Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

يد التاريخ: مقالات
يد التاريخ: مقالات
يد التاريخ: مقالات
Ebook422 pages2 hours

يد التاريخ: مقالات

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

"يدُ مقالة بوكليب تأخذ بأيدينا لمعرفة السرّ الكامن وراء قوة الصحافة... مقالة صحفية رصينة تغوص في الطبيعة الذهنية الأنجليزية وبِنية وعيها السياسي، في حقبة ما بعد الاستعمار، من الحرب الباردة بين القطبين المنتصرين إلى حقبة أحادية القطب الدولي، ومابعدها في تبلور ملامح قطبية جديدة .


بحكم مهنتي، كأستاذ في علم الفلسفة، أتساءل: هل في مقالة الكاتب جمعة بوكليب فلسفة؟ والجواب نعم، إن اعتبرنا الفلسفة بالتعبير الأرسطي: الجواب المؤسس على سؤال الدهشة: كيف يتجاوز السياسي إمتحان التاريخ بنجاح؟ فجميع رؤساء الحكومات البريطانية، كما يكتب بوكليب، وعلى اختلافهم وتمايز شخصياتهم، ليسوا في حاجة إلى التصريح، أو التلميح بما يدور في دواخلهم من قلق وتوتر، وهم يتخطون بأقدامهم عتبة مقرّ رئاسة الحكومة في 10 داوننغ ستريت، ليشغروا، لأول مرّة، المكتب الرئاسي. ومع ذلك، فإن فرحة تلك اللحظات التاريخية لا تنسيهم، في ذات الوقت، التفكير في اليوم الذي سيحزمون فيه حقائبهم، ويغادرون المسرح نهائياً، وماذا سيتركون وراءهم من إرث وتاريخ." - نورالدين النمر

Languageالعربية
Release dateFeb 2, 2024
ISBN9781850773658
يد التاريخ: مقالات

Related to يد التاريخ

Related ebooks

Reviews for يد التاريخ

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    يد التاريخ - جمعة بوكليب

    مقدمة

    يـدُ المقالة

    نورالدين خليفة النمر

    أنا سعيد بأني أقدّم الكتابَ الأول لجمعة بوكليب، كاتب المقال الصحفي السياسي. وإنّي لشغوف لمعرفة أصداء تجاوب القارئ العربي معه، الذي انكفأت به سفينة الصحافة العربية عن الخوض في بحار أخرى، وأن يكون هذا الكتاب شراعه ليقلع به في مغامرة ثقافية مختلفة .

    الأهتمام ترافق مع هجرته لبريطانيا، بعد الإفراج عنه من السجن في شهر مارس 1988. وكان الانخراط للحصول على شهادة جامعية بريطانية في علوم السياسة محفّزاً لإذكاء شغفه، الذي أعاقته الديكتاتورية، بما أسمته بــالثورة الثقافية عام 1973، حيث لم تعدّ تصدر حتى الصحف الحكومية، التي يكتب فيها صحفيون مقالات تبعدُ بنفسها عن تناول الشأن العام، بل أضحت الصحافة مؤدلجة يصدرها تنظيم اللجان الثورية العنفي والموالي مباشرة لرأس النظام، والبقيّة صحافة مهنية، مقتصرة على شؤون واهتمامات الفلاح والموظف والمنتج والمعلّم، والشرطي. كانت نقطة إنطلاق البداية من لندن، بالنهل من العروض السياسية، التي كانت تقدّمها وسائل الأعلام البريطانية، مؤطرة بتقاليد وأعراف ديمقراطية عريقة، لم يتعودها، أثارت فضوله المعرفي، وشدّت انتباهه إليها، حتى أحسّ نفسه وكأنه رُبط إليها بسلاسل من حديد. فصار، منذ أن يفتح عينيه صباحاً إلى أن يتوسد تعب نهاره ليلاً، وهو يدور في مدارها، مستمعاً وقارئاً ومشاهداً، متنقّلاً بين ما كان يقدّم من برامج إذاعية في راديو فور، إلى قراءة ما تنشره الصحف باختلافها من أخبار وتعليقات وافتتاحيات، وما يقدّم في نشرات المساء من مقابلات ولقاءات على القنوات التلفزية المتنوّعة.

    هذا الشغف الكُلي، تناقص بمرور السنوات، فاكتفى بعد تقاعده عن الوظيفة، بالحرص على اقتناء وقراءة الصحف يومياً، ومتابعة ما يكتبه وينشره كتّابه المفضلون من تعليقات. فالكاتب جمعة بوكليب الذي أخذت بيده الصحافة البريطانية، يأخذك بيدها إليه، قبل الولوج معه في مقالته، حيث يكون الشاهد المقايس للغائب في حدثها المخبر عنه. فباب الرأي في الصحيفة مطبخ ساخن. وكتابته، كما عنوان مقالته، تنضج وجبةً في يدِ الغيب. وما يغاير مقالة بوكليب عن مقالات أقرانه، في صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، على سبيل المثال، هو قياسه للحاضر عندهم الغربعلى الغائب عندنا نحن في شرق اللامكان. وأن مرجعيتها قراءة شخصية ذؤوبة، لسنوات طويلة، في المقالة الصحفية الإنجليزية، التي يشعل أفران مطبخها، منذ أكثر من عامين، عود كبريت البريكست، الانشغال السياسي الذي غطت مقالاته تداعيات التصويت عليه في 23 يونيو 2016.

    عنون الكاتب شغفه بمقالة التوهّج والخفوت، عكس فيها مسألة شخصية مرّ بها جيلنا الذي كان حضّر نفسه جيّداً بالتأهيل الجامعي، والتثقيف الذاتي، ليدلي بآرائه في مسائل الشأن العام، وأبرزها قضايا السياسة، فصُدمَ عندما أغلقت الديكتاتورية العسكرية أمامه أفق المجتمع من كل دروبه. فجمعة بوكليب أُلقيَ به مع كتّاب جيلنا 10 سنوات في السجن، حيث كان تسريب راديو لسماع الأخبار جريمة يُعاقب عليها. أنا كنتُ خارج السجن، وفي قلب العملية الإعلامية، مجبراً لأتقاضى مرتبي أن أكون مديراً لمتابعة صحف العالم الخارجي، وكتابة تقارير عن محتوياتها في القضايا التي يهتم بها رأس النظام، وهي كثيرة متشعبة كتوهّماته، وإرتياباته، ومتنفّسات قلقه، وبدائيات حلوله لمشاكل العالم التي حرص على وصفها بالجذرية. ولكنّها كانت أخباراً ومقالات وتحليلات عن سياسات تصنعها الدول المؤثرة في العالم. هذه الدول، ومنها بريطانيا التي يعيش فيها كاتبنا بوكليب، لم تعدْ، في الأعوام الأخيرة، تصنع سياسات إنخراط في العالم، بل سياسة واحدة عقيمة، إسمها البركسيت، أي الخروج من الاتحاد الأوروبي.

    لقد حاولتُ أن أنأى بنفسي، ولا أشغلها بما يكتبه الصحفي العربي في قضية البريكست البريطاني، حتى في الصحف العربية، التي تصدر في لندن. ولكنّي لم أستطع مغالبة متعة التشويق المفيد في مقالة الكاتب جمعة بوكليب، وهي تتنقل بنا في المتاهة اللندنية عبر دروب السياسة فيها. فمقالته أساسها متعة قراءة صباحية في الصحف مع القهوة والسيجارة، وشعورٌ بأنه مازال متواصلاً مع العالم الذي يعيش فيه، حتى بعد تقاعده من وظيفته الدبلوماسية الأخيرة، إلا أنّه لم يتقاعد من هواية القراءة، ليستمتع ويكتب ليشارك القرّاء متعة قراءته .

    يدُ مقالة بوكليب تأخذ بأيدينا لمعرفة السرّ الكامن وراء قوة الصحافة، التي توّجه الرأي العام البريطاني، في قضية مصيره البريكست أي الخروج، كمصير سببه في الأساس مقال كتبه صحفي شاب، هو رئيس الحكومة الحالي بوريس جونسون، الذي أسهمت مقالاته في صحيفة ديلي تلغراف التي إنتقل إليها أواخر عام 1987، بعد إستبعاده من صحيفة التايمز، بتعزيز قناعة لدى اليمين بأن بريطانيا ستصبح أفضل من دون الاتحاد الأوروبي، بعدما كانت هذه القناعة مرتبطة أساسا باليسار. فتصير القضية التي صنعها الساسة والأحزاب والبرلمان على قاعدة الجمهور الانتخابي مع وضد عبر الأستفتاء. لتتدخل الصحافة فتعيد صناعتها من جديد، لتكون محور نقاش ثقافياَ. وهو النقاش الذي يسبر أغواره، ليس حكاية أدبية من حكاياته من البرّ الأنجليزي، بل مقالة صحفية رصينة تغوص في الطبيعة الذهنية الأنجليزية وبِنية وعيها السياسي، في حقبة ما بعد الاستعمار، من الحرب الباردة بين القطبين المنتصرين إلى حقبة أحادية القطب الدولي، ومابعدها في تبلور ملامح قطبية جديدة.

    بحكم مهنتي، كأستاذ في علم الفلسفة، أتساءل: هل في مقالة الكاتب جمعة بوكليب فلسفة؟ والجواب نعم، إن اعتبرنا الفلسفة بالتعبير الأرسطي: الجواب المؤسس على سؤال الدهشة: كيف يتجاوز السياسي إمتحان التاريخ بنجاح؟ فجميع رؤساء الحكومات البريطانية، كما يكتب بوكليب، وعلى اختلافهم وتمايز شخصياتهم، ليسوا في حاجة إلى التصريح، أو التلميح بما يدور في دواخلهم من قلق وتوتر، وهم يتخطون بأقدامهم عتبة مقرّ رئاسة الحكومة في 10 داوننغ ستريت، ليشغروا، لأول مرّة، المكتب الرئاسي. ومع ذلك، فإن فرحة تلك اللحظات التاريخية لا تنسيهم، في ذات الوقت، التفكير في اليوم الذي سيحزمون فيه حقائبهم، ويغادرون المسرح نهائياً، وماذا سيتركون وراءهم من إرث وتاريخ.

    مقالة الكاتب جمعة بوكليب هي مقالة منخرطة بحكم المعيش والمعاش بالبرّ الأنجليزي، ولكنّها تتعداه إلى مراعٍ مجاورة عشبها مختلف، وأعني مقالته الإيرلندية. وهنا نجد مصير خروج أبدي من التباس تاريخ، يكون للبريكست فيه لون هويّة مغايرة. ونقرأ عن ذهنية سياسة أخرى، يصير فيها للتاريخ يدٌ مجازية، تساعد على ارتقاء درجات سلم، نحو أبواب تؤدي إلى دهاليز مرحلة سياسية جديدة.

    إكتفيتُ في هذا التقديم لكتاب مقالاته الـمُجمّعة، بعرض ما كرّسه الكاتب جمعة بوكليب لتسليط الضوء على القضايا، أو بالأحرى قضية البريكسيت البريطاني، بحكم أنه مقيم ببريطانيا، و تسري عليه قوانين، وتداعيات الخروج من الاتحاد الأوروبي. وعنيت في تقديمي بالتركيز على مضمون الكتابة الصحافية. فلم أتطرّق لشكلها الأسلوبي، وخطابيات إبلاغ أفكارها وبلاغتها. فلم أكتب في التناصات مع طرائق وأساليب الكتابة الصحافية الإنجليزية، التي جاءت إلينا عبر المستلهمات العربية لكتابات الفابيين بداية القرن العشرين، وأبرزهم الكاتب جورج برنارد شو، الذي كتب، وكأنه يعني الديمقراطية التي أختارت البريكسيت بأن (الديمقراطية تستبدل بالتعيين على يد القلة الفاسدة، الانتخاب على يد الكثرة العاجزة.)

    برنارد شو الديمقراطي الأصيل، والداعية لديمقراطية سليمة، ينبّه إلى أن أساس الديمقراطية هو الناخب. وأن عجز هذا الناخب هو عيب الديمقراطية ونقطة ضعفها. وأن عدم توفير وسائل العيش والمعرفة للناخب يجعل إرادته مكبّلة، وربما يضطره للتصويت ضد مصالحه: الناخب الفقير تُشترى إرادته بالمال، والجاهل يتُم تضليله.

    من يكتب التاريخ؟

    المعارك حول حق كتابة التاريخ، لم، ولن تتوقف. فهل يعني ذلك أن ما كُتب، حتى الآن، من تواريخ تفتقد المصداقية؟

    عقب نجاح انقلابه العسكري، سيء الصيت، في شهر سبتمبر 1969، وتمكّنه من احكام قبضته على مجلس قيادة الثورة والجيش والبلاد، في سنوات قليلة، بدأ العقيد معمر القذافي في العمل بدأب على إعادة كتابة تاريخ ليبيا. البداية كانت بمحو كل ما له علاقة بتاريخ الحركة السنوسية، واعادة برمجة تاريخ جهاد الليبيين ضد الاستعمار الايطالي بما يتناسب وأهداف المرحلة الجديدة، ووسم النظام الملكي السابق بالتخلف والعمالة، وقياداته بالخونة والعملاء. وبالطبع، ترتب على ذلك، الحاجة إلى فبركة تاريخ بديل، يتمحور حول شخصه، ونضاله السرّي منذ صباه من أجل القيام بثورة، واسقاط النظام الملكي، وتحقيق الوحدة العربية..الخ. ولم تكن المهمة صعبة، لأن الكثيرين من الانتهازيين شمروا عن سواعدهم استعداداً لاداء المطلوب.

    ما فعله القذافي، خلال فترة حكمه، بالتاريخ، وحرصه على إعادة كتابته، وتقديم سرد مخالف لماكان سائداً ومتداولاً، وبشكل يركز على ابرازه شخصياً كزعيم وقائد ثوري، ومؤلف نظرية سياسية جديدة، ورائداً لعصر الجماهير، لم يكن أمراً مستجداً أو طارئاَ، بل تقليد قديم، دأب على نهجه من قبل ملوك وحكام وقادة. القاعدة المتعارف عليها، والسارية المفعول حتى الآن، هي أن من يمتلك مقاليد السلطة يصير من حقه كتابة التاريخ كما يراه ويريده. هذا يعني أن التاريخ يكتبه المنتصرون والأقوياء من جهة، ومن جهة أخرى يعني كذلك أن كتب التاريخ تمتليء بالأكاذيب. أضف إلى ذلك، وفي نفس الوقت، أن هناك تواريخ أخرى أسقطت عمداً، وحقائق عديدة حذفت قصداً، أو تعرضت للتغيير والتزييف، تخصّ فئات اجتماعية مغلوبة. وأن ما صدر مكتوباً عن تلك الفئات من تواريخ ووصلنا، انما صدر عن ألسنة رواة وأقلام مؤرخين، غير محايدين، يدينون بولائاتهم لمن أمتلكوا، بقوة الأمر الواقع، السلطة. وبالتالي، فان ما وصل إلينا من تواريخ عن تلك الفئات، في أغلبها، مشكوك في مصداقيتها لأنها آحادية الجانب، وتفسر الوقائع من وجهات نظر سلطوية، وبما يتسق وأهدافها.

    في برنامج وثائقي عرضته، مؤخراً، محطة بي بي سي 2 التلفزية مع الكاتب والروائي الأسود جيمس بالدوين تحت عنوان «أنا لست زنجيك-I am not your nigger»، تعرض الكاتب إلى مسيرة نضال السود ضد العنصرية في أمريكا، من خلال مسيرة حياته الشخصية وتنقلاته وكتاباته، أتي على تعريف آخرمتميز للتاريخ، بتأكيده على أن التاريخ ليس الماضي بل الحاضر.

    الحاضر، ليس أمتداداً للماضي، كما يعتقد البعض. الماضي، كما يؤكد مثل أنجليزي، «بلد آخر.» الحاضر هو محصلة ما يحدث من وقائع تتعارض، شكلاً وموضوعاً، مع الماضي. وما نعيشه في وقتنا الحاضر من أحداث، خاصة بعد ما حدث في مدينة مينابولس بولاية مينسوتا الامريكية، ثم في غيرها من مدن أوروبا، يتعلق مباشرة بحق الأقليات في المشاركة في كتابة تاريخها، لأن التاريخ أساس الهوّيات. وبما يضمن اعادة تشكيل وصياغة ذاكرة جماعية، تمثل المجتمع وما حدث فيه من تطورات وتغيرات. وبما يكفل بناء مستقبل جماعي أفضل، قائم على المساواة بين كل مكونات المجتمع في كل الحقوق، وليس بعضها فقط.

    الجدير بالملاحظة، أن هذه الدعوات والمطالب، التي ظهرت مؤخراً، ليست جديدة كلية. فقد رفعتها في السابق الحركة النسوية في امريكا وأوروبا، منذ انطلاقها، حيث دعت قياداتها الى المطالبة بحق استعادة النساء لدورهن المحذوف من روايات المؤرخين، وحقهن في المشاركة في كتابة التاريخ بما يتسق وحقائق الواقع.

    صباحٌ بنكهة تونسية

    كل شيء حولي يذكّرني بأنني، لحماً وشحماً ومشاعر وعقلاً، موجود في تونس:

    شمس ربيعية مسالمة، تبتهج ساطعة من فوقي في سماء، بلا غيوم، مسترخية، وأمام عينيَّ الكهلتين يحركُ نسيمٌ عليلٌ سعفَ شجرِ النخيل الذي يصطف، على مسافات متساوية، عالياً، على جانبي نهج الولايات المتحدة الأميركية، حيث أجلس، أنا، على كرسي بلاستيكي، قاتم اللون، وأمامي، يقعي فنجان قهوة إكسبرس بلون أبيض محايد، على سطح منضدة معدنية، بسوادٍ لا يتسق وابتسامة الزمن من حولي وداخلي.

    كل شيء حولي يذكّرني بوجودي في مدينة اسمها أُشتق من الأُنُس، ولونُها من خضرة سعف النخل والزيتون، وقلبها من تألق بحر لا تهرم زرقته، وعقلها من سطوة جوع إلى المعرفة والحياة.

    حركة الشارع من حولي هادئة، وغريب إيقاع قلبي ذلك الصباح الربيعي الدافئ، وأنا جالس، صحبة ترقّبي، في مقهى يقع لصق فندق بلفيدير، حيث نزلت، منذ وصولي في الليلة السابقة، ضيفاً على جامعة منوبة بتونس، ممثلة في قسم وحدة الأنثروبولوجيا للدراسات العربية والمتوسطية، والذي يترأسه الدكتور محمد جويلي وقسم اللغة العربية الذي يرأسه الدكتور الشاذلي الهيشري، للمشاركة في أعمال ندوة الأدب المغاربي، الأدب الليبي نموذجاً.

    اشتعل ترقّبي، منذ لمستْ عجلاتُ طائرة الخطوط التونسية مهبط مطار قرطاج في المساء الفارط. هرعتُ، مغادراً، مع غيري من المسافرين، إلى خارج بدن الطائرة، مبتسماً بود في وجوه المضيفين والمضيفات، ومتوجهاً نحو قسم الأمتعة، في انتظار وصول حقيبة متاعي.

    مسافة زمنية طويلة كانت تفصلني عن لحظة استيقاظي، صباح ذلك اليوم، في بيتي بمنطقة وريستر بارك جنوب غرب لندن، لكن هذه المسافة الزمنية لا تقارن بالتي كانت تفصلني، حتى لحظة وصولي، عن تونس المدينة التي دخلت معها سنوات مديدة، عن سبق إصرار وترصد، في تجاهل من جانب واحد، ومن دون مبرر.

    كل ما حولي ومن حولي يؤكد وجودي في تونس:

    تسألني عاملة المقهى بلسان فرنسي فصيح، مثقل بود أنثوي، وهي تطل عليّ بوجه قمحي لون البشرة تضيئه ابتسامة، عما أود من شراب أحتسيه. طلبتُ بصوت خفيض الجناح، امتناناً، قهوة إكسبرس، واختطفتُ، بسرعة، سيجارة من علبة سجائري، الملقاة أمامي على المنضدة وأشعلتها، وتنفست نيكوتين تبغها بشهيّة، ونفثّته خارج رئتيَّ متأنّياً، ومستمتعاً بتلذذ خلايا دماغي بدفقة النيكوتين التي نفذت إليها، وسكنت حناياها.

    كان الوقت صبحاً صبياً غادر لتوه قيود داره، وانطلق، في زحمة الشوارع والأحياء، طليقاً، ناشداً الاستمتاع ببهاء أحلام صباه. وكنتُ، أنا القادم من لندن، جالساً صحبة ترقّبي، على كرسي قاتم اللون وبلاستيكي، في انتظار وصول صديقي الناقد نور الدين النمر رفقة محمد جويلي من مطار قرطاج، أتابع بعينين، كحلهما الأرق والإرهاق، وأيضاً، الرجاء، تفتح زهر أول نهار لي، في مدينة فتحت، على مدى قرون، أبواب قلبها على مصراعيها استقبالاً لأفواج الليبيين الذين فرّوا إليها، هرباً من الفقر والجوع والمرض والجهل ووحشية السلطة، فاحتضنتهم بحب، وآوتهم بدفء، وأطعمتهم من جوع، وآمنتهم من خوف، ثم حين طال بهم المقام بها، منحتهم سرها بالمعنى الصوفي للكلمة.

    حول المنضدة المجاورة لي، يجلس عاشقان على كرسيين متجاورين، ويصل إلي حديثهما كسقسقة طيرين، فرحين بما في صحبتهما من نشوة ودفء، يدخنان بنهم. ومن حين إلى آخر، تبدر من الفتاة ضحكة، فيرتبك إيقاع النبض في قلبي المُسنِّ، كمن لمسه، على حين غفلة، سلك كهربي. وفي المنضدة التي تقترب من حافة الرصيف، أمامي، على مسافة غير بعيدة، يجلس رجل وامرأة، يدخنان، منهمكين في حديثٍ بصوت لم ترن في أذنيّ دقات أجراسه. التقطتُ حقيبتي الجلدية الصغيرة التي أحملها معي في تنقلاتي، وأضع بها ما أحمل من لوازم وأوراق وكتب، من مكانها في كرسي مجاور لي، وفتحتها وأخرجت منها كتابا (مجموعة قصصية) لكاتب أميركي شاب اسمه فيل كلاي، كان مجنّداً في الجيش، وعاش أحداث غزو العراق، ثم حين أنهى خدمته العسكرية عاد إلى بلاده، وتحول إلى كتابة القصة القصيرة. وهذه مجموعته الأولى (Redeployment)، والكلمة مصطلح عسكري ترجمته إعادة الانتشار، وتدور أحداث القصص حول فترة وجوده في العراق. بدأت القراءة منشغلاً عمن حولي، ومستغرقاً في تتبع سطور القصة الأولى.

    كل شيء حولي يؤكد أنني لست في لندن:

    سمرة الوجوه، رعشة سعف النخيل في نهج الولايات المتحدة الأميركية، تراكم السنين القاسية على ملامح وأجساد المباني التي تمتد على امتداد الشارع في حالة إعياء ظاهر، أكياس القمامة الملقاة على جانبيّ الطريق، طعم مذاق قهوة الإكسبرس، تدفق دفء شمس ربيعية في برودة دمي، أصوات المارين العالية النبرة، همس العاشقين جنبي حول المنضدة المجاورة لي، حُوسة مطار قرطاج ليلاً. نظرة شرطي الجوازات في وجهي، بعدما تصفح جواز سفري البريطاني، وسؤاله لي: هل أنت ليبي؟ الدكتور جويلي، وهو يقف منتصباً بقامته الطويلة في ردهة المطار بيدين في جيبي بنطاله الجينز، ونظرات عينيه من خلف عدستي نظارته تفتشان الواصلين بحثاً عني.

    كل شيء حولي يؤكد أنني على بعد مرمى حجر من ألفة وجه أمي في طرابلس:

    ...في سيارة الدكتور جويلي، امتد سريعاً بيننا حبلُ الكلام والضحكات.

    ليس هناك ما يؤكد، أو ينفي، أنني بدأتُ، أو سأبدأ، علاقة بمدينةٍ، كامرأة جميلة فاتنة الملامح، أراها، وأعرفها عن بُعد، وأسمع عنها الكثير، منذ زمن طويل، لكنني لم أفكر، أو أسع، يوماً، إلى التقرب منها، وكأنني على خشية من الوقوع في شراك هواها: لماذا؟

    كل ما حولي، ومَنْ حولي، ذلك الصباح الربيعي المشمس، يؤكد أنني في تونس، بعيداً عن ضحكة أمُولة بنتي في لندن، وعلى مرمى شهقة من حنان أمي في طرابلس، حيث تركتُ، منذ سنين طويلة، طفولتي وصباي ومراهقتي، وشطراً من طراوة شبابي في انتظار عودتي.

    طراوة صورة قديمة

    لا أعرف عدد السنين التي تفصلنا، أمي وأنا، عن ذلك اليوم، الذي أُلتُقطتْ فيه لنا صورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود. ولم أعدْ أذكر مَن التقط تلك الصورة، وما المناسبة؟ ولا أعرف، على وجه الدقة، السببَ الذي ذكّرني بها، الآن، في هذا الوقت، تحديداً، وأنا أصعد، سلالم الزمن في طريق ينحدر نحو مثوى أخير. ولا أدري، حقاً، إن كان تذكر تلك الصورة القديمة، حالياً، مبعث سرور وبهجة أم محرّك آسى وحزن.

    الذاكرة الانسانية، في رأيي الشخصي، معقّدة حد المكر. وربما تفوق في شدة مُكرها أمكر الثعالب، وأكثرهم دهقنة. فقد تأتي أوقات تجعلك تشعر بأنها لم تَعُدْ صالحةً للاستخدام، بل وأضحتْ كغربال قديم اهتراه الزمن، لم يعد يصلح لشيء

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1