاد في كل مكان ذهبوا إليه وزرعوا الليمون والجزر من بلاد فارس إلى الصين، وكذلك حملوا المعكرونة وأوراق العنب والشاي من الصين إلى الغرب. كما أحضروا حدادًا من باريس لبناء نافورة على سهول منغوليا الجافة، وجندوا رجلًا إنجليزيًّا نبيلًا للعمل مترجمًا فوريًّا في جيشهم، وأخذوا مهنة أخذ البصمات من الصين إلى بلاد فارس. قاموا بتمويل بناء الكنائس المسيحية في الصين، والمعابد البوذية وقمم ستوبا البوذية في بلاد فارس، والمدارس القرآنية الإسلامية في روسيا. اجتاح المغول جميع أنحاء العالم بصفة غزاةٍ، لكنهم أيضًا حملوا معهم ثقافات لا تقدر بثمن إلى كلّ حضارة اجتاحوها.

    أنجز المغول الذين ورثوا إمبراطورية جنكيز خان حملات قوية لنقل المنتجات والسلع من مكان لآخر ودمجها بطرق أنتجت منتجات جديدة تمامًا وابتكارات غير مسبوقة. قام مهندسوهم ذوو المهارات العالية من الصين وبلاد فارس وأوروبا بدمج البارود الصيني مع قاذفات اللهب الإسلامية وطبقوا تكنولوجيا صب الجرس الأوروبية لصنع المدفع، وهو نظام جديد كليًّا للابتكار التكنولوجي، والذي نشأ منه ترسانة الأسلحة الحديثة الواسعة بدءًا من المسدسات إلى الصواريخ. وفي حين أن كل عنصر له بعض الأهمية، فإن التأثير الأكبر جاء في الطريقة التي اختار فيها المغول تلك العناصر ودمجها معًا لإنشاء تقنيات هجينة غير عادية.

    أظهر المغول حماسًا أمميًّا مخلصًا ومثابرًا في مساعيهم السياسية والاقتصادية والفكرية. إذ سعوا ليس فقط لغزو العالم بل لتأسيس نظام عالمي قائم على التجارة الحرة وقانون دولي موحد وأبجدية عالمية تُكتب بها جميع اللغات. قدم حفيد جنكيز خان، قوبلاي خان، عملة ورقية مخصصة للاستخدام في كل مكان وحاول إنشاء مدارس ابتدائية لتعميم التعليم الأساسي لجميع الأطفال من أجل تعليم الجميع. نقّح المغول ودمجوا التقاويم لإنشاء تقويم مدته عشرة آلاف سنة أكثر دقة من أي تقويم سابق، وتكفلوا برسم أكثر الخرائط شمولًا على الإطلاق. شجع المغول التجار على السفر برًّا للوصول إلى إمبراطوريتهم، وأرسلوا المستكشفين عبر البر والبحر حتى إفريقيا لتوسيع نفوذهم التجاري والدبلوماسي.

    في كل بلد لمسه المغول تقريبًا، أدى الدمار الأولي وصدمة الغزو من قبل قبيلة غير معروفة وبربرية بسرعة إلى ارتفاع غير مسبوق في التواصل الثقافي وتوسيع نطاق التجارة والارتقاء بالحضارة. في أوروبا، ذبح المغول الفرسان الأرستقراطيين في القارة، لكن خيبة أملهم من حالة الفقر العام السائدة مقارنة بالدول الصينية والإسلامية، عادوا أدراجهم ولم يكلفوا أنفسهم عناء احتلال المدن أو نهب البلدان أو حتى دمجهم في الإمبراطورية المتوسعة. في النهاية، عانت أوروبا أقل من غيرها لكنها استحوذت على جميع مزايا الاتصال مع التجار مثل عائلة بولو في البندقية والمبعوثين المتبادلين بين الخانات المغول وباباوات وملوك أوروبا. خلقت التكنولوجيا والمعرفة والثروة التجارية الجديدة عصر النهضة حيث أعادت أوروبا اكتشاف بعض ثقافتها السابقة، ولكن الأهم من ذلك أنها تبنّت تكنولوجيا الطباعة والأسلحة النارية والبوصلة والمعداد من الشرق. كما لاحظ العالم الإنجليزي روجر بيكون في القرن الثالث عشر، فإن المغول لم ينجحوا فقط بفضل التفوق العسكري وحسب بل نجحوا بفضل العلم. وعلى الرغم من أن المغول متحمسون للحرب، فقد تقدموا إلى هذا الحدّ لأنهم يكرسون أوقات فراغهم لمبادئ الفلسفة.

    ويبدو أن كل جانب من جوانب الحياة الأوروبية -التكنولوجيا والحرب والملابس والتجارة والطعام والفن والأدب والموسيقى- تغير خلال عصر النهضة نتيجة للتأثير المغولي. بالإضافة إلى أشكال القتال الجديدة والآلات الجديدة والأطعمة الجديدة، تغيرت حتى أكثر الجوانب العادية للحياة اليومية حيث تحول الأوروبيون إلى الأقمشة المنغولية وارتدوا السراويل والسترات بدلًا من السترات القصيرة والجلباب، وعزفوا آلاتهم الموسيقية باستخدام قوس السهوب بدلًا من النقر عليها بالأصابع كما أنهم رسموا لوحاتهم بأسلوب جديد. حتى إن الأوروبيين التقطوا هتافات تشجيع المغول واستخدموها هتافًا حماسيًّا للتعبير عن الجرأة والتشجيع المتبادل.

    وفي ضوء العديد من الإنجازات التي حققها المغول، فإنه من غير المستغرب أن جيفري تشوسر، أول مؤلف باللغة الإنجليزية، كرس أطول قصة في حكايات كانتربري عن المغولي الآسيوي جنكيز خان. كتب في رهبة صريحة عنه وعن إنجازاته. ومع ذلك، في الواقع، من المدهش أن مثقفي عصر النهضة أمكنهم أن يدلوا بمثل هذه التعليقات حول المغول في حين ينظر إليهم بقية العالم الآن على أنهم البرابرة المتعطشون للدماء. صورة المغول التي تركها تشوسر أو بيكون لا تشبه كثيرًا الصور التي نعرفها من الكتب أو الأفلام اللاحقة التي تصور جنكيز خان وجيشه على أنهم جحافل متوحشة تتوق إلى الذهب والنساء والدم.

    على الرغم من العديد من الصور واللوحات لجنكيز خان في السنوات اللاحقة، لم نجد صورة له رسمت في حياته. إذ على عكس أي فاتح آخر في التاريخ، لم يسمح جنكيز خان أبدًا لأي شخص برسم ملامحه أو نحت صورته أو نقش اسمه أو شكله على عملة معدنية، والوصف الوحيد المتاح له من معاصريه أكثر إثارة للاهتمام من كونه مفيدًا. على حد تعبير أغنية مغولية حديثة عن جنكيز خان تقول: تخيلنا مظهرك لكن عقولنا كانت فارغة.

    وبغياب أي صور لجنكيز خان أو أي سجل مغولي، ترك العالم يتخيله كما يشاء. لم يجرؤ أحد على رسم صورته إلا بعد مرور نصف قرن على وفاته، ثم قامت كل ثقافة بإسقاط صورتها الخاصة عنه. صوره الصينيون رجلًا عجوزًا له لحية خفيفة وعينان فارغتان، بدا وكأنه حكيم صيني شارد الذهن أكثر من كونه محاربًا مغوليًّا شرسًا. على حين صوره رسام المنمنمات الفارسي على أنه سلطان تركي جالس على العرش. وصوره الأوروبيون على أنه نموذج البربري ذو النظرة الشرسة والعيون القاسية الثابتة، والقبيح في كل تفاصيله.

    تركت السرية المغولية مهمة شاقة لمؤرخي المستقبل الذين رغبوا في الكتابة عن جنكيز خان وإمبراطوريته. كان لدى كتاب السيرة الذاتية والمؤرخين القليل جدًّا ليؤسسوا عليه أبحاثهم. عرفوا التسلسل الزمني للمدن التي تعرضت للغزو وهزيمة الجيوش. ومع ذلك، لم يكن هناك سوى القليل من المعلومات الموثوقة في ما يتعلق بأصله أو شخصيته أو دوافعه أو حياته الشخصية. على مر القرون، أكدت شائعات لا أساس لها أنه بعد وفاته بفترة وجيزة، كتبت المعلومات حول كل هذه الجوانب من حياة جنكيز خان في وثيقة سرية من قبل شخص مقرب منه. وأشار العلماء الصينيون والفرس إلى وجود الوثيقة الغامضة، وادعى بعض العلماء أنهم رأوها خلال ذروة الإمبراطورية المغولية. وبعد ما يقرب من قرن من وفاة جنكيز خان، وصف المؤرخ الفارسي رشيد الدين الكتابات بأنها سجل أصيل مكتوب بالألفاظ والحروف المغولية. لكنه حذر من أنها محفوظة في الخزينة، حيث أخفيت وحجبت عن الغرباء. وشدد على أنه لم تُمنح الفرصة لأي شخص ربما تمكن من فهم النص المغولي والتمعن فيه. ويبدو أن معظم آثار الوثيقة السرية قد اختفت بعد انهيار حكم المغول، وبمرور الوقت اعتقد العديد من أفضل العلماء أن هذا النص لم يكن موجودًا أبدًا، وأنه مجرد أسطورة أخرى من الأساطير العديدة حول جنكيز خان..

    إذ كما صوره الرسامون الخياليون من مختلف البلدان بشكل مختلف، فعل العلماء الشيء نفسه. بدءًا من كوريا وحتى أرمينيا، قاموا بتأليف كل أنواع الأساطير والقصص الخيالية عن حياة جنكيز خان. وفي ظل غياب أي معلومات موثوقة، عمدوا إلى إسقاط مخاوفهم ورهابهم على هذه القصص. مع مرور القرون، وازن العلماء ما بين الفظائع والعدوانية التي ارتكبها رجال مثل الإسكندر أو قيصر أو شارلمان أو نابليون مقابل إنجازاتهم أو أثرهم في التاريخ. أما بالنسبة لجنكيز خان والمغول، فقد تجاهلوا إنجازاتهم وركزوا على المغالاة في وصف جرائمهم ووحشيتهم المزعومة. أصبح جنكيز خان الصورة النمطية للبرابرة، الرجل الهمجي الدموي، والفاتح الذي لا يرحم بل يستمتع بالدمار بحد ذاته. أصبح جنكيز خان، وحشوده المغولية، وإلى حد كبير الشعب الآسيوي بشكل عام، رسومًا كاريكاتورية أحادية البعد ترمز لكل من سبقته الحضارة.

    في نهاية القرن الثامن عشر، ومع حلول عصر التنوير، ظهرت هذه الصورة الخطيرة في مسرحية فولتير يتيم الصين التي تتحدث عن غزو جنكيز خان للصين: يُدعى ملك الملوك، جنكيز خان الناري الذي يهدر حقول آسيا الخصبة. إذ على النقيض من مدح تشوسر لجنكيز خان، وصفه فولتير بأنه طاغية مدمر... يدوس بعنجهيةٍ أعناق الملوك ولكنه ليس أكثر من جندي بدويّ متوحش من السكوثيون تربى على حمل السلاح والخوض في تجارة الدم (الفصل الأول، المشهد الأول). صور فولتير جنكيز خان رجلًا حانقًا على الفضائل المثلى للحضارة من حوله تدفعه رغبة بربرية موروثة إلى إغراء النساء المتحضرات وتدمير كل ما لا يستطيع فهمه.

    حازت قبيلة جنكيز خان مجموعة متنوعة من الأسماء: كالتتار والمغول والموول والمونغول، لكن الاسم لطالما حمل لعنة بغيضة، فعندما أراد علماء القرن التاسع عشر إظهار دونية السكان الآسيويين والهنود الأمريكيين، صنفهم على أنهم مغوليون. وعندما أراد الأطباء تفسير سبب إنجاب الأمهات من العرق الأبيض المتفوق أطفالًا متخلفين، أوضحت ملامح وجوه الأطفال أن إحدى النساء من أسلاف الطفل تعرضت للاغتصاب على يد محارب منغولي؛ لم يصنف هؤلاء الأطفال البائسون من البيض على الإطلاق بل أعضاء في العرق المنغولي، وعندما تباهى أغنى الرأسماليين بثرواتهم وأظهروا قيمًا معادية للديمقراطية أو معادية للمساواة، تعرضوا للسخرية ونعتوا بكلمة moguls الاسم الفارسي للمغول.

    وهكذا، أصبح المغول كبش فداء لإخفاقات وأوجه قصور الدول الأخرى. عندما لم تستطع روسيا مواكبة تكنولوجيا الغرب أو القوة العسكرية للإمبراطورية اليابانية، كان ذلك بسبب نَير التتار الرهيب الذي وضعه جنكيز خان حول عنقها. وعندما تراجعت بلاد فارس عن جيرانها، كان ذلك لأن المغول دمروا نظام الري. وعندما تخلفت الصين عن اليابان وأوروبا، كان ذلك بسبب الاستغلال والقمع الوحشي الذي فرضه المغول والمانشو. أما الهند فلم تتمكن من مقاومة الاستعمار البريطاني بسبب الجشع غير المحدود لحكم المغول، حتى إن السياسيين العرب في القرن العشرين أكدوا لأتباعهم أن المسلمين كانوا ليخترعوا القنبلة الذرية قبل الأمريكيين لو لم يحرق المغول مكتبات العرب الرائعة ويدمروا مدنهم عن بكرة أبيها. وعندما أطاحت القنابل والصواريخ الأمريكية بطالبان من السلطة في أفغانستان عام 2002، ساوى جنود طالبان الغزو الأمريكي بغزو المغول، مما دفعهم إلى انتقام وحشي قتل على إثره الآلاف من الهزارة، أحفاد الجيش المغولي الذين عاشوا في أفغانستان طوال ثمانية قرون. خلال العام التالي، في خطاب من آخر خطاباته للشعب العراقي، وجه الديكتاتور صدام حسين اتهامات مماثلة ضد المغول حين تحرك الأمريكيون لغزو بلاده وإزاحته من السلطة.

    وسط الكثير من الخطب السياسية والعلوم الزائفة والخيال الأكاديمي، ظلت حقيقة جنكيز خان مدفونة، ويبدو أنها فقدت للأجيال القادمة. ظل وطنه والمنطقة التي صعد فيها إلى السلطة مغلقين على العالم الخارجي من قبل شيوعيي القرن العشرين الذين أبقوها موصدة بإحكام كما فعل المحاربون خلال القرون السابقة. الوثائق المنغولية الأصلية، أو ما يسمى التاريخ السري للمغول، ليست سرية فحسب، بل اختفت وتلاشت في أعماق التاريخ بشكل غامض أكثر من مقبرة جنكيز خان.

    في القرن العشرين، أعطى تطوران فرصة غير متوقعة لحل بعض الألغاز وتصحيح جزء من سجلات التاريخ عن جنكيز خان. التطور الأول هو فك رموز المخطوطات التي تحتوي على التاريخ الثمين المفقود لجنكيز خان. على الرغم من التحيز والجهل في ما يتعلق بالمغول، فقد أبلغ العلماء على مر القرون عن لقاءات عرضية مع المخطوط المغولي الأسطوري الذي يتحدث عن حياة جنكيز خان. مثل بعض الحيوانات النادرة أو الطيور الثمينة التي ظنّ البعض أنها انقرضت، فإن شائعات مشاهدة المخطوط أثارت شكوكًا أكثر من علم اليقين. وأخيرًا، عثر في القرن التاسع عشر على نسخة من المخطوط المدون بأحرف صينية في بكين. يقرأ العلماء الأحرف بسهولة، لكن الكلمات لا معنى لها لأنها دونت وفق رمز يستخدم الأحرف الصينية لتمثيل الأصوات المنغولية في القرن الثالث عشر. يمكن للعلماء قراءة ملخص صغير باللغة الصينية فقط مرفقًا بكل فصل يشرح تلميحات محيرة عن القصة في النص، ولكن بخلاف ذلك ظلت المخطوطة غير قابلة للتفسير. بسبب الغموض الذي يحيط بالمخطوطة، أشار إليها العلماء باسم التاريخ السري للمغول، وهو الاسم الذي تعرف به إلى اليوم.

    طوال معظم القرن العشرين، ظل فك رموز التاريخ السري خطيرًا للغاية في منغوليا. احتفظت السلطات الشيوعية بالكتاب بعيدًا عن أيدي عامة الناس والعلماء خوفًا من أن يتأثروا بشكل غير لائق بالمنظور القديم وغير العلمي وغير الاشتراكي للنص، لكن حركة علمية سرية نمت حول مخطوط التاريخ السري، ففي معسكرات البدو الرحل عبر السهوب، انتشرت القصة المتناقلة همسًا عن التاريخ المكتشف حديثًا من شخص لآخر، ومن مخيم إلى آخر. أخيرًا، كان لديهم تاريخ يروي قصتهم من منظور المغول. كان المغول أكثر بكثير من مجرد برابرة قاموا بمضايقة الحضارات المتفوقة من حولهم. بالنسبة للبدو المغول، بدا أن الكشف عن التاريخ السري يأتي من جنكيز خان نفسه، الذي عاد إلى شعبه ليمنحهم الأمل والإلهام. بعد أكثر من سبعة قرون من الصمت، تمكنوا أخيرًا من سماع كلماته مرة أخرى. على الرغم من القمع الشيوعي الرسمي، بدا الشعب المغولي مصممًا على أنه لن يفقد هذه الكلمات مرة أخرى. لفترة وجيزة، شجع تحرير الحياة السياسية بعد وفاة ستالين في عام 1953 وانضمام منغوليا إلى الأمم المتحدة في عام 1961 الشعب المنغولي وشعروا بالحرية في حق إعادة استكشاف تاريخهم. أعدت البلاد سلسلة صغيرة من الطوابع عام 1962 للاحتفال بالذكرى الثمانمئة لميلاد جنكيز خان. أذن تومور أوشير، ثاني أعلى عضو في الحكومة، بإقامة نصب تذكاري خرساني للاحتفال بمسقط رأس جنكيز خان بالقرب من نهر أونون، وقام برعاية مؤتمر للعلماء لتقييم الجوانب الجيدة والسيئة للإمبراطورية المغولية في التاريخ. رسم كل من الختم والخط البسيط المرسوم على النصب التذكاري صورة الروح المفقودة لجنكيز خان، في خصل شعر الخيل لراية الروح التي تبعها في غزواته وحيث التحف جثمانه الثرى واستراحت روحه.

    ومع ذلك، بعد ما يقرب من ثمانية قرون، حمل هذا السرد معنى عاطفيًّا عميقًا لكل من المغول وبعض الشعوب التي غزاها لدرجة أن الروس تعاملوا مع مجرد عرض صورته على طابع على أنه إحياء قومي وعدوان محتمل. تمثل رد فعل السوفيت بغضب غير عقلاني خوفًا من أن هذه الدولة التابعة قد تتبع مسارًا مستقلًّا أو الأسوأ من ذلك، أن تقف إلى صف جارة منغوليا الأخرى، الصين، الحليف السابق للاتحاد السوفيتي الذي تحول إلى عدو. في منغوليا، قمعت السلطات الشيوعية التعامل بهذه الطوابع ونقاش العلماء. عقابًا على جريمة خيانته المتمثلة في إظهار ما وصفه مسؤولو الحزب بـالميول الموجهة نحو إضفاء الطابع المثالي على دور جنكيز خان، أزاحت السلطات تومور أوشير من منصبه، ونفته إلى منفى داخلي، وفي النهاية قطعوه إربًا حتى الموت بفأس. بعد تطهير حزبهم نفسه، ركز الشيوعيون الانتباه على عمل العلماء المنغوليين، الذين وصفوا بأنهم عناصر مناهضة للحزب، أو جواسيس صينيون، أو مخربون، أو مثيرون للإزعاج. في الحملة المناهضة للقومية التي أعقبت ذلك، قامت السلطات بزج عالم الآثار بيرلي في السجن، حيث احتجزوه في ظروف قاسية للغاية لمجرد أنه مدرس لتومور أوشير ولقيامه ببحث سري

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1