Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

لا تسرقوا البارود
لا تسرقوا البارود
لا تسرقوا البارود
Ebook219 pages1 hour

لا تسرقوا البارود

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

كلمة لابد منها

أَجِدُ صعوبةً في تَمَثُّلِ هذا النص الروائي التاريخي الذي استوعبتْ كتابتُه زمنا طويلا. أحيانا، أجِدُه بسيطا، اسلوباً و معنى، واحيانا اجده غزيراً، مثل نهر النيل، كُنْهاً و مَبْنَى ! و لَعَلَّ هذا التناقض هو الذي جعلني أتَخَيَّلُه، إن كُتِب له النشر، تارةً مُجَرّد أوراقٍ للسَّمَرِ العائلي الجميل، لا تتجاوز اسْوارَ مدينةِ بشار، و تارة حروفا خافقة، تنطلق من ثراها، تُحَلّق عاليا، وتسافر بعيدا الى بلادِ ما وراء البحار !

لقد حدّثني البطل، الأول و ليس الوحيد للرواية، عن قتاله و مغامراته  باللسان الدارج، فسَجَّلتُ صوته، ثم اعَدْتُ صياغَته كتابةً بالعربية الفصحى، دون تغيير جوهري مقصود، و أضَفْتُ إليه بعضَ  ما بلَغَني من رواياتٍ محلية، وأثريتُه بما يناسبُه من احداث تاريخية، وكنت حاضراً، في السَّرْد، مِثْلَ كل اديب، تصويراً  و تَأَمُلا.

و من الملائم ايضا، الاشارة  الى ان   كتاب " بشار وضواحيها بين التاريخ و الاساطير" «Béchar et sa région entre histoire et légendes  » ، للباحث عبد القادر هاني، الذي تَمَيَّزَ بصرامة علمية محترمة، صعبة التحقيق في بحوث العلوم الانسانية، كان  مُطَمْئِناً لي بخصوص ما توصلتُ إليه في محاولة فَهْمِ قضية زكريا.  بالفعل، فإن الباحث أشار في الصفحتين 167 و 168 الى أنه، و بعد مؤتمر الصومام، "(...) بَدَأ بعضُ إطارات الحركة المسلحة ابناءُ الناحية يتحدثون عن الإقصاء، الذي أدى الى عدمِ وصول ايّ منهم الى الاجهزة العليا لقيادة المنطقة ". فكانت هذه الفكرةُ متناسقةً مع ما بلغني عن موقف زكريا من تلك القيادة، و مساعِدَةً لِتَصَوُّرِ مَسارِه الثوري الذي ظل مُغَيَّباً ردحاً من الزمن. و إذا كان الادبُ بالأساس ذاتيا، فإنه سيفقد، هو           و التاريخ، مساحة معتبرة من وظيفته في الحياة حينما يخاصم العقل، و يَأْبَى ان يشاركَه الحوار. إن محاولة الجمع بين الذاتية و الموضوعية أمرٌ غير مستحيل في حقل الأدب الخصب المديد. و الصدقُ، لا يَرْفُضُ ان يَحْمِلَه اسلوبٌ انيق في سياق مُمْتِع . إن كلماتِنا، بهذا التصوُّر، تحاول أن تَقْتَبِسَ، قَدْرَ ما تستطيع، من روعةِ الجمال ونُبْلِ الضمير الحيّ، في نفس الآن.

واحْتَوَتْ الروايةُ نصوصاً فرنسية حقيقية، عَزَوْتُها لأصحابها، وعَرَّبْتُها، تيسيراً للقارئ العربي. فالحوار المقتضب، الذي تَضَمَّنَه النص، و دار بين الجنرال ديغول و الجنرال صالان في مدينة بشار مثلا، لم يكن خياليا، بل أدرجته كما ورد في صيغته الاصلية، و ترجمته الى العربية، من مذكرات صالان الفرنسية، فانْقادَ لِلسِّياقِ دون  إكراه ! كما اقتبست من تلك المذكرات قصة الهجوم بالبازوكا، دون ان اتنازل عن حقي في التعبير! و مع ذلك، فإن التجاذب في كتاباتنا، بين الذاتية و الموضوعية، شاهد على أننا ننتمي الى عالم الناس. إنني لا أعتبر ما جاء في سرد الرواية هو وحده  الحقيقة التاريخية،  بل مجرد إسهام من أجل الوصول الى  تلك الحقيقة، واقتراح إضافة أدبية في عالم الثقافة، قد يستظل بها " إنسان" يبحث عن لحظة استراحة من وَعْثاءِ السفر في الحياة.

و هو تصوير جزئي و مقتَضَب للأشخاص و المشاعر       و الوقائع و الاماكن، لا يمكنه بِحال أن يَشْمل كُلَّ مَشاهِد ثورةِ التحرير الجزائرية في منطقة بشار. بعضُ تلك المشاهد، كما صورْتُها، تنتظرُ الناقدَ الذي يقوِّمُها   و المفكرَ الذي يستنطقها و يستخرج مراميها، والمؤرخَ الذي يستأنس بها، و الاديبَ الذي يسترشد، في كتابته، بمسارات كثيرة، اشرت اليها ولم أبْلُغْ منتهاها، يُكْمِلون  ما غاب عني من حقائق و جولات، بأساليب قد تكون اكثر  وعياً و دقةً و جَمالا.                                                

وهابي بن رمضان

Languageالعربية
Release dateMay 27, 2022
ISBN9798201989156
لا تسرقوا البارود

Related to لا تسرقوا البارود

Related ebooks

Related categories

Reviews for لا تسرقوا البارود

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    لا تسرقوا البارود - Ouahabi Benramdane

    كلمة لا بد منها

    أَجِدُ صعوبةً في تَمَثُّلِ هذا النص الروائي التاريخي القصير، الذي استوعبتْ كتابتُه زمنا طويلا. أحيانا، أجِدُه بسيطا، اسلوباً و معنى، واحيانا اجده غزيراً، مثل نهر النيل، كُنْهاً و مَبْنَى ! و لَعَلَّ هذا التناقض هو الذي جعلني أتَخَيَّلُه، إن كُتِب له النشر، تارةً مُجرد أوراقٍ للسَّمَرِ العائلي الجميل، لا تتجاوز اسْوار مدينةِ بشار، و تارة حروفا خافقة، تنطلق من ثراها، تُحَلّق عاليا، وتسافر بعيدا الى بلادِ ما وراء البحار!

    لقد حدثني البطل، الأول و ليس الوحيد للرواية، عن قتاله و مغامراته  باللسان الدارج، فسَجَّلتُ ذلك صوتا، ثم اعَدْتُ صياغَته بالعربية الفصحى، دون تغيير جوهري مقصود، و أضَفْتُ إليه بعضَ  ما بلَغَني من رواياتٍ محلية، وأثريتُه بما يناسبُه من احداث تاريخية، وكنت حاضراً، في السَّرْد، مِثْلَ كل اديب، تصويراً  و تَأَمُلا.

    و من الملائم ايضا، الاشارة  الى ان  كتاب بشار وضواحيها بين التاريخ و الاساطير  « Béchar et sa région entre histoire et légendes » ، للباحث عبد القادر حاني، الذي تَمَيَّزَ بصرامة علمية محترمة، صعبة التحقيق في بحوث العلوم الانسانية، كان  مُطَمْئِناً لي بخصوص ما توصلتُ إليه في محاولة فَهْمِ قضية زكريا.  بالفعل، فإن الباحث أشار في الصفحتين 167 و 168 الى أنه، و بعد مؤتمر الصومام، (...) بَدَأ بعضُ إطارات الحركة المسلحة ابناءُ الناحية يتحدثون عن الإقصاء، الذي أدى الى عدمِ وصول ايّ منهم الى الاجهزة العليا لقيادة المنطقة . فكانت هذه الفكرةُ متناسقةً مع ما بلغني عن موقف زكريا من تلك القيادة، و مساعِدَةً لِتَصَوُّرِ مَسارِه الثوري الذي ظل مُغَيَّباً ردحاً من الزمن.

    و إذا كان الادبُ بالأساس ذاتيا، فإنه سيفقد، هو و التاريخ، مساحة معتبرة من وظيفته في الحياة حينما يخاصم العقل، و يَأْبَى ان يشاركَه الحوار. إن محاولة الجمع بين الذاتية و الموضوعية أمر غير مستحيل في حقل الأدب الخصب المديد. و الصدقُ، لا يَرْفُضُ ان يَحْمِلَه اسلوبٌ انيق في سياق مُمْتِع . إن الكلماتِ، بهذا التصوُّر، تحاول أن تَقْتَبِسَ، قَدْرَ ما تستطيع، من روعةِ الجمال ونُبْلِ الضمير الحيّ، في نفس الآن.

    واحْتَوَتْ الروايةُ نصوصاً فرنسية حقيقية، عَزَوْتُها لأصحابها، وعَرَّبْتُها، تيسيراً للقارئ العربي. فالحوار المقتضب، الذي تَضَمَّنَه النص، و دار بين الجنرال ديغول و الجنرال صالان في مدينة بشار مثلا، لم يكن خياليا، بل أدرجته كما ورد في صيغته الاصلية، و ترجمته الى العربية، من مذكرات صالان الفرنسية، فانْقادَ لِلسِّياقِ دون  إكراه ! كما اقتبست من تلك المذكرات قصة الهجوم بالبازوكا، دون ان اتنازل عن حقي في التعبير! و مع ذلك، فإن التجاذب في كتاباتنا، بين الذاتية و الموضوعية، شاهد على أننا ننتمي الى عالم الناس.

    إنني لا أعتبر ما جاء في سرد الرواية هو وحده  الحقيقة التاريخية،  بل مجرد إسهام من أجل الوصول الى  تلك الحقيقة، واقتراح إضافة أدبية في عالم الثقافة، قد يستظل بها إنسان يبحث عن لحظة استراحة من وَعْثاءِ السفر في الحياة. و هو تصوير جزئي و مقتَضَب للأشخاص والمشاعر و الوقائع و الاماكن، لا يمكنه بِحال أن يَشْمل كُلَّ مَشاهِد ثورةِ التحرير الجزائرية في منطقة بشار. بعض تلك المشاهد، كما صورْتُها، تنتظرُ الناقدَ الذي يقوِّمُها، و المفكرَ الذي يستنطقها و يستخرج مراميها، والمؤرخَ الذي يستأنس بها، و الاديبَ الذي يسترشد، في كتابته، بمسارات كثيرة، اشرت اليها ولم أبْلُغْ منتهاها، يُكْمِلون  ما غاب عني من حقائق و جولات، بأساليب قد تكون اكثر وعياً و دقةً و جَمالا.

    وهابي بن رمضان

    همسٌ الى القُــرَّاء

    سوف تَجِدون، أيها القراء الكرام، و انتم تسافرون في مُدُنِ و أزْمِنَةِ هذه الرواية، عباراتٍ باللغة الفرنسية. فإن كنتم تحسنون الفرنسية،  و لم تكونوا تنتظرون استضافَتَها في هذا السَّرد العربيّ، فأرجو أن تجدوا في ذلك متعة إضافية. و إن كنتم لا تحسنون اللغة الفرنسية، فما عليكم إلا تجاوز تلك العبارات، دون قلقٍ لِعَدَمِ فَهْمِها، لأنني ترجَمْتُها الى لغة الضاد الرائعة، حيثما وَرَدَتْ. تلك الترجمة، تَجِدُونها مباشرة بعد العبارات الفرنسية، و ليس في الهامش، حتى يَتَسَنَّى لكم الاسْترسالُ في القراءة، دون انقطاعٍ ذِهْنِيّ مُمِلٍّ طويل...

    الفصل الأول

    التاريخ  يلتفت أخيرا

    ––––––––

    لينينغراد...

    سَكَتَتْ مَدافِعُ الجيشِ الأحمر، وتَبَدَّدَتْ أرتالُ الجنود الألمان على مشارف ليـنينغـراد[1]. السماءُ تَحْجبُها الغيومُ الرماديةُ الفاتحة الكثيفة. الأرضُ بساطُ ثلجٍ واسع مديد، لا أثر للأحذية العسكرية الألمانية عليه.

    -  أولئك الأوغاد... فَرُّوا!  قالت العجوزُ لابْنَتِها، متذكِّرة جنودَ هتلر، و هي تنظر من نافذة بيت  فقير، تَنْفُثُ مِدْفَأتُه، في الخارج ، دخانَ الحطب المتلاشي في الهواء البارد الطَّلْق.

    -  منذ عامين يا أماه، أو منذ عامين و نصف! لست أدري على وجه التحديد. انتهت الحرب. المُهِمّ أنها انتهت. علينا أن ننساها. و لْنَعِشْ ما تبقَّى من حياتنا في هدوء، بعيدا عن دويّ المدافع. الجو بارد، شديد البرودة في الخارج. اشربي هذه القهوة الساخنة، و لْتَذْهَبْ النازيةُ إلى الجحيم ! أما انا فَلَسَوْفَ أقرأُ من جديد، مطمئنةً هذه المرة ، روايةَ الأم  لماكسيم غوركي[2].

    مَدَّتْ العجوزُ يدها، دون ان تَبْرَحَ الكرسيَّ الخشبيّ القديم، و تناولت الفنجان الفخّاري الدافئ . ثم وَلَجَ بصرُها الغرفةَ حتى استقرَّ على بُخارِ القهوة المُتصاعِدِ وئيداً، مُتَمَوِّجاً مثل خُصلاتِ شَعرها الرمادي، المرسلةِ، بلا انتظام، على كتفين أنهكما العمل في المصنع منذ سنين.  و لما حَوَّلت نظرَها نحو وجه ابنتها الوحيدة، زال تَجَهُّمُ وجْهِها شيئا فشيئا، وابتسمت، كالمُتأمِّلة اخْضرار المروج  في الربيع.

    باريس...

    حاولت باريس استعادة طقوس الحياة الفرنسية في الحدائق و الساحات العمومية، دون سماع  تحذير من عسكري ألماني صارم ، اختفى رأسُه داخل خوذَتِه الحديدية كالسلحفاة، وهو يصرخ بلغته، وليس بالفرنسية :

    -  Achtung !

    -  حذارِ !

    يوم السبت ، قبل الغروب، تحت مطر خفيف، تَوَهَّجَتْ باريس بالأضواء واسْتَشْعَرَتْ اللذةَ التي فقدتْها طيلة خضوعها للإحتلال الألماني. أوراقُ الخريف، المتجاذَب لونُها بين الاصفر و الاحمر، مَنَحَتْ، بِشاعرِيّتها، بعضَ المارة، لحظةً نادرة ثمينة لتأمُّل الزمن والحياة. داخل حانة الجمهورية، وسط باريس، صرخت امرأة جريئة، إخْشَوْشَنَ صوتها بسببِ العُمرِ و إدمانِ الرَّاح[3] ، و بِفِعْلِ السيجارَةِ التي أضْحَتْ، مِثْل عُضْوٍ في جسدها الخمسيني، تُلازِمُ اصابِعَها المتحركةَ بعصبيةٍ خَفِيَّة :

    -  Les allemands se sont allés ! Pas d’allemands ! Pas de guerre, la guerre est finie ! Ah que la liberté est magnifique ! Vive la France libre ! musique !

    -  ذهب الألمان ! لا ألمان ! لا حرب، انتهت الحرب ! ما أروع الحرية ! تحيا فرنسا الحرة ! موسيقى !

    هكذا تعودت صاحبة حانة الجمهورية، في الآونة الأخيرة، تذكير زبائنها باندحار الألمان المحتلين، محاولة في مكر، جَلْبَ ما تبَقَّى من فرنكات دافئة في جيوبهم.

    صباحا، استنشقت باريس، بشراهة لم تَعْهَدْها من قبل، هواءَ الحرية الممتع. و عَكَسَ وجْهُ نهرِ السين حركةَ السحبِ العابرة، فيما استمرت مياهُه تنساب هادئة، مرددة أغنية الحياة...

    يلتفت التاريخ جنوبا. التاريخ يلتفت أخيرا !

    بشار...

    مدينةٌ بالجنوب الغربيّ الجزائري. سماءٌ زرقاء، تسافر فيها سُحُبٌ قليلة مُطْمَئِنَّة، وقد ابْيَضَّتْ تحت أشعةِ ذُكاء[4]، حتى صارتْ ناصعة كَنُدَفِ الثلجِ النَّقيّ . البارحة، كان المطرُ غزيراً في الجبال و الشِّعاب و في واحة النخيل، و في  المدينة ايضاً.  شَهقَتْ الارضُ شهقةً أُنْثَوِيَّة طويلةً مدويةً، واهتزتْ، حينما اصطدمتْ بها، عنيفةً، في شوقٍ غريبٍ، بناتُ السحابِ الرماديّ النازلةُ من السماءِ مُتسابقةً، صاخِبةً،  مثرثِرةً، منتظمةً في ملايينِ الخيوطِ المائيّةِ الرقيقةِ الشَّفيفةِ المتقاربةِ حتَّى الالْتِحامِ، في انسجامٍ فِطْري، كذَرَّاتِ الفَرَحِ  الكثيفةِ المُتَعانِقةِ  البريئةِ العجولةِ، الغامرةِ للقلوبِ القاحلةِ، بَعْد طول انتظار. اهتزت الارضُ في الصحراء فَرَحاً. إهتزت الأرضُ عند لقاءِ المطر. اهتزت الأرضُ و رَبَتْ. و سَكَتَ المطر. فأرسلتْ امواجَ عِطْرِها الترابِيّ المُبَشِّرِ بالحياة. ها هو الوادي ! يشقّ الوادي المدينةَ شقين.  تَحُفُّه البساتين من الجانبين، ونخيلُها الصابر يحيّي الشمس، كل صباح، بسَعَفٍ كأهْداب خضراء عملاقة حالمة. بيوت الطين المكدسة المتواضعة العتيقة يزاحم بعضها بعضا بالضفة الشرقية، و ارتَسَمَتْ من خلالها أزقةٌ ضيقة ملتوية. في الضفة المقابلة، مازال القصر القديم يسرد على العابرين حكاياته المبتعدة في الزمان، تتنازعها الحقيقة و الاسطورة في تناغم عَذْب . صَوْب الغرب، وسط بشار، ارتفعت بنايات الفيلاج المنتظمة في شوارع واسعة. امتلأ الوادي ليلة أمس وفاض. كان هَديرُ المياه رهيبا. و كان ارتطامُها بالصخور عنيفا عند الفجر. في الصباح، على امتداد الوادي، على الضفتين، وقف الأطفال بألبستهم الرَّثة، و الرجال، و بعض النسوة العجائز، مصطفين أو مبعثرين، حفاةً أو منتعلين، مَشْدوهين أمام مَدّ الماء الرائع المهيب. لا صوتَ بين الضفتين أقوى من صَخَبِ الزائر الموسِمِيّ المُدْهش الساحر العنيف. المياه البنية الفاتحة تتدافع، تصطدمُ بالصخور، تُزَمْجِر، تئِنُّ، يختلط  الهدير بالخرير، ترتفع المياه، يتمايل الزبد، يرتجف، يدور، يتقدم  يتأخر، ثم يأخذه التيار مع الغُثاءِ الأحْوَى...إلى الأمام !

    - آووه...لا بد أن الماء كان قويا في الليل...إِنْتَزَعَ النخل، قال رجل، و هو ينظر، مذهولا، إلى رأس نخلة عظيمة ممددة على الطين بجانب الوادي، بلا حِراك، عدا ارتفاعِ وانخفاضِ بعضِ سَعَفِها الشاحبِ المستسلمِ المُستجيبِ لحركة تيار الماء المتلاشي عند اقدام الفتيان الحافية البليلة. و اردف الرجل:

    -  ماتت المسكينة!

    و فَكَّرَ

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1