Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

قاب قوسين من الياسمين
قاب قوسين من الياسمين
قاب قوسين من الياسمين
Ebook432 pages3 hours

قاب قوسين من الياسمين

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

رواية تحكى قصة حب بين مؤلف شاب وسيم ثرى فقد بصره وتعرض للعديد من الأزمات التى دفعته للهروب إلى أحد الأحياء الشعبية ليلتقى بفتاة صماء بكماء تحيى فيه الأمل من جديد وتعيده للحياة رغم أنه لا يسمع صوتها ولا يراها.. وتتوالى الأحداث…
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2016
ISBN9789771453420
قاب قوسين من الياسمين

Related to قاب قوسين من الياسمين

Related ebooks

Reviews for قاب قوسين من الياسمين

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    قاب قوسين من الياسمين - محمد ناجي عبد الله

    روايــــــة

    %d9%82%d8%a7%d8%a8%20%d9%82%d9%88%d8%b3%d9%8a%d9%86%20Titel.psd

    إشـراف عام: داليا محمد إبراهيم

    جميــع الحقــوق محفـوظــة © لدار نهضة مصر للنشر

    يحظـــــر طـبــــــع أو نـشـــــر أو تصــويــــر أو تخـزيــــن

    أي جــزء مــن هــذا الكتــاب بأيــة وسيلــة إلكترونية أو ميكانيكية

    أو بالتصويـــر أو خــلاف ذلك إلا بإذن كتابي صريــح من الناشـــر.

    الترقيم الدولي: 0- 5342- 14-977-978

    رقـــم الإيــــداع: 22685 / 2015

    طبعة يـنــايـــر 2016

    Arabic_DNM_logo_Color_fmt

    21 شارع أحمد عرابي - المهندسين - الجيزة

    تليفـــون: 33466434 - 33472864 02

    فاكـــــس: 33462576 02

    خدمة العملاء: 16766

    Website: www.nahdetmisr.com

    E- mail: publishing@nahdetmisr.com

    إهداء خاص

    إلى من علَّماني ألا أرضخ لضغوط الزمان وأن أنأى بذاتي وعقلي ومواهبي عن كل ما هو مبتذل... فكل مبتذل زائل... أبي وأمي داعميَّ منذ نعومة أظافري، أهديكما كلماتي المتواضعة...

    إلى زميلتي وصديقتي بالدراسة... المهندسة/نوران جرادة، الداعمة الأولى لي بهذا العمل منذ تطوير الفكرة... أنتِ بالفعل «جزءٌ من أحداثها» وحبكتها.

    إلى الرائعتين: د. إيمان الدواخلي وسارة صلاح... لن أوفيكما قدركما الحقيقي، أرجو أن تقبلا إهدائي المتواضع.

    إلى الجميل والصديق السيناريست والكاتب/شريف عبد الهادي...رب أخ لم تلده أم، شكرًا على كل شيء.

    إلى أخي وشريكي في الجريمة مهندس/عبد الله ناجي... أنت داعمي الأول حتى في أخطائي... شكرًا لك على كل شيء.

    إلى أبي الروحي... المهندس والفنان/ محمد علي إبراهيم، شكرًا على كل شيء يا أبي.

    و أخيرًا...

    إلى «غَجَرِيَّتي».....

    - ألو..

    - أيوه..

    - إزيك يا بلال.. كلمتك خمس مرات ومابتردش.

    - معلشي.. مانتي عارفة بقى..

    - هاتفضل كده كتير؟؟!، ماتفوق بقى يا أخي..

    - انتي عايزة إيه دلوقتي؟

    - ...

    - طيب لحد ماتعرفي أنا لسه راجع من تحت وعايز أنام..

    - تااني؟!! نزلت لوحدك تاني؟ مش قولتلك م... ألو.. ألووو!!!

    1

    «بقيود الزمان والمكان قُيدتُ.. بمجتمع معاق تسلسلت.. وبآفة ذل أُلصِقت بي، عشت.. كيف لا ولست بحُرَّة نفسي.. أتحدث فلا يبالون، أصرخ فتتعالى ضحكاتهم «زيدي يا امرأة فصراخك يشبع وحشيتنا.. زيدي فلذّتنا تكتمل بصراخك المكتوم».. تحرري من قيودك يا بنت حواء، ارتدي معطف الأمل في برد الخذلان.. وأكملي.. كوني سيدة نفسك واحكمي.. كوني «أنتِ» فحسب... وقاومي».

    الصمت.. عادة هو الملاذ الأخير لنا حين نشعر بالضجر يغلفنا من كل اتجاه، هو الملاذ الحقيقي الوحيد لآلامنا وصدماتنا، الملاذ الأكثر أمنًا ككثبانٍ من رمال الصحراء الدافئة ندفن فيها رءوسنا باحثين عن بضع دقائق أو ربما ساعات من الهدوء لا نسمع فيها سوى طنين يدوي في عقولنا.. لا نسمع سوى ذاك الصفير يتردد ثابتًا في آذاننا، آملين أن يعود كل شيء كما كان فور انتهائه، ولكن لا شيء يتغير؛ فلا الصفير ينتهي، ولا العالم يصير مكانًا أفضل. البعض يرى أن لجوءنا للصمت لهو ضرب من الجبن والهروب من شيء ما، ضرب من الضعف وقلة الحيلة كما يرى البعض الآخر.. لكن للصمت ألف معنى وآلاف الحكايات، وربما كان أغربها ما حدث منذ خمس سنوات في أحد أكثر شوارع القاهرة صخبًا وألمًا وحميمية.. مدينة من جحيم إن أردت وصفها؛ فهو لم يكن مجرد شارع لا يعبأ بما يحتويه من حكاوٍ ونميمة وتراشق بالألفاظ وتفاوت في العقليات وعالم مليء بفانتازيا يصعب على عقول أبناء الغرب خلق شيء يضاهيها.. أتحدث عن شارعٍ لطالما كان بمثابة محطة الأمل للبعض وبداية حكاية وانتهاء أخرى للبعض الآخر.. هو مدينة كاملة كما ذكرت، تعجّ بأصحاب الياقات البيضاء ومتوسطي التعليم وصفوة ممن اختاروا العيش فيها على التواجد بحيٍّ راقٍ بارد الأجواء خالٍ من حميمية وزحام الشوارع العامة عوضًا عن هدوء الشوارع الخلفية القاتل. لا يسلم أهل شارع «رمسيس» من أصوات صدام عجلات عربات قطار المحطة على القضبان الحديدية بدءًا من السادسة صباحًا حتى انتصاف الليل في عرض متواصل لسيمفونية «قضبان يغزوها الصدأ» التي باتت آذانهم تستأنسها وتألف ضجيجها، بل وبعض العجائز أصبح لا غنى لهم عنها، ينتظرون مواعيد العربات جالسين وجالسات، كلٌّ على شرفة منزله بانتظارها.. كأنها تذكِّرهم بميعادٍ ما، بحبيب أو رفيق ما، بقصة ما، أو لعلَّها مؤنستهم الوحيدة في شارع لا يعلم للصمت طريقًا.

    كان المنزل الوحيد بأحد الشوارع الجانبية لشارع «رمسيس» الذي نالت منه عوامل الجو حتى بات من الصعب الاحتفاظ به دون عملية التنكيس.. تلك الكذبة التي يداوي بها أهل ذاك المنزل ذي الخمسة طوابق أنفسهم لكي لا يتم طردهم، وبناء برج شاهق الارتفاع بعد إزالة بواقي هذا المنزل الهَرِم كما لا ينفك أن يسميه الحاج «مدبولي».. الرجل الستيني الذي يملك أربعة منازل قديمة تجاور هذا المبنى العتيق ويود شراءه بأي ثمن لهدمه وإنشاء صرحه المعهود.

    العام تلو الآخر ولا يزال حلم الحاج مدبولي بهدم المنزل قائمًا، لكن عمليات التنكيس التي يدفع ثمنها سكان العمارة الأجلاء لا تزال أيضًا تتعاقب حتى بات من المرهق أن يجادلهم هذا العجوز أكثر.. بل إنه كان دائم الدعوة «ربنا ياخدكو ويريحنا منكو.. ده العمارة بتجيب ضرفها وانتو لسه متبتين في الدنيا!!!». خمسة طوابق من مبنى مهترئ كعاهرة عجوز مسنة مترهلة الجسد منحنية الظهر فقدت كل مقومات الإثارة والجمال ومازالت تحاول التباهي بجسدها الرخو.. خمسة طوابق تربط بينها سلالم متآكلة وجحور الفئران تضعف هيكلها، السنة تلو الأخرى وأجيال من الهررة مارست الرذيلة أسفل عتبات السلالم بها وسكان أقلهم عمرًا تجاوز الخمسين ولا يزال المنزل قائمًا. حاول الكثيرون اقتسام غنيمة هدم المنزل مع الحاج مدبولي بعرض خدماتهم ورفع دعاوى قضائية بهدمه بحجة الأمن العام، لكن عجائز المنزل القديم قاتلوا بشدة كما لو كان هدمه بقدسية هدم الكعبة المشرفة.. كما أنه من الصعب عليك أن تجد بيتًا بإيجار ثلاثة جنيهات في الشهر الواحد في تلك المدينة الطاغي أهلها.

    قد يخيَّل إليك أنه ما من مجال للخصوصية أو كتم الأسرار في شارع كهذا، قد يخيَّل إليك أن الجميع يعرفون أدق تفاصيلك بما يشمل ما يتم نشره على حبال الغسيل، فإن كان يمكنهم تخمين حجم مؤخرة أحدهم من ملابسه الداخلية المعلقة على كل شرفة، فبالأحرى لا يمكنك ستر أحاديثك العامة عمن بهذا الشارع الملعون.

    مرَّ على بناء المنزل القديم «دهرٌ» من الزمن، شهدت فيه كل ذَرَّة تراب صُنع منها ما آلت إليه تلك المدينة من تدهور ورجس لن يُمحَى ولو بعد حين. اعتاد عجائز الخمسة طوابق السؤال والمثابرة على دعم كلٍّ منهم للآخر، كما لو كانوا كيانًا وهيكلًا واحدًا.. تربط بينهم تفاصيل وطقوس خاصة للغاية، فالأبواب المتقابلة في كل طابق تفتح على مصراعيها ويتم نصب المآدب وطاولات الطعام تصل بين كل بابين بالطابق ويتشارك الجميع في كل شيء، لا أسرار مخفية ولا علاقات سرية خارج نطاق العمارة القديم بنيانها.. لكن كان يستثنى من ذلك الطابق الثاني، الطابق الذي يحوي شقتين متجاورتين وباحة فسيحة بعض الشيء أمامهما، لم تكن الشقة يسار السلم هي ما تشغل تفكيرهم حقًّا.. لكن الساكن الغريب بالشقة الأخرى المجاورة كان الشوكة التي وقفت في حلق ساكني هذا المنزل.. فمن الغريب ألا يتأقلم بعد محاولاتهم العديدة للتقرب منه ونيل رضاه. البعض وصفه بسافل لعين هرب من حياته السابقة بعد أن ناله ما ناله من العقاب المضني، وآخرون تناقلوا كلمات توحي بأنه أحد الأبناء المدللين لأبوين متوفيين غرقًا في إحدى رحلاتهما البحرية على قارب كانا يملكانه تاركين إليه ثروة تتنافى مع إصراره على عدم ترك هذا المنزل المهترئ، فشخص في مثل موضعه لا يترك ثروة للعيش هنا إلا إن كان لصًّا أو هاربًا يسعى للتخلص من مأزق ما.

    على طرق قوي هز زجاج الباب، استيقظ فزعًا.. يفرك عينيه والأصوات تكاد تُذهِب عقله المشتت إثر صدمة الاستيقاظ مفزوعًا، «يا أستاذ بلال.. يا أستاذ بلال».. ذاك الصوت المحشرج لا ينفك ينطق باسمه ولا تزال يده اليمنى تطرق وتخبط بغلٍّ دفين تسبق لسانه إلى الباب.. «يا بلال باشا إنت لسه نايم؟». تلفت «بلال» حوله بعد أن استشعر الضجر داعكًا وجهه بكلتا يديه بحركة عفوية محاولة منه للإفاقة، تحسس بقدميه نعليه أسفل سريره حتى وجدت أصابعها ضالتها وارتدته.. لا يزال الطرق مستمرًّا، ولا يزال«بلال» الشاب الثلاثيني في تيهٍ من أثر الفزع. بعد أن هدَّأ من روعه وتقدم ببطءٍ نحو الباب لعن من يقف خلفه ولعن المكان بأسره، بخطى متثاقلة مرَّ بأركان الشقة المظلمة، نوافذها المغلقة والمكسوة بحاجز من الستائر أضافت عتمة إلى عتمة المكان.

    - يا أستاذ بلال المكوة..

    - طيب يا زفت.. قولتلك ميت مرة أنا لسه باسمع..

    - عندي ديه يا باشا.. المكـ..

    - خلاص فهمنا، إرميها عالكرسي وغور من قدامي.

    بينما نظر الفتى إلى«بلال» باستخفاف من أعلى رأسه وحتى أسفل سافله، تحرك «بلال» بخطى هادئة وسط الظلام المقيم بالمكان متجهًا إلى الحمَّام إلى دش دافئ يدفئ أنفاسه في صباحٍ بهذا البرود تاركًا خلفه «سراج» يتجول كما لو كانت مملكته، بلا حرمات أو حدود.. مرَّ الشاب ممتلئ الجسد حليق الرأس منفرج الفم تزينه أسنانٌ صفراء كأحد فتارين الذهب تاركًا الملابس على الكرسي كما أمره صاحب المنزل ولا يزال يتجول حتى قادته قدماه إلى المطبخ، ببرود فتح الثلاجة والتقط منها تفاحتين وبضعة مثلثات من الجبن خلت الثلاجة من سواها. قضمت أسنانه القذرة بضع قضمات من إحدى التفاحتين في نهم شديد وبعدها صرخ بصوته المحشرج: «الظرف بتاع كل شهر يا بيه وصل بدري»، أمره «بلال» بتركه بجانب الملابس فاختلس منه بضع وريقات نقدية كعادته آملًا ألَّا يلحظها «بلال» وتركه على منضدة بجانب الكرسي استكان فوقها برواز يحوي صورة لـ«بلال» وفتاة عشرينية بارعة الجمال توج رأسها الدائري الدقيق شعرٌ أحمرُ ملتهبٌ وقد غطى جمال اللقطة غبار لم يحرك ساكنًا منذ أشهر.. وكعادة «سراج» كلما أتى ونظر لتلك الصورة كان يقلبها على وجهها، يحاول بعثرة كل شيء قبل مغادرته.. لطالما تعجب من هذا المنزل الغريب، فكل شيء منظم بإتقانٍ وتفانٍ شديدين. كانت تلك الدقة تستفز ذاك الأهوج، فيمر بكل غرفة يبعثر ما بها ويقلبها رأسًا على عقب بشكل طفولي وكأنها حادثة؛ الستائر المغلقة يقوم بفتحها على مصراعيها، أكواب الشاي الزجاجية المرتبة في أعلى يمين درفة المطبخ تصير في أسفل يسارها.. حتى تنتهي ألاعيبه بشتيمة تنطلق من فم «بلال» من داخل غرفته ناعتًا إياه بـ«المتسول» ومن ثم يتم طرده فيخرج عن طيب خاطر بعد أن نال منه بالعبث في مملكته العتماء تاركًا رائحة قدميه العفنتين ملتصقة بأرضية الباركيه الخشبية.

    كان كل شيء على حاله منذ ثمانية أشهر؛ الأثاث قابع في أركانه لم يمسسه إنس ولا جان، ممالك النمل تزايدت بين شروخ الأرضية الخشبية تتبعها مصائد العناكب من الأعلى، المنزل شديد الهدوء والتنظيم.. إلا أن الغريب هو كيف لمنزل بهذا الترتيب لا توجد به بقعة خالية من الغبار؟ ترنح «بلال» خارجًا من الحمام الدافئ بعد أن نال منه البرد بأعراض الزكام، توجه إلى غرفته وجلس على كرسيه الهزَّاز الخشبي يصدر صريرًا اعتادته أذنه شاخصًا بصره إلى النافذة الكبيرة، يستغرق في خيالاته ويفكر كيف له أن يمضي يومًا آخر في حياته البائسة. تحسس بيده اليمني فنجانًا تيبس ما به من قهوة الأمس كصحراء قاحلة فالتقطه وهمَّ واقفًا بعد أن قرر الخروج من سجنه للمرة الخامسة هذا الشهر. ارتدى أفضل ما لديه، في الواقع كان قميصه الأبيض وبنطاله البني الجينز لائقين وشعره البني الداكن إلى الخلف اتجاهه، أضفت كوفية صوفية ذات ألوان مبهرجة ومعطفه الجلدي الأسود القصير المحبب إلى قلبه جمالًا وأناقة لهذا الطقم.. توجه إلى الباب وهو لا يدري إلى أين المفر، فقط الشعور بأنك ستغادر سجنًا وأنت بمنأى عما حولك لهي مغامرة لم يكن ليفوتها عليه.. لكن قبل الرحيل.. توقف للحظة أمام مرآة طولية مثبتة بجوار الباب على يمينه فالتفت ونظر إليها، وبثقة عمياء ارتدى آخر قطعة من ملبسه، نظارة «راي بان» ذات العدسات العريضة السمراء التي تخفي معظم تفاصيل وجهه الوسيم. لم تكن النظارة الشمسية لتلائم الجو البارد القاتم خارج المنزل.. لكنها لا تزال الشيء الوحيد الذي داوم على ارتدائه منذ أن انتقل إلى ذلك المنزل الكئيب.. آملًا أن كل شيء ربما يعود كما كان، أو ربما لم يحدث من الأصل وأنه في كابوس مقيت قد يستيقظ منه في أي لحظة فور نزوله إلى الشارع وسط ضجيج وصخب العالم الخارجي.. حتى يتخطى عتبة الباب ليتأكد مرة أخرى أن ارتداءه لنظارة شمسية مثيرة ولافتة للأنظار لن يغيِّر من كونه.. «ضريرًا».

    * * *

    2

    على مقربة من البناية القديمة تقبع القهوة البلدي الأشهر بالمنطقة، يجاورها ملك القصب والعناب «عم فوزي»، العجوز الذي بات لا يلقي بالًا بعينيه شديدتي الصفرة ونحافته البالغة إثر فيروس الكبد، زهد الدنيا والآخرة معًا، فلم يعد يعبأ بنظافة يديه المتشققتين خشنتي الملمس قذرتي الهيئة عند لمس وتنظيف أكواب العصير الزجاجية. قد يبصق في إحداها بعد ملئها بالقصب للحاج «مدبولي» الذي لن يتردد للحظة-إن استطاع- في طرده من البناية القديمة، ويملأ أخرى ويهتم بها عند تقديمها لـ«بلال» الوحيد الذي يطيق سماع ترهاته وحكاويه من غير ملل أو كلل. قد لا يكون بلال على وفاق مع «عجائز الغفلة» كما اعتاد «فوزي» تسميتهم، لكن العم فوزي شيء آخر، ولعل تلك الحكاوي التي تصدر من هذا العجوز الخرف الذي تجاوز من العمر السبعين هي المهرب الوحيد لبلال بين ظلام حالك السواد وضجيج الشارع من حوله. على الكرسي الخشبي المتماسك الوحيد بالقهوة جلس«بلال» كأحد ساكني المنطقة منذ أعوام وهو ابن الثمانية أشهر فيها، تربَّع على عرشه خارج القهوة في أحد المواقع الخاصة لزواياها، بعد جلسة الساق على الساق واستكانة كوعي ذراعيه بجانبيه فاردًا صدره العريض، هتف بثقة مناديًا «راضي» لجلب طلبه المعتاد.. «قهوة مادو يا راضي وحياة أبوك»، ليلبّي راضي كما لو كان أمرًا إلهيًّا بلغة لا يفهمها سواهما.

    لا يزال«بلال» يتذكر برودة ذاك الكرسي الخشبي منذ الجلسة الأولى عليه وتمزق قعر بنطاله القماشي بأحد المسامير الناتئة سِنُّه من الكرسي، تذكَّر رائحة البن المحوج التي داعبت سائر غرائزه مرورًا بأنفه حتى قادته بلا بصر إلى الجلوس على الكرسي، تذكَّر سماع صوت «راضي» الذي تعمد رفع صوته ومعاملته كما لو كان أصمَّ وليس ضريرًا، لطالما كان سلوك من حوله وإصرارهم الغريب على رفع أصواتهم عند التطرق إلى أي حديث معه يثير استفزازه. يستيقظ من نومه ويرتدي أفضل ما لديه ويضع عطره ذا الرائحة طاغية الرجولة ومن ثم ينزل بتأنٍّ متخذًا عتبات المنزل التسع من كل طابق تتحسسها قدماه، يتوخى الحذر في عتبتي الدور الأول المهشمتين ومن ثم يتحرك موازيًا لحائط المبنى القديم مستدِلًّا بماسورة تمر خارجة منه حتى يقفز من فوق إحدى حُفَر الشارع التي بات يتحسسها بخطواته قبل عصاه لم تزد شبرًا أو تنقص، وفور سماعه لدقات «راضي» على «الطقطوقة» المعدنية وتتحسس سخونة الفحم بشرته البيضاء الملساء إلا من خشونة لحية خضراء فيبتسم ويهدِّئ من مشيته، يتلقفه «العم فوزي» ويروي إحدى نكاته السيئة حتى يصلا إلى الكرسي الخشبي خارج القهوة.. ويبدأ يومه.

    - بيقولك بقى يا أستاذ بلال مرة نملة وبنتها ماشيين فوق دماغ واحد أقرع.. النملة الصغيرة بتقول لأمها «ياماا إلحقيني يامماا أنا عطشانة»، تقوم أمها تقوللها: «اسكتي يابنتي إحنا في صحراااا...

    - عم فوزي.. إنت عارف إن أنا بقيت أحط البنطلون جوه الشراب قبل ما أسمع نكتك؟

    - ليه كده يابني؟

    - عشان لو حاجة وقعت منه كده والا كده ماتجريش في الأرض.. إرحم أمي يا عم فوزي!!

    كان ما يثير «العم فوزي» في نكاته التي ألقاها ولا يزال يلقيها على مسامع «بلال» بضحكته المجلجلة وفمه المنفرج عن آخره، حتى يطغى على سائر ملامح وجهه المجعد بخنادق ملأها الزمان والأسى، هو ردة فعل «بلال» التلقائية، قهقهة كليهما بعد سخرية «بلال» من النكات القديم عمرها كانت متعة ولذة تثير ذاك العجوز المسكين، كأن كليهما خُلِقَ للآخر؛ هو ليلقي النكات والدعابات السيئة وبلال ليسخر منها ومن ثم يغرق كلاهما في دموع تنساب من جانبي أعينهما ضحكًا. لم يتجرأ «فوزي» على البوح لـ«بلال» بما جال في خاطره عندما انتقل«بلال» للسكن منذ أشهر في البناية القديمة، لم يكن من أمره شيء سوى متابعة الشاب الضرير غريب الأطوار الذي أتى إليهم من كوكب آخر أو ربما «حقبة أخرى» بأزيائه الغريبة وسلوكه ورقيه، لم يكن ليسأله عن صحة الشائعات الدائرة حوله كهالة يتحدث عنها الكل.. كل ما شغل تفكيره هو «كيف لهذا الشاب أن يأسر قلبه كما لو كانت تربطهما صلة دم واحدة؟»، لم يكن ليسأله حتى يبوح من تلقاء نفسه.

    بينما كان «بلال» يدندن بألحان «كوكب الشرق» على مذياع قديم معلَّق أعلاه، همَّ «فوزي» منطلقًا إلى محله تاركًا سلامه إلى «بلال» مؤكدًا له أن أمزوحة الغد ستكون أكثر صرامة من أمزوحة «النملة وأمها» ليقهقه «بلال» قائلًا: «ماشي يا عجووز يا ابو نملة، تلاقيها دماغك القرعة اللي كانوا ماشيين عليها»، وفور أن استعرض «فوزي» عرض منكبي ظهره منطلقًا انتشلت رنة الهاتف الجوال «بلال» من شروده وسط معزوفات القهوة والجالسين في أركانها.. «مشكلني حبك يا رووح الروح مشكلني..» تبدل وجهه إلى الوجوم، رفع الهاتف محدقًا إليه لثوانٍ حتى توقف.. همَّ بإعادته إلى جيبه فأطلق صافرة إنذاره المزعجة من جديد بالأغنية الخليجية، أجاب بلال لتتبلد قسمات وجهه أكثر وتتلاشى تجاعيد جبينه تاركة خلفها جبهة مسطحة خالية من الشعور..

    - بلال لو سمحت ماتقفلشي..

    - عايزة إيه يا مايسة؟ قولتلك أنا كده كويس، لما أحتاجلك هاكلمك.

    - خلاص خلاص.. الظرف وصل؟

    - أيوه..

    - طيب حبيبي أنا.. كنت...«علي» بيسلم عليك.

    ساد الصمت برهة بين كليهما تتخلله ضربات «راضي» على الطقطوقة المعدنية وصفير أحد المارة، ليباغتها «بلال» بسؤاله:

    مايسة إنت أكيد مابتتكلميش عشان تبلغيني سلام جوزك.. عايزة إيه؟

    بحشرجة صوت وبتردد أجابت: «حبيبي إحنا مش هاينفع ننزل السنة دي.. «علي» إترقى وغصب عني والله.. إنت عارف هو بس يخلص صفقته وهاننزل»..

    بابتسامة ساخرة مليئة بحزن دفين وكبرياء أجابها: «ومين قالك بقى يا ستي إني قاعدلكو على باب المطار مستنيكو.. مش انتي بعتّي الظرف خلاص؟؟.. أنا مبسوط».

    أغلق الهاتف بعد أن استشعر الحرج في صوتها، يعلم أنه لا شأن لها في ترك أخيها الوحيد بعد وفاة والديهما في الحادث، الحادث الذي دمر بقايا الأسرة كما اعتاد أن يسميها إذ لم يكن كل أفرادها على وئام منذ نشأتها، لكن ما آلمه وكسر شيئًا بداخله -حتى لو التأم لظلت الندوب والفواصل بين قطعه علامات واضحة تشوهه شكلًا ومضمونًا- هو تيقنه من أنه لم يحظَ بأي شريك حقيقي بعد فقدانه لنور عينيه، ترك خلفه كل ما هو غالٍ ونفيس ورضي

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1