Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

القبر الأبيض المتوسط
القبر الأبيض المتوسط
القبر الأبيض المتوسط
Ebook488 pages2 hours

القبر الأبيض المتوسط

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

رواية يَصعب تصديقُ أحداثها، لكنَّها وقعَت على أيِّة حال ورُويَت كما هي: بطلها الأستاذ الجامعي د. وجدي المتخصِّص في التاريخ، تتغير نظرته إلى التاريخ فيمقته ويهجرُه إلى الأدب بمحاولة كتابة أوَّل رواية له. تستعصي عليه فكرتها. يعلم – بطريقة ما – أن دوستويفسكي مات ولَم يتمكَّن مِن كتابة الجزء الثَّاني من "الأخوة كارامازوف" الَّذي خططَ أن يأتيَ بعد عشرين سنةً مِن حياة أبطال الجزء الأول، في حين أن ثمة طرف خفيّ غير منظور له مصلحة مباشرة في سفر د. وجدي إلى مدينة سانت بطرسبرج الروسيَّة التي عاش وكتبَ ومات فيها دوستويفسكي. يسافر إليها بالفعل وقد وضع في حسبانه أن يجد مَن يستحضر له روح دوستويفسكي لكي تملي عليه نص الجزء الثاني الذي لَم يُكتب. فشلت عمليَّة الاستحضار والسبيل الوحيد أمام البطل للحصول على فكرة روايته أن يعود بروحه وفي جسدٍ كائن آخر إلى أيام دوستويفسكي ومعايشته عن قرب. العجوز الشامانية التي يتعرَّف عليها مصادفة وتُقنعه بالسفر إلى موطنها سيبيريا، تبين أنها تملك قدرات خاصة وتجري له طقس إعادته إلى عصر دوستويفسكي في شكل روحه تحلّ في كائن آخر؛ فكيف ستتطوَّر الأحداث بعد ذلك؟ وما هو مصير بطلنا وهو يُلاحق فكرة لا أكثر؟
Languageالعربية
Release dateMar 29, 2024
ISBN9789948762300
القبر الأبيض المتوسط
Author

كريم صبح

وُلدَ كريم صبح عطية العبيدي في مُحافظة كركوك – العراق في عام 1969م. حائز على دكتوراه تاريخ مُعاصِر مِن قسم التَّاريخ – كليَّة التَّربيَّة، ابن رُشد – جامعة بغداد. أستاذُ التَّاريخ الأمريكي في جامعة بغداد، وله خمسة كتُبٍ في تاريخ الولايات المتَّحدة وعضو الاتِّحادِ العامِّ للأدباءِ والكتَّابِ في العراق. له ثلاث مجاميع قصصيَّة منشورة، هي: بائِع الألَم، رأسٌ للإيجار، مالك المقبرَة.. وله روايةٌ واحِدة مَنشورة، عنوانُها: "الوَجه الآخر للضَّباب".

Related to القبر الأبيض المتوسط

Related ebooks

Related categories

Reviews for القبر الأبيض المتوسط

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    القبر الأبيض المتوسط - كريم صبح

    القبر الأبيض المتوسط

    كريم صبح

    Austin Macauley Publishers

    القبر الأبيض المتوسط

    كريم صبح

    حقوق النشر©

    التَّاريخ.. قطيعة

    1

    2

    3

    المُتقاعِد

    1

    2

    مَرام

    1

    2

    3

    4

    إيحاء

    1

    2

    بطرسبرج

    1

    2

    3

    تاتيانا

    1

    2

    3

    الجناح

    1

    2

    المُحاصَر

    1

    2

    السيِّدة بافلوفنا

    1

    2

    الأَرْوَاحُ

    1

    كافكا السُّوداويُّ!

    1

    2

    3

    السيّدةُ المُبجَّلَة

    1

    2

    سيبيريا.. المَسار العَجيب

    1

    2

    3

    4

    5

    بابوشكين

    1

    2

    طاولة المجلس الشَّاماني

    1

    2

    حكايا

    1

    2

    3

    خياران

    1

    2

    بينَ اثنتَين

    1

    2

    3

    إعداد

    1

    أنا

    أرتيم

    الدُّكتور وجدي

    2

    بينَ مُقبِّلات حمزاتوف الثّلاثة

    1

    2

    ثلاثتُنا

    1

    2

    3

    4

    ظِلُّه

    1

    2

    كريم صبح

    وُلدَ كريم صبح عطية العبيدي في مُحافظة كركوك – العراق في عام 1969م.

    حائز على دكتوراه تاريخ مُعاصِر مِن قسم التَّاريخ – كليَّة التَّربيَّة، ابن رُشد – جامعة بغداد.

    أستاذُ التَّاريخ الأمريكي في جامعة بغداد، وله خمسة كتُبٍ في تاريخ الولايات المتَّحدة وعضو الاتِّحادِ العامِّ للأدباءِ والكتَّابِ في العراق.

    له ثلاث مجاميعَ قصصيَّة منشورة، هي: بائِع الألَم، رأسٌ للإيجار، مالك المقبرَة.. وله روايةٌ واحِدة مَنشورة، عنوانُها: الوَجه الآخر للضَّباب.

    حقوق النشر©

    كريم صبح 2024

    يمتلك كريم صبح عطية العبيدي الحق كمؤلف لهذا العمل، وفقًا للقانون الاتحادي رقم (7) لدولة الإمارات العربية المتحدة، لسنة 2002 م، في شأن حقوق المؤلف والحقوق المجاورة.

    جميع الحقوق محفوظة

    لا يحق إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب، أو تخزينه، أو نقله، أو نسخه بأي وسيلة ممكنة؛ سواء كانت إلكترونية، أو ميكانيكية، أو نسخة تصويرية، أو تسجيلية، أو غير ذلك دون الحصول على إذن مسبق من الناشرين.

    أي شخص يرتكب أي فعل غير مصرح به في سياق المذكور أعلاه، قد يكون عرضة للمقاضاة القانونية والمطالبات المدنية بالتعويض عن الأضرار.

    الرقم الدولي الموحد للكتاب 9789948762317 (غلاف ورقي)

    الرقم الدولي الموحد للكتاب 9789948762300 (كتاب إلكتروني)

    رقم الطلب: MC-10-01-0561235

    التصنيف العمري: E

    تم تصنيف وتحديد الفئة العمرية الَّتي تلائم محتوى الكتب وفقًا لنظام التصنيف العمري الصادر عن وزارة الثقافة والشباب.

    الطبعة الأولى 2024

    أوستن ماكولي للنشر م، م، ح

    مدينة الشارقة للنشر

    صندوق بريد [519201]

    الشارقة، الإمارات العربية المتحدة

    www.austinmacauley.com

    +971 655 95 202

    التَّاريخ.. قطيعة

    1

    هأنا أحلُّ ضيفًا عليه؛ ضيف تعوَّد الصقيعَ ولكنَّ دفءَ بغداد ينعشه، أيقنتُ أنَّ نبوءتنا القديمةَ تنطبق عليه بحذافيرها، وجدتُّه قابضًا على جَمرٍ من أسئلة، مُحارِب قديم هو، والمحاربُ القديم لا يتخلَّى عن سلاحه بسهولة، قد يحتاجُ إليه يومًا، أنهكَه صراعٌ مُحتدِمٌ بينَ خيارَيه؛ إمَّا مواصلة حياته القديمة بكُلِّ روتينها ورتابتها، أو الولوج إلى حياة جديدة والانغماس في عوالمها.. إجابةٌ واحِدة، صحيحة أو غير صحيحة، قَد تُحدِّد مَصيرَه، تُعيد توجيهَ قَدره، وما إذا كانَ قد خرجَ من حياتِه القَديمة بخسائر جانبيَّة قليلة أو كثيرة.. أحرقَهُ الجمرُ، وكم كانَ مُحرِقًا بالفعل! لِمَ وَجَبَ عليه أن يتبرَّأ منَ التاريخ؟ هل لأنَّه ابتعد عنه بمقدارٍ كافٍ في أعوامه الأربعةِ الأخيرة، أم لأنَّه صار ينظر إليه بصفته عدوًّا وهو المسالِمُ طوالَ حياته الأولى؟!

    أطالَ الوقوف عند رفوف مكتبته، ألقتْه كتبُها التَّاريخيَّة في أُتون ثورة داخليَّة جعلَته يصبُّ لعناته على التَّاريخ، ولماذا ذلك كلُّهُ؟ لأنَّ التَّاريخَ – في حقيقته – عَفَنٌ وذاكرةُ أحقادٍ وُرِّثَت مثلما تُورَّثُ الأراضي والقصور، ليس هو وحدهُ، ليذهَبَ هو وأبوهُ إلى الجحيمِ إذن! تعسًا وبئسًا لهُما.

    لَم تهدأْ ثورتُه بعد؛ أسئلتُه ولُودٌ، إن كانَ كَرِهَ الابنُ بهذا المقدارِ الَّذي أجَّج ثورتَهُ وأقضَّ مضجعَه منذُ مدَّة، فما سبب بغضه للأبِ بالمقدار نفسه؟

    وَجَبَ عليه أن يتذكَّرَ دائِمًا أنَّ اليوناني هيرودوت كتبَ روايتَه الأولى قبل أكثر من ألفَي سنةٍ، لذلكَ نظرَ النَّاس إليه على أنَّه أوَّلُ روائيٍّ على صعيد العالَمِ، بل أطلقُوا عليه اسمَ أبا التَّاريخ؛ بحجَّة أنَّه أوَّلُ مؤرِّخٍ جمَعَ مادَّتَه بطريقة منهجيَّة، وسردَها بطريقةٍ شيِّقةٍ وجديدةٍ، مُهمِلًا الأساطيرَ والخرافاتِ، هل هناكَ تاريخٌ حقيقيٌّ؟ لقَد ضاق ذرعًا بالتَّاريخِ، المصدوقِ منه والمكذوب، فكلاهُما يُشعلان الحروبَ؛ كلاهُما متعطشٌّ للدِّماءِ؛ وكلاهُما يتجاهلان الضَّحايا.

    سَرَدَ تاريخ هيرودوت مخازي الحروبِ والقتل والدِّماء بطريقة أكثر إقناعًا للنَّاسِ، وأكثر تشويقًا لهم، جعلَت الملوكَ والأباطرة أشدَّ رغبةً في أن يكون لهم مجدُهم الشخصيُّ المبهِر في التَّاريخ؛ حتَّى إن قام ذلك المجد على الطُّغيان، وشُيِّدَ على الجماجم، المؤرِّخون العرب تفوَّقُوا على أستاذهم وفعلوا أكثر ممَّا فعلَ؛ سوَّغوا للأمراء والسلاطين والملوك والرُّؤساءِ توريثَ تاريخِهم الدَّمويِّ، "وما أسعدَ أمَّةً لا تاريخَ لها!" على نحو ما ذهبَ إليهِ مَثلٌ إيطاليٌّ غابِر.

    الوقوفُ الطويلُ عندَ الرُّفوف أنهكَهُ، عادَ وجلس على كرسيِّه الخشبيِّ خلفَ مكتبٍ حديديٍّ، اللَّيلُ في أوَّلهِ، ولولا إفراغُ نيسانهِ المطير هذا العام آخر ما في سحابِه بغزارةٍ قبلَ ساعةٍ، لظنَّ أنَّ ليلَهُ تقصَّد أن يُنعِمَ عليه بهدوءٍ غريبٍ وفريد، وربَّما سهَّل عليه العثورَ عمَّا هو بصددِ البحثِ عنه.

    تحسَّسَ حزمةَ ورقٍ، لا يتذكَّرُ في أيِّ وقت تحديدًا وضعَها أمامَه على المكتب، قلمُه الرَّصاص المُمدَّد فوقَها بدا له كمَنِ انتظرَ قبل أن يغلبَه النُّعاسُ ويذهبُ في غَفوةٍ، قفزَ من كرسيِّه وسيجارة بينَ شفتَيه، راح يخطو خطواتٍ قصيرةً في حجرتِه، تقعُ عيناهُ – كما تفعلان دائِمًا عندَما يكونُ في عزلتِه – على شهادةٍ جداريَّةٍ جامعيَّةٍ، خُطَّت سطورُها منذُ سنواتٍ خَلَت.

    2

    تقعُ حجرتُه في الطَّابق الثَّاني من منزلٍ صغيرٍ يكفي أسرتَه الصَّغيرة المؤلَّفة من زوجتِه مرام، وابنه الوحيد وائل.. اتَّخَذَ من الحجرةِ مكتبةً واعتزلَ للكِتابةِ، مكتبتُه عبارة عن مكتبتَين في الواقِع: كبيرة وصغيرة.. ملأ رفوفَهما بكُتُبٍ رتَّبَها ترتيبًا جيِّدًا، تاريخيَّة وكُتب قصص، ورواياتٍ لكتَّابٍ مَرموقين محليِّين وعَرب وأجانِب.. ثمَّة ثلاثة أشياء تُثيرُ السُّرورَ في نفسه كلَّما دخلَ مكتبته: لوحة زيتيَّة للكاتِب الأثير إلى نفسه فيودور دوستويفسكي اشتراها مِن معرض جوَّال دخلَ كليَّته قبلَ خمسةَ عشرَ عامًا، وشهادته الجداريَّة، وصورة جمعَتْه مع زوجتِه وابنه.

    وعلى ذِكر ابن روسيا الأعظم، فقَد اختارَ بطلُنا الشرقيُّ التَّاريخَ الأمريكيَّ تخصُّصًا أكاديميًّا، واختار الأدبَ الروسيَّ ليشبِعَ شغفَهُ بالقراءة؛ فيندر أن تصدرَ قصَّة أو رواية روسيَّة – بلغتها الأمُّ أو مُترجمَة – مِن دونِ أن تجدَ نسخةً منها على رفوف مكتبته، حتَّى إنَّ إعجابَه بالأدب الرُّوسيِّ يُمكنُ أن يفسِّرَ تركيزَه على تعلُّمِ الروسيَّة قراءةً وكِتابةً في السَّنواتِ الأربعِ الأخيرةِ، فأجادَها وصارَ لا يقرأ إلَّا بها، لكن لم يكُنْ بينَ القصَّاصين والرِّوائيين الرُّوس مَن هو قريب إلى نفسه إلى حدِّ الإعجاب غير المعقول، أكثر مِن دوستويفسكي نفسه؛ وكثيرًا ما علَّل ذلِكَ أمام مستمعِيه بأنَّه "أيقونةُ السَّردِ الرُّوسيِّ، و روحُ الوجَعِ الكامنِة في الفَردِ الرّوسي"، لَم يخفَ عليَّ بالطَّبعِ دفتر مَلحوظاتٍ لا يُفارقُه، يسجِّلُ بينَ دفَّتَيه كُلَّ ما يتعلَّقُ بالكتَّاب الرُّوس وأعمالهم الأدبيَّة.

    مكتبُه يقومُ وسطَ الحجرة تمامًا، وقد غطَّى سطحَه وجوانبَه بقماش أبيضَ، ولا يبدِّل دائمًا الأشياءَ الَّتي قلَّما استغنى عن وجود واحدٍ منها على المكتب: أوراق، أقلام رصاص، علبة سجائر أو وأكثر، منفضَّة سجائر، مناديل ورقيَّة، وجهاز نقَّاله الموصول بالشَّاحن عندَما يكون مُنهمِكًا بالكتابة.. بدا غيرَ واثِقٍ بنفسِه وهو يكمِلُ دورتَهُ العشرين أو الثلاثين في الحجرة، أخذَ منهُ الإنهاكُ مأخذَه، شعرَ برغبةٍ في إلقاء نفسه فوق الأريكة؛ لكنَّه لَم يفعلْ، نسيَ التَّعبَ عندَما تذكَّر قُصاصاتٍ مُرقَّمةً بدأ يكتبُ فيها منذُ شهرَين تقريبًا في أوقاتِ فراغِه، زادَ عددُها على طرف المكتبِ الأيسرِ مع ازدياد ذاك الوقتِ، ومع اشتداد يقينِه مِن أنَّها ستعينُه على اتِّخاذِ قرارِ هَجر التَّاريخِ.

    أمرٌ يدعو للسُّرور أن يَعثرَ المرءُ على دليلٍ يُعزِّز قرارًا مصيريًّا هو بصدده، لَم يعُدْ إلى الأريكة، بدا مُتنبهًا لما يفعل وهوَ يجلسُ على كُرسيِّه، يحمدُ اللهَ على استمرار الأجواء الربيعيَّة، فلم يضطرَّ بعدَ إلى تشغيلِ المروحةِ، كثيرًا ما أزعجَه صوت دورانها الرَّتيب.. أشعلَ سيجارةً، حانت منهُ التفاتة إلى الخلفِ بحركَةٍ لا إراديَّة، وكأنَّ ثمَّةَ قوَّة خفيَّة، القوَّة الخفيَّة نفسها دائِمًا، تُجبرُه على عدمِ نسيانِ وجودها خلفَه، نعم، هي، الشهادة الجداريَّة، أغمضَ عينَيهِ، راحَ يقرأ عن ظهرِ قلبٍ التَّفاصيلَ الَّتي خُطَّت على وجهِ ورقِها المقوَّى الملَّون، قال لنفسهِ بصوتٍ مَسموعٍ وقَد فتحَ عينيهِ: جيِّد ورائع.. لَم ينسَ أيًّا من تفاصيلِها، حتَّى اسم المسجَّل العامِّ الثَّلاثي على اليمين، واسم رئيس الجَامعةِ الثُّنائي على اليسار.

    اعتدلَ في جلستِه، تمطَّى وهو جالس على الكرسي، سحبَ نفَسًا مِن سيجارتهِ بطريقةٍ تُوحي لأيِّ أحدٍ يُراقبهُ عَن كثَب في تلك اللَّحظة، أنا بالتَّحديد، أنَّه يزفرُ شيئًا آخر غير الدُّخانِ، تناولَ القُصَاصةَ رقم 1، أعجبَه ما قالَهُ المحدِّثُ المفسِّرُ سفيان الثَّوريُّ:

    "ما أتعسَ التَّاريخَ! عليه أن يتحمَّلَ نزواتِ المؤرِّخين على الدَّوام".

    لم يتجاهَل ما وردَ على لسان المؤرِّخ الأمريكيِّ الفرد ويتني جريسولد في القُصَاصةِ رقمِ 2:

    "إنَّ الَّذين لا يَعتَبِرون مِن أخطاءِ الماضي، مكتوبٌ عليهم تكرارهَا مرَّة أُخرى".

    إذن، يُمكِن له أن يستندَ – مثلما فعلَ روائيُّون كُثر – إلى وقائِع معيَّنة في التَّاريخِ وينجَح مثلمَا نجحوا في كِتابةِ روايةٍ، ويُعيدُ إنتاجَ تلك الأكاذيب! كلَّا، كلَّا! لن يفعلَ؛ ليسَ لأنَّه يعجزُ عن إتيان الأمر؛ بل لأنَّ ذلك يجعلُ منه خائِنًا لقلمِه عن سابقِ قَصدٍ.. تململَ في مكانه قبلَ أن يرفعَ عينَيه عن القُصَاصةِ وينظرَ إلى الشُّرفةِ، هل اهتزَّت قناعاتُه الفكريَّةُ بالتَّاريخِ، أم أنَّه ما زالَ مُستسلِمًا لضياعِه وتردُّدِه؟! سكونُه تركَهُ وحيدًا في أولى معاركه الكبيرةِ وفي مواجهة ضياعه وتردُّدِه، ليلُه طويلٌ وسكونُه غريبٌ، ليس مِن مواء قطَّةٍ أو نباحِ كلبٍ أو صوتِ بوقِ سيَّارةٍ يجفلُّه وهي عابرةٌ بسُرعةٍ من تحتِ الشُّرفَة، أو حتَّى حصاة صغيرة تصدرُ صوتَها المكتومَ تحتَ أقدامِ سُكارَى عائدين إلى منازلهم، أقدام تنزلُ عليها بغيرِ اتِّزانٍ وهيَ تخطو في شارعٍ غطَّت ربعَه مياهُ مَطرٍ غزيرٍ.

    ومَرحى للحكيمِ نيتشه وهو يشرحُ له ولغيره أساس التَّاريخ، قرأ قوله في القُصَاصة رقم 3:

    "إنَّ التَّاريخَ قائِمٌ كُلِّيًّا على هؤلاء النَّاسِ السيِّئين الذين يُكرِّسون أُناسًا صالحين فيما بَعد".

    وقفَ عندَ حكمتِه، راجعَها وقلَّبها تمحيصًا وتحليلًا.. ألا يمكنُ أن يكونَ الأمرُ على النَّحو الآتي: ليس كُلُّ الصالحين الَّذين تحدَّثَ عنهم التَّاريخُ بوصفِهم صالحين، كانوا كذلك بالفعل، وليس كُلُّ السيِّئين الَّذين تحدَّث عنهم بوصفِهم سيِّئين، كانوا كذلك بالفعل؟ يا لَه مِن اكتشافٍ متأخِّر جدًّا! لكن هل يمكنُه الإعلان عنه؟ حتمًا لا يُمكنُه ذلكَ؛ سيثيرُ زوبعةً هو في غنًى عنها، ولرُبَّما انتهى الأمرُ بمقتلِه، يُقتَل النَّاسُ في بغدادَ لسببٍ أقلَّ من هزِّ قناعاتٍ اجتماعيَّة ودينيَّة ترسَّخَت خلال عقود مِن سيطرة شيخِ العَشيرة أو رَجُل الدِّين على العقل الجَمعي لمجتمعِه المحليِّ.

    طقطق رقبته بحركتَين مُتتابعتَين إلى اليمين وإلى اليسار قبلَ أن يَرجعَ بجسده إلى الخَلف قليلًا، عليه إبعاد النُّعاسِ؛ تذكَّرَ قهوتَه ونهضَ مُتثاقِلًا، مطَّ جسدَه وغادرَ حجرته وتجاهَلَ – عَن عمدٍ هذه المرَّة – وجودَ الشَّهادة الجداريَّة؛ لا يُريدُ أن تنغِّص عليه خُلوته المُقدَّسة الفاصلة، نزلَ حافيًا وسارَ على أطراف أصابعه وهو يمرُّ من أمامِ بابَي حُجرَتَي مَرام ووائل، واثِقًا من استغراقهما في النَّومِ، لكنَّه حاذرَ – معَ ذلكَ – إيقاظهُما بحركَةٍ غير مَقصودة، قبلَ سُوَيعاتٍ رفضَ – كما فعلَ دائمًا – أن تستيقظَ في مُنتصَفِ اللَّيلِ لتُعدَّ له شايَه أو قهوته، لن يزيدَ في أعبائِها، يَكفي أنَّها تُجهِدُ نفسَها في تربية وائِل تربيةً حسنةً، ومتابعة دراستِه، وإدارة شؤون المنزل، وتحضير دروسِها بوَصفها مُدرِّسة للتَّاريخ في مدرسة بنات قريبة.

    لَم يستغرقْ وقتًا طويلًا في إعداد قهوتِه، شرِبَ كوبًا من الماء، حملَ فنجان القهوة وأطفأ النُّورَ وعادَ إلى حُجرتِه بالحَذر نفسِه، ارتشفَ شيئًا من القَهوةِ وهو يجلس على كرسيِّه، لسعَت لسانَه سخونتُها، أعادَ الفنجانَ إلى مكانِه على المكتبِ وأشعلَ سيجارةً جديدة وسحبَ أنفاسًا مُتقطِّعةً، إنَّهما خيرُ مُعين له في خلوته المقدَّسة هذه، التفَت إلى الرَّفَّين المخصَّصين لمؤلَّفاته، قرابة عشرين بحثًا، وستَّة كُتبٍ كلَّها في التَّاريخِ الأمريكيِّ، ما أتعبَه أكثرَ مِن بَينَها ذلك الكتابُ الضَّخم بجزئَيه، والَّذي بحثَ في خمسين سنة (1865 – 1915) عاصفة من الصِّراع العِرقيِّ في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، ذلك الصِّراع الَّذي نشأ مُباشَرة بعدَ حربٍ أهليَّة ضروس، ذكَّرتهُ تفاصيل نصف القَرن ذاك بما وقعَ في بلدِه مِن تاريخ قريب.

    الوقت الطَّويل الَّذي أمضاهُ في تأليف الكتاب، أرادَ منه أن يُثمِرَ عن رسالة يفهمُها أولو الأمرِ، لكنَّه تيَّقنَ مِن أنَّهم لَم يقرؤوا الكتابَ، أمضَى أربعَ سنواتٍ وهو يكتبُ تاريخَ منظَّمةٍ إرهابيَّة من البِيض الأمريكيَّين تُدعَى "كو كلوكس كلان، الَّتي ذكَّرته – في حينِها – بأساليبِ القَاعدة والمليشيات، كانَت خلاصة رسالةِ كتابِه الَّتي تجاهلَها المسؤولون العراقيُّون، أنَّ الولاياتِ المتَّحدةِ الأمريكيَّة نقلَت إلى وطنِه – عَن عَمدٍ – الوسائِلَ نفسَها، بدليل القتلِ بالجُملةِ الَّذي أشاعَتْهُ القاعِدة والمليشيات"، بدَت صحيحةَ العِبارة الواردة في القُصَاصة رقم 4:

    "إنَّ العَربَ يقرؤون التَّاريخَ ولا يتَّعِظون بهِ".

    وهو على يقينٍ مِن أنَّ العِراقيِّين عربٌ، عربٌ أقحاح بالتَّأكيد.

    3

    لِمَ لا يكون صريحًا، معَ نفسه في الأقلِّ؟ لم يكُنْ كذلكَ حتَّى الآن، حسنًا، ليسَت هذهِ القُصَاصات وحدها مَن يقفُ وراءَ قرارٍ بصددٍ اتِّخاذِه، جيِّد، هكذَا أفضل؛ لكن لماذا وَجَبَ عليه الآن، وليس في وقتٍ آخَر، مُراجعةُ صِلته الوَثيقة القَديمة بالتَّاريخ؟ بصَراحة، فكَّر بذلك سابقًا، عندَما ضاقَ ذرعًا بالتَّاريخ، مشكلة الذَّاكِرة أنَّها تتقمَّصُ دورَ التَّاريخ المُخزي الحيِّ النَّاطِق.. عادَت بهِ إلى أحداثِ عامَي 2006 و2007 المشؤومَين، إلى عار تلك الحربِ الأهليَّة العِراقيَّة، الحرب الَّتي أجَّجَها حِلفٌ غيرُ مُقدَّس بينَ السيَّاسةِ والتَّاريخ.

    بدا قلِقًا وهو يُراجِع قُصَاصاتٍ أُخرى، قبل أن يتوقَّفَ عندَ آخرِها وكأنَّه يحاوِلُ التخلُّصَ سريعًا ممَّا يذكِّره بالتاريخ؛ لكن، استدرك قائِلًا بصوتٍ عالٍ: يا إلهي! كم هو رائع ما انثال به باولو كويلو!، راحَ يقرأ مضمونَ القُصَاصة رقم 23، من دونِ أن يتنبهَ إلى توتُّرِه وهو يتلو عبارتها بصوتٍ مَسموع:

    "لكي نعرِفَ السَّلامَ في السَّماوات، علينا أن نعرفَ الحبَّ على الأرضِ، مِن دونِه نحنُ بلا قيمةٍ حقيقيَّةٍ".

    صاحَ وقَد نهضَ مِن كرسيِّه مَغمورًا بانشراحٍ غريبٍ: كويلو! أيُّها الحبيبُ كويلو! راح يرقصُ وأصابعُ يدِه اليُسرى تضغطُ على القُصَاصةِ بقوَّةٍ كأنَّهُ يريدُ الإمساكَ بشيءٍ على وشكِ الإفلاتِ من بينَ يدَيه، استمرَّ بالصياح بوتيرة واحدة: كويلو! كويلو! كويلو! كويلو! كويلو! كويلو! كويلو! كويلو! كويلو! كويلو! كم أنتَ رائع! صارَ منقذَهُ غيرَ المتوقَّعِ، عادَ إلى كرسيِّه بعدَ أن نسيَ نفسَهُ والنَّائمَين اللَّذَين لا يفصلُه عنهما سِوَى مسافة درجاتِ السُلَّم وجدار، بل نسي أنَّ الوقتَ ليلًا وساعتُه الجداريَّة تشيرُ إلى الواحِدة والنِّصفِ صباحًا، لرُبَّما هو مُحقٌّ في نسيانه كُلَّ شيء إلَّا ما كانَ بصَددهِ، فمن بين مَن مرَّ بهم على عُجالَة جميعًا، نجحَ الرِّوائيُّ البرازيلي في انتشالِه مِن ضياعِه وأوقفَهُ طويلًا عندَ مُفردةِ "الحُبّ".

    ما أسعدَه أكثرَ أنَّ كويلو أيضًا مارسَ مِهنًا كثيرةً قبلَ أن يدخلَ عالَمَ الرِّوايةِ من أوسعِ أبوابه، اعتدلَ في جلستهِ، هدأ قلقُه وبدا مُنشرِحًا أكثر ممَّا كانَ قبل ساعة، لِمَ لا؟! وقد أعانَهُ كويلو على التخلُّص مِن تردُّدِه المُربِك، وهو هنا، في حُجرتِه هذه نفسها الَّتي أمضَى فيها لياليه الألف وليلة مُؤرِّخًا، لن يُعيدَ صبَّ لعناتِه على التَّاريخِ كما على أبيه، صحيح أنَّه أعلنَ أمامَ زوجته أنَّه "طلَّقَ التَّاريخَ بالثَّلاث"؛ لكنَّه لَم يتصوَّرْ أن يتحوَّلَ القولُ إلى فعلٍ بهذهِ السُّرعَة.

    كويلو هو مَن ساعدَهُ على ما يبدو على اتِّخاذِ قرارهِ النِّهائيِّ، بمساعدتهِ أدركَ أنَّ الأدبَ هو الشَّافِي للجِراحاتِ غيرِ القابِلة للشِّفاءِ الَّتي خلَّفَها التَّاريخ، هكذا، اختارَ الأدبُ بديلًا عن التَّاريخِ، وقد أنجزَ خطوتهُ الأُولَى بخسائرَ كبيرةٍ، الحُبُّ يتطلَّبُ تضحيَّاتٍ كبيرةٍ، والكرهُ لا يتطلَّبُ أيَّ شيءٍ، سِوَى سوادِ الفُؤادِ أو لونه الرَّماديِّ، وهكذا أيضًا نضجَت قناعاتُه الجَديدةُ الَّتي منحَتْهُ حصانةً ضدَّ الضَّعفِ أمامَ إرثٍ سامِقٍ، وأيَّ إرث!

    نهضَ بنشاطٍ، سارَ بضعَ خطواتٍ وهو يسحبُ الكُرسيَّ خلفَه، صارَ قبالةَ لوحةِ كاتبه، صعدَ على الكُرسيِّ، حاذَتِ اللَّوحة جيبَ بجامته العُلوي، جالَت عيناهُ في تفاصيلِ الشَّهادة الجداريَّة الَّتي حفظَها عَن ظَهرِ قَلبٍ:

    "بناءً على ما عرضه مجلسُ كليَّة التربيَّة وأقرَّهُ مجلسُ جامعةِ بغداد، مُنِحَ وجدي زينل مقداد درجةَ دكتوراه آداب في التَّاريخِ المُعاصِر، كُتِبَت في اليوم التَّاسعَ عشرَ من شهر آذار من سنةِ ألفٍ وتسعمائةِ وثمانٍ وثمانين...".

    أمسكَها من طرفَيها، أفلَت حلقاتِها الصَّغيرة مِن المسامير ثمَّ نزل عن كرسيِّه، حارَ أينَ يضعُها؟! دفعَها – بعدَ تفكيرٍ – بعيدًا في الفرَاغِ شبه المُعتمِ بينَ المكتبةِ والجدار الأيسر، تنفَّسَ الصُّعداءَ وكأنَّ إخفاءَ الشَّهادةِ في مكانٍ لا تصلُ إليه العيونُ هو آخر مهمَّاتِه في ليلته هذه.

    اعتقدَ بأنَّه تخلَّص مِن عبءٍ ثقيلٍ، هل فعلَ ذلك حقًّا؟

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1