Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

المغني لابن قدامة
المغني لابن قدامة
المغني لابن قدامة
Ebook1,197 pages5 hours

المغني لابن قدامة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

كتاب المغني من مستودعات الفقه الحنبلي، ويمكن اعتباره من أكبر كتب الفقه في الإسلام،وهو و شرحٌ لمختصر أبي القاسم عمر بن الحسين الخرقي، كما ذكر المؤلف ذلك بنفسه في أول كتابه ويقع في 15 مجلداً مع الفهارس
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateSep 11, 2001
ISBN9786491436559
المغني لابن قدامة

Read more from ابن قدامة

Related to المغني لابن قدامة

Related ebooks

Related categories

Reviews for المغني لابن قدامة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    المغني لابن قدامة - ابن قدامة

    الغلاف

    المغني لابن قدامة

    الجزء 13

    ابن قدامة المقدسي

    620

    كتاب المغني من مستودعات الفقه الحنبلي، ويمكن اعتباره من أكبر كتب الفقه في الإسلام،وهو و شرحٌ لمختصر أبي القاسم عمر بن الحسين الخرقي، كما ذكر المؤلف ذلك بنفسه في أول كتابه ويقع في 15 مجلداً مع الفهارس

    فَصْلٌ قَسَمَ الْفَيْءِ بَيْنَ أَهْلِهِ

    (5092) فَصْلٌ: وَاخْتَلَفَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فِي قَسْمِ الْفَيْءِ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ فِيهِ. وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَوَّى بَيْنَ النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ، وَأَدْخَلَ فِيهِ الْعَبِيدَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، أَتَجْعَلُ الَّذِينَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَهَجَرُوا دِيَارَهُمْ لَهُ، كَمَنْ إنَّمَا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ كَرْهًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّمَا عَمِلُوا لِلَّهِ، وَإِنَّمَا أُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا الدُّنْيَا بَلَاغٌ.

    فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَاضَلَ بَيْنَهُمْ، وَأَخْرَجَ الْعَبِيدَ، فَلَمَّا وَلِيَ عَلِيٌّ، سَوَّى بَيْنَهُمْ، وَأَخْرَجَ الْعَبِيدَ. وَذُكِرَ عَنْ عُثْمَانَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ فَضَّلَ بَيْنَهُمْ فِي الْقِسْمَةِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَذْهَبُ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ. أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ التَّسْوِيَةَ، وَمَذْهَبُ اثْنَيْنِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ التَّفْضِيلَ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَجَازَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ، وَيُؤَدِّي اجْتِهَادِهِ إلَيْهِ.

    فَرَوَى عَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ، أَنَّهُ قَالَ: لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَضِّلَ قَوْمًا عَلَى قَوْمٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنْ لَا يُفَضِّلُوا. وَهَذَا اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبِي: رَأَيْت قَسْمَ اللَّهِ الْمَوَارِيثَ عَلَى الْعَدَدِ، يَكُونُ الْإِخْوَةُ مُتَفَاضِلِينَ فِي الْغَنَاءِ عَنْ الْمَيِّتِ، وَالصِّلَةِ فِي الْحَيَاةِ، وَالْحِفْظِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَلَا يُفَضَّلُونَ، وَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ عَلَى الْعَدَدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى غَايَةَ الْغَنَاءِ وَيَكُونُ الْفَتْحُ عَلَى يَدَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ مَحْضَرُهُ إمَّا غَيْرُ نَافِعٍ، وَإِمَّا ضَرَرٌ بِالْجُبْنِ وَالْهَزِيمَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَهُوَ انْتِصَابُهُمْ لِلْجِهَادِ، فَصَارُوا كَالْغَانِمِينَ.

    وَالصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ مُفَوَّضٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، يَفْعَلُ مَا يَرَاهُ مِنْ تَسْوِيَةٍ وَتَفْضِيلٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعْطِي الْأَنْفَالَ، فَيُفَضِّلُ قَوْمًا عَلَى قَوْمٍ عَلَى قَدْرِ غَنَائِهِمْ. وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ حِينَ كَثُرَ عِنْدَهُ الْمَالُ، فَرَضَ لِلْمُسْلِمِينَ أَعْطِيَاتِهِمْ، فَفَرَضَ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ خَمْسَةَ آلَافٍ خَمْسَةَ آلَافٍ، وَلِلْأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَفَرَضَ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَلِأَهْلِ الْفَتْحِ أَلْفَيْنِ، وَقَالَ: بِمَنْ أَبْدَأُ؟ قِيلَ لَهُ: بِنَفْسِك. قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَبْدَأُ بِقَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

    فَبَدَأَ بِبَنِي هَاشِمٍ ثُمَّ بِبَنِي الْمُطَّلِبِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ». ثُمَّ بِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ؛ لِأَنَّهُ أَخُو هَاشِمٍ لِأَبَوَيْهِ، ثُمَّ بِبَنِي نَوْفَلٍ؛ لِأَنَّهُ أَخُوهُمَا لِأَبِيهِمَا، ثُمَّ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: يَنْبَغِي أَنْ يَتَّخِذَ الْإِمَامُ دِيوَانًا، وَهُوَ دَفْتَرٌ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الدِّيوَانِ، وَذِكْرُ أَعْطِيَاتِهِمْ، وَيَجْعَلَ لِكُلِّ قَبِيلَةٍ عَرِيفًا. فَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَّفَ عَامَ حُنَيْنٍ عَلَى كُلِّ عَشْرَةٍ عَرِيفًا. وَإِذَا أَرَادَ إعْطَاءَهُمْ بَدَأَ بِقَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيُقَدِّمُ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ

    وَيُقَدِّمُ بَنِي عَبْدِ الْعُزَّى عَلَى بَنِي عَبْدِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ فِيهِمْ أَصْهَارَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ خَدِيجَةَ مِنْهُمْ، حَتَّى يَنْقَضِيَ قُرَيْشٌ، وَهُمْ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ قُرَيْشٍ الْأَنْصَارُ، ثُمَّ سَائِرُ الْعَرَبِ، ثُمَّ الْعَجَمُ وَالْمَوَالِي، ثُمَّ تُفْرَضُ الْأَرْزَاقُ لِمَنْ يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِمْ، مِنْ الْقُضَاةِ، وَالْمُؤَذِّنِينَ، وَالْأَئِمَّةِ، وَالْفُقَهَاءِ، وَالْقُرَّاءِ، وَالْبُرْدِ، وَالْعُيُونِ، وَمَنْ لَا غِنَى لِلْمُسْلِمِينَ عَنْهُ، ثُمَّ فِي إصْلَاحِ الْحُصُونِ، وَالْكُرَاعِ، وَالسِّلَاحِ، ثُمَّ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ بِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ، وَإِصْلَاحِ الطُّرُقِ

    وَكَرْيِ الْأَنْهَارِ، وَسَدِّ بُثُوقِهَا، وَعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ، ثُمَّ مَا فَضَلَ قَسَّمَهُ عَلَى سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَخُصُّ ذَا الْحَاجَةِ.

    فَصْلٌ يَعْرِفُ فِي الْغَنِيمَة قَدْرَ حَاجَات أَهْلَ الْعَطَاءِ وَكِفَايَتِهِمْ

    (5093) فَصْلٌ: قَالَ الْقَاضِي: وَيَعْرِفُ قَدْرَ حَاجَتِهِمْ - يَعْنِي أَهْلَ الْعَطَاءِ - وَكِفَايَتِهِمْ، وَيَزْدَادُ ذُو الْوَلَدِ مِنْ أَجْلِ وَلَدِهِ، وَذُو الْفَرَسِ مِنْ أَجْلِ فَرَسِهِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ عَبِيدٌ لِمَصَالِحِ الْحَرْبِ حَسْبَ مَئُونَتِهِمْ فِي كِفَايَتِهِ، وَإِنْ كَانُوا لَزِينَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ، لَمْ يَدْخُلُوا فِي مَئُونَتِهِ. وَيَنْظُرُ فِي أَسْعَارِهِمْ فِي بُلْدَانِهِمْ؛ لِأَنَّ أَسْعَارَ الْبُلْدَانِ تَخْتَلِفُ، وَالْغَرَضُ الْكِفَايَةُ، وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ الذُّرِّيَّةُ وَالْوَلَدُ، فَيَخْتَلِفُ عَطَاؤُهُمْ لِاخْتِلَافِ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فِي الْكِفَايَةِ، لَا يُفَضِّلُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ كِفَايَتُهُمْ، وَيُعْطُونَ قَدْرَ كِفَايَتِهِمْ، فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً.

    وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - عَلَى قَوْلِ مَنْ رَأَى التَّسْوِيَةَ. فَأَمَّا مِنْ يَرَى التَّفْضِيلَ، فَإِنَّهُ يُفَضِّلُ أَهْلَ السَّوَابِقِ وَالْغَنَاءِ فِي الْإِسْلَامِ، عَلَى غَيْرِهِمْ، بِحَسْبِ مَا يَرَاهُ، كَمَا أَنَّ عُمَرَ، فَضَّلَ أَهْلَ السَّوَابِقِ، فَقَسَمَ لَقَوْمٍ خَمْسَةَ آلَافٍ، وَلِآخَرِينَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَلِآخَرِينَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَلِآخَرِينَ أَلْفَيْنِ أَلْفَيْنِ، وَلَمْ يُقَدِّرْ ذَلِكَ بِالْكِفَايَةِ.

    فَصْلٌ الْعَطَاءُ الْوَاجِبُ مِنْ الْغَنِيمَة لَا يَكُونُ إلَّا لَبَالِغٍ يُطِيقُ مِثْلُهُ الْقِتَالَ

    (5094) فَصْلٌ: وَالْعَطَاءُ الْوَاجِبُ لَا يَكُونُ إلَّا لِبَالِغٍ يُطِيقُ مِثْلُهُ الْقِتَالَ، وَيَكُونُ عَاقِلًا حُرًّا بَصِيرًا صَحِيحًا، لَيْسَ بِهِ مَرَضٌ يَمْنَعُهُ الْقِتَالَ، فَإِنْ مَرِضَ الصَّحِيحُ مَرَضًا غَيْرَ مَرْجُوِّ الزَّوَالِ، كَالزَّمَانَةِ وَنَحْوِهَا، خَرَجَ مِنْ الْمُقَاتَلَةِ، وَسَقَطَ سَهْمُهُ، وَإِنْ كَانَ مَرَضًا مَرْجُوَّ الزَّوَالِ، كَالْحُمَّى وَالصُّدَاعِ وَالْبِرْسَامِ، لَمْ يَسْقُطْ عَطَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْتَنِيبُ فِي الْحَجِّ كَالصَّحِيحِ. وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ حُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ، دُفِعَ حَقُّهُ إلَى وَرَثَتِهِ. وَمَنْ مَاتَ مِنْ أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ، دُفِعَ إلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ قَدْرُ كِفَايَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تُعْطَ ذُرِّيَّتُهُ بَعْدَهُ، لَمْ يُجَرِّدْ نَفْسَهُ لِلْقِتَالِ

    ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ الضَّيَاعَ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُمْ يُكْفَوْنَ بَعْد مَوْتِهِ، سَهُلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو خَالِدٍ الْقَنَانِيُ:

    لَقَدْ زَادَ الْحَيَاةَ إلَيَّ حُبًّا بَنَاتِي ... إنَّهُنَّ مِنْ الضِّعَافِ

    مَخَافَةَ أَنْ يَرَيْنَ الْفَقْرَ بَعْدِي ... وَأَنْ يَشْرَبْنَ رَنْقًا بَعْدَ صَافِ

    وَأَنْ يَعْرَيْنَ إنْ كُسِيَ الْجَوَارِي ... فَتَنْبُوا الْعَيْنُ عَنْ كَرَمٍ عِجَافِ

    وَلَوْلَا ذَاكَ قَدْ سَوَّمْت مُهْرِي ... وَفِي الرَّحْمَنِ لِلضُّعَفَاءِ كَافِ

    وَإِذَا بَلَغَ ذُكُورُ أَوْلَادِهِمْ، وَاخْتَارُوا أَنْ يَكُونُوا فِي الْمُقَاتِلَةِ، فُرِضَ لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَارُوا، تُرِكُوا، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ، سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ الْعَطَاءِ.

    مَسْأَلَةٌ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لِمَنْ شَهِدَ الْوَاقِعَةَ

    (5095) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لِمَنْ شَهِدَ الْوَاقِعَةَ، لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ، وَلِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْفَارِسُ عَلَى هَجِينٍ، فَيَكُونَ لَهُ سَهْمَانِ، سَهْمٌ لَهُ، وَسَهْمٌ لِهَجِينِهِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لِلْغَانِمِينَ، وقَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَهَا إلَيْهِمْ، ثُمَّ أَخَذَ مِنْهَا سَهْمًا لِغَيْرِهِمْ، فَبَقِيَ سَائِرُهَا لَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11]. وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ.

    وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَى أَنَّ لِلرَّاجِلِ سَهْمًا، وَلِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ. وَخَالَفَهُ أَصْحَابُهُ فَوَافَقُوا سَائِرَ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ؛ سَهْمٌ لَهُ، وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ: إنَّهُ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ أَسْهَمَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا». وَالْهَجِينُ مِنْ الْخَيْلِ: هُوَ الَّذِي أَبُوهُ عَرَبِيٌّ وَأُمُّهُ غَيْرُ عَرَبِيَّةٍ. وَالْمُقْرِفُ عَكْسُ ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي أَبُوهُ غَيْرُ عَرَبِيٍّ وَأُمُّهُ عَرَبِيَّةٌ.

    وَمِنْهُ قَوْلُ هِنْدَ بِنْتِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ:

    وَمَا هِنْدُ إلَّا مُهْرَةٌ عَرَبِيَّةٌ ... سَلِيلَةُ أَفْرَاسٍ تَحَلَّلَهَا بَغْلُ

    فَإِنْ وَلَدَتْ مُهْرًا كَرِيمًا فَبِالْحُرِي ... وَإِنْ يَكُ إقْرَافٌ فَمَا أَنْجَبَ الْفَحْلُ

    وَأَرَادَ الْخِرَقِيِّ بِالْهَجِينِ هَا هُنَا مَا عَدَا الْعَرَبِيَّ مِنْ الْخَيْلِ، مِنْ الْبَرَاذِينِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الْبَرَاذِينَ إذَا أَدْرَكَتْ مِثْلَ الْعَرَّابِ، فَلَهَا مِثْلُ سَهْمِهَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي رِوَايَةً أُخْرَى، فِيمَا عَدَا الْعَرَّابَ مِنْ الْخَيْلِ لَا يُسْهَمُ لَهَا. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ، وَأَدِلَّةٌ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ، أَخَّرْنَا ذِكْرَهَا إلَى بَابِ الْجِهَادِ، فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ مَذْكُورَةٌ فِيهِ، وَهُوَ أَلْيَقُ بِهَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

    مَسْأَلَةٌ الصَّدَقَةُ لَا يُجَاوِزُ بِهَا الثَّمَانِيَةَ الْأَصْنَافَ فِي مَصَارِف الزَّكَاة

    (5096) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالصَّدَقَةُ لَا يُجَاوِزُ بِهَا الثَّمَانِيَةَ الْأَصْنَافِ الَّتِي سَمَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ) يَعْنِي قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي مِنْ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ، حَتَّى حَكَمَ فِيهَا، فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُك حَقَّك» .

    وَالْمُرَادُ بِالصَّدَقَةِ هَا هُنَا الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، دُونَ غَيْرِهَا مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَالْوَصَايَا. وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى غَيْرِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، أَنَّهُمَا قَالَا: مَا أَعْطَيْت فِي الْجُسُورِ وَالطُّرُقِ، فَهِيَ صَدَقَةٌ مَاضِيَةٌ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة: 60]. وَ إنَّمَا لِلْحَصْرِ تُثْبِتُ الْمَذْكُورَ، وَتَنْفِي مَا عَدَاهُ؛ لِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ حَرْفَيْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ، فَجَرَى مَجْرَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] .

    أَيْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7]. أَيْ مَا أَنْتَ إلَّا نَذِيرٌ. وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ .

    مَسْأَلَةٌ الْفُقَرَاءُ وَهُمْ الزَّمْنَى وَالْمَكَافِيفُ الَّذِينَ لَا حِرْفَةَ لَهُمْ

    (5097) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (الْفُقَرَاءُ، وَهُمْ الزَّمْنَى، وَالْمَكَافِيفُ الَّذِينَ لَا حِرْفَةَ لَهُمْ، وَالْحِرْفَةُ الصِّنَاعَةُ، وَلَا يَمْلِكُونَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَلَا قِيمَتَهَا مِنْ الذَّهَبِ. وَالْمَسَاكِينُ، وَهُمْ السُّؤَّالُ، وَغَيْرُ السُّؤَّالِ، وَمَنْ لَهُمْ الْحِرْفَةُ، إلَّا أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَلَا قِيمَتَهَا مِنْ الذَّهَبِ) الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ صِنْفَانِ فِي الزَّكَاةِ، وَصِنْفٌ وَاحِدٌ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ؛

    لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الِاسْمَيْنِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمَا، فَأَمَّا إذَا جُمِعَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ، وَمُيِّزَ بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْنِ تَمَيَّزَا، وَكِلَاهُمَا يُشْعِرُ بِالْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ وَعَدَمِ الْغِنَى، إلَّا أَنَّ الْفَقِيرَ أَشَدُّ حَاجَةً مِنْ الْمِسْكِينِ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِهِ، وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَالْأَصْمَعِيُّ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ أَشَدُّ حَاجَةً. وَبِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ، وَثَعْلَبٌ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16]. وَهُوَ الْمَطْرُوحُ عَلَى التُّرَابِ لِشِدَّةِ حَاجَتِهِ، وَأَنْشَدُوا:

    أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ ... وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ

    فَأَخْبَرَ أَنَّ الْفَقِيرَ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ عِيَالِهِ.

    وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِالْفُقَرَاءِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَهَمُّ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79]. فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَسَاكِينَ لَهُمْ سَفِينَةٌ يَعْمَلُونَ بِهَا. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ. وَكَانَ يَسْتَعِيذُ مِنْ الْفَقْرِ» وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى شِدَّةَ الْحَاجَةِ، وَيَسْتَعِيذَ مِنْ حَالَةٍ أَصْلَحَ مِنْهَا. وَلِأَنَّ الْفَقْرَ مُشْتَقٌّ مِنْ فَقْرِ الظَّهْرِ، فَعِيلَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَفْقُودٌ، وَهُوَ الَّذِي نُزِعَتْ فِقْرَةُ ظَهْرِهِ، فَانْقَطَعَ صُلْبُهُ.

    قَالَ الشَّاعِرُ:

    لَمَّا رَأَى لُبَدُ النُّسُورِ تَطَايَرَتْ ... رَفَعَ الْقَوَادِمَ كَالْفَقِيرِ الْأَعْزَلِ

    أَيْ لَمْ يُطِقْ الطَّيَرَانَ، كَاَلَّذِي انْقَطَعَ صُلْبُهُ. وَالْمِسْكِينُ مِفْعِيلٌ مِنْ السُّكُونِ، وَهُوَ الَّذِي أَسْكَنَتْهُ الْحَاجَةُ، وَمَنْ كُسِرَ صُلْبُهُ أَشَدُّ حَالًا مِنْ السَّاكِنِ. فَأَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ حُجَّةٌ لَنَا، فَإِنَّ نَعْتَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمِسْكِينِ بِكَوْنِهِ ذَا مَتْرَبَةٍ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّعْتَ لَا يَسْتَحِقُّهُ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْمَسْكَنَةِ، كَمَا يُقَالُ: ثَوْبٌ ذُو عَلَمِ. وَيَجُوزُ التَّعْبِيرُ بِالْمِسْكِينِ عَنْ الْفَقِيرِ، بِقَرِينَةٍ وَبِغَيْرِ قَرِينَةٍ، وَالشِّعْرُ أَيْضًا حُجَّةٌ لَنَا، فَإِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ الْعِيَالِ، لَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبْدٌ، فَصَارَ فَقِيرًا لَا شَيْءَ لَهُ.

    إذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَالْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى كَسْبِ مَا يَقَعْ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ، وَلَا لَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ أَوْ مِنْ الْمَالِ الدَّائِمِ مَا يَقَعُ مُوقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ، وَلَا لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَلَا قِيمَتُهَا مِنْ الذَّهَبِ، مِثْلُ الزَّمْنَى وَالْمَكَافِيفِ وَهُمْ الْعُمْيَانُ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِكَفِّ أَبْصَارِهِمْ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ فِي الْغَالِبِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى اكْتِسَابِ مَا يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِمْ، وَرُبَّمَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]. وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِمْ

    أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ مُعْظَمُ الْكِفَايَةِ، أَوْ نِصْفُ الْكِفَايَةِ مِثْلُ مَنْ يَكْفِيهِ عَشْرَةٌ فَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ مَكْسَبِهِ أَوْ غَيْرِهِ خَمْسَةٌ فَمَا زَادَ، وَاَلَّذِي لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا مَا لَا يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ، كَاَلَّذِي لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا ثَلَاثَةٌ أَوْ دُونَهَا، فَهَذَا هُوَ الْفَقِيرُ، وَالْأُوَلُ هُوَ الْمِسْكِينُ، فَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يُتِمُّ بِهِ كِفَايَتَهُ، وَتَنْسَدُّ بِهِ حَاجَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُهَا وَإِغْنَاءُ صَاحِبِهَا، وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِذَلِكَ. وَاَلَّذِي يَسْأَلُ، وَيُحَصِّلُ الْكِفَايَةَ أَوْ مُعْظَمَهَا مِنْ مَسْأَلَتِهِ، فَهُوَ مِنْ الْمَسَاكِينِ، لَكِنَّهُ يُعْطَى جَمِيعَ كِفَايَتِهِ، وَيُغْنَى عَنْ السُّؤَالِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ» .

    قُلْنَا، هَذَا تَجَوُّزٌ، وَإِنَّمَا نَفْيُ الْمَسْكَنَةِ عَنْهُ مَعَ وُجُودِهَا فِيهِ حَقِيقَةً، مُبَالَغَةٌ فِي إثْبَاتِهَا فِي الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ، كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، وَإِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَغْلِبُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ». وَقَالَ: «مَا تَعُدُّونَ الرَّقُوبَ فِيكُمْ؟.

    قَالُوا: الَّذِي لَا يَعِيشُ لَهُ وَلَدٌ. قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ الرَّقُوبَ الَّذِي لَمْ يُقَدِّمْ مِنْ وَلَدِهِ شَيْئًا». وَقَالَ: «مَا تَعُدُّونَ الْمُفْلِسَ فِيكُمْ؟. قَالُوا: الَّذِي لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ. قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ الْمُفْلِسَ الَّذِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، وَيَأْتِي وَقَدْ ظَلَمَ هَذَا، وَلَطَمَ هَذَا، وَأَخَذَ مِنْ عِرْضِ هَذَا، فَيَأْخُذُ هَذَا مِنْ حَسَنَاته، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، حَتَّى إذَا نَفِدَتْ حَسَنَاتُهُ، أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَصُكُّ لَهُ صَكٌّ إلَى النَّارِ» .

    فَصْلٌ مِنْ لَا حَقَّ لَهُ فِي الزَّكَاةِ

    (5098) فَصْلٌ: وَمَنْ كَانَ ذَا مَكْسَبٍ يُغْنِي بِهِ نَفْسَهُ وَعِيَالَهُ إنْ كَانَ لَهُ عِيَالٌ، وَكَانَ لَهُ قَدْرُ كِفَايَتِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، مِنْ أَجَّرَ عَقَارٍ، أَوْ غَلَّةِ مَمْلُوكٍ أَوْ سَائِمَةٍ، فَهُوَ غَنِيٌّ لَا حَقَّ لَهُ فِي الزَّكَاةِ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا فَلَهُ الْأَخْذُ مِنْهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ.» فَجَعَلَ الْغَنِيَّ مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الصَّدَقَةُ، وَلَا تُؤْخَذُ إلَّا مِنْ النِّصَابِ.

    وَلِأَنَّ هَذَا لَا يَمْلِكُ نِصَابًا، وَلَا قِيمَتَهُ، فَجَازَ لَهُ الْأَخْذُ، كَاَلَّذِي لَا كِفَايَةَ لَهُ. وَلَنَا، مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ، «أَنَّ رَجُلَيْنِ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقْسِمُ الصَّدَقَةَ، فَسَأَلَاهُ شَيْئًا مِنْهَا، فَصَعَّدَ بَصَرَهُ فِيهِمَا، وَقَالَ لَهُمَا: إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا مِنْهَا، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ. وَقَالَ: هَذَا أَجْوَدُهُمَا إسْنَادًا، مَا أَجْوَدَهُ مِنْ حَدِيثٍ، مَا أَعْلَمُ رُوِيَ فِي هَذَا أَجْوَدُ مِنْ هَذَا. قِيلَ لَهُ: فَالْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» ؟قَالَ: لَا أَعْلَمُ فِيهِ شَيْئًا يَصِحُّ. قِيلَ لَهُ: يَرْوِيهِ سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: سَالِمٌ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

    وَالْغِنَى يَخْتَلِفُ؛ فَمِنْهُ غِنًى يُوجِبُ الزَّكَاةَ، وَغِنًى يَمْنَعُ أَخْذَهَا، وَغِنًى يَمْنَعُ الْمَسْأَلَةَ، وَيُخَالِفُ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ هَذَا، فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا، وَالصَّدَقَةُ أَوْسَاخُ النَّاسِ، فَلَا تُبَاحُ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، وَهَذَا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَيْهَا، فَلَا تُبَاحُ لَهُ.

    فَصْلٌ إنْ كَانَ الرَّجُلُ صَحِيحًا جَلْدًا وَذَكَرَ أَنَّهُ لَا كَسْبَ لَهُ هَلْ يُعْطَى مِنْ الْغَنِيمَة

    (5099) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ صَحِيحًا جَلْدًا، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَا كَسْبَ لَهُ، أُعْطِيَ مِنْهَا، وَقُبِلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، إذَا لَمْ يُعْلَمْ يَقِينُ كَذِبِهِ، وَلَا يُحَلِّفُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَعْطَى الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ سَأَلَاهُ، وَلَمْ يُحَلِّفْهُمَا.» وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ، أَنَّهُ قَالَ: «أَتَيْنَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلْنَاهُ مِنْ الصَّدَقَةِ، فَصَعَّدَ فِينَا الْبَصَرَ وَصَوَّبَهُ، فَرَآنَا جَلْدَيْنِ، فَقَالَ: إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا». وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

    فَصْلٌ إنَّ ادَّعَى أَنَّ لَهُ عِيَالًا فِي مَصَارِف الصَّدَقَة

    (5100) فَصْلٌ: فَإِنْ ادَّعَى أَنَّ لَهُ عِيَالًا، فَقَالَ الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ: يُقَلَّدُ وَيُعْطَى لَهُمْ، كَمَا يُقَلَّدُ فِي دَعْوَى حَاجَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ عِنْدِي لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعِيَالِ، وَلَا تَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَفَارَقَ مَا إذَا ادَّعَى أَنَّهُ لَا كَسْبَ لَهُ، فَإِنَّهُ يَدَّعِي مَا يُوَافِقُ الْأَصْلَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْكَسْبِ وَالْمَالِ، وَتَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ. وَلَوْ ادَّعَى الْفَقْرَ مَنْ عُرِفَ بِالْغِنَى، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِأَنَّ مَالَهُ تَلِفَ أَوْ نَفِدَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِثَلَاثَةٍ؛ رَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ» .

    وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِي الْبَيِّنَةِ عَلَى الْفَقْرِ ثَلَاثَةٌ، أَوْ يُكْتَفَى بِاثْنَيْنِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَكْفِي إلَّا ثَلَاثَةٌ؛ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ. وَالثَّانِي، يُقْبَلُ قَوْلُ اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا يُقْبَلُ فِي الْفَقْرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الشُّحِّ وَالضِّيقِ، فَفِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى، وَالْخَبَرُ إنَّمَا وَرَدَ فِي حِلِّ الْمَسْأَلَةِ، فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ، قُبِلَ قَوْلُهُ، وَلَمْ يَسْتَحْلِفْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَحْلِفْ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ رَآهُمَا جَلْدَيْنِ. فَإِنْ رَآهُ مُتَجَمِّلًا قَبِلَ قَوْلَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْغِنَى، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273]

    لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُخْبِرَهُ أَنْ مَا يُعْطِيهِ مِنْ الزَّكَاةِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ مِمَّنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الزَّكَاةُ. وَإِنْ رَآهُ ظَاهِرَ الْمَسْكَنَةِ، أَعْطَاهُ مِنْهَا، وَلَمْ يَحْتَجْ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ شَرْطَ جَوَازِ الْأَخْذِ، وَلَا أَنَّ مَا يَدْفَعُهُ إلَيْهِ زَكَاةٌ. قَالَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَدْفَعُ زَكَاتَهُ إلَى رَجُلٍ: هَلْ يَقُولُ لَهُ: هَذِهِ زَكَاةٌ؟ فَقَالَ: يُعْطِيهِ وَيَسْكُتُ، وَلَا يُقْرِعُهُ. فَاكْتَفَى بِظَاهِرِ حَالِهِ عَنْ سُؤَالِهِ وَتَعْرِيفِهِ.

    فَصْلٌ إنْ كَانَ لِلرَّجُلِ بِضَاعَةٌ يَتَّجِرُ بِهَا أَوْ ضَيْعَةٌ يَسْتَغِلُّهَا تَكْفِيه غَلَّتُهَا فَلَا يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ

    (5101) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ بِضَاعَةٌ يَتَّجِرُ بِهَا، أَوْ ضَيْعَةٌ يَسْتَغِلُّهَا تَكْفِيهِ غَلَّتُهَا، لَهُ وَلِعِيَالِهِ، فَهُوَ غَنِيٌّ، لَا يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ شَيْئًا، وَإِنْ لَمْ تَكْفِهِ، جَازَ لَهُ الْأَخْذُ مِنْهَا قَدْرَ مَا يُتِمُّ بِهِ الْكِفَايَةَ، وَإِنْ كَثُرَتْ قِيمَةُ ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ.

    مَسْأَلَةٌ الْعَامِلُونَ عَلَيَّ الزَّكَاة وَهُمْ الْجُبَاةُ لَهَا وَالْحَافِظُونَ لَهَا

    مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْعَامِلِينَ عَلَى الزَّكَاةِ، وَهُمْ الْجُبَاةُ لَهَا، وَالْحَافِظُونَ لَهَا) يَعْنِي الْعَامِلِينَ عَلَى الزَّكَاةِ، وَهُمْ الصِّنْفُ الثَّالِثُ مِنْ أَصْنَافِ الزَّكَاةِ، وَهُمْ السُّعَاةُ الَّذِينَ يَبْعَثُهُمْ الْإِمَامُ لِأَخْذِهَا مِنْ أَرْبَابِهَا، وَجَمْعِهَا وَحِفْظِهَا وَنَقْلِهَا، وَمَنْ يُعِينُهُمْ مِمَّنْ يَسُوقُهَا وَيَرْعَاهَا وَيَحْمِلُهَا، وَكَذَلِكَ الْحَاسِبُ وَالْكَاتِبُ وَالْكَيَّالُ وَالْوَزَّانُ وَالْعَدَّادُ، وَكُلُّ مَنْ يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِيهَا فَإِنَّهُ يُعْطَى أُجْرَتَهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُؤْنَتِهَا، فَهُوَ كَعَلْفِهَا، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْعَثُ عَلَى الصَّدَقَةِ سُعَاةً، وَيُعْطِيهِمْ عِمَالَتَهُمْ، «فَبَعَثَ عُمَرَ، وَمُعَاذًا، وَأَبَا مُوسَى، وَرَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، وَابْنَ اللُّتْبِيَّةِ، وَغَيْرَهُمْ. وَطَلَبَ مِنْهُ ابْنَا عَمِّهِ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، أَنْ يَبْعَثَهُمَا، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ بَعَثْتنَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَةِ، فَنُصِيبَ مَا يُصِيبُ النَّاسُ، وَنُؤَدِّيَ إلَيْك مَا يُؤَدِّي النَّاسُ؟ فَأَبَى أَنْ يَبْعَثَهُمَا، وَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ أَوْسَاخُ النَّاسِ». وَهَذِهِ قِصَصٌ اشْتَهَرَتْ، فَصَارَتْ كَالْمُتَوَاتِرِ، وَلَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ، مَعَ مَا وَرَدَ مِنْ نَصِّ الْكِتَابِ فِيهِ فَأَغْنَى عَنْ التَّطْوِيلِ.

    فَصْلٌ مِنْ شَرْطِ عَامِلِ الزَّكَاة أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا أَمِينًا فِي جَمَعَ الزَّكَاة

    (5103) فَصْلٌ: وَمِنْ شَرْطِ الْعَامِلِ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا أَمِينًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ الْوِلَايَةِ، وَالْوِلَايَةُ تُشْتَرَطُ فِيهَا هَذِهِ الْخِصَالُ، وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَا قَبْضَ لَهُمَا، وَالْخَائِنَ يَذْهَبُ بِمَالِ الزَّكَاةِ وَيُضَيِّعُهُ عَلَى أَرْبَابِهِ. وَيُشْتَرَطُ إسْلَامُهُ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَاضِي. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ إسْلَامُهُ؛ لِأَنَّهُ إجَارَةٌ عَلَى عَمَلٍ، فَجَازَ أَنْ يَتَوَلَّاهُ الْكَافِرُ، كَجِبَايَةِ الْخَرَاجِ. وَقِيلَ عَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ. وَلَنَا، أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لَهُ الْأَمَانَةُ، فَاشْتُرِطَ لَهُ الْإِسْلَامُ، كَالشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّهُ وِلَايَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَوَلَّاهَا الْكَافِرُ، كَسَائِرِ الْوِلَايَاتِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ.

    لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى الْعِمَالَةَ كَالْحَرْبِيِّ، وَلِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ بِأَمِينٍ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ: لَا تَأْتَمِنُوهُمْ وَقَدْ خَوَّنَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ أَنْكَرَ عُمَرُ عَلَى أَبِي مُوسَى تَوْلِيَتَهُ الْكِتَابَةَ نَصْرَانِيًّا. فَالزَّكَاةُ الَّتِي هِيَ رُكْنُ الْإِسْلَامِ أَوْلَى. وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْقُرْبَى، إلَّا أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ أُجْرَتَهُ مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ لَهُ الْأَخْذُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا أُجْرَةٌ عَلَى عَمَلٍ تَجُوزُ لِلْغَنِيِّ، فَجَازَتْ لِذَوِي الْقُرْبَى، كَأُجْرَةِ النَّقَّالِ وَالْحَافِظِ. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.

    وَلَنَا، حَدِيثُ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ وَعَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، حِينَ سَأَلَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَبْعَثَهُمَا عَلَى الصَّدَقَةِ، فَأَبَى أَنْ يَبْعَثَهُمَا.

    وَقَالَ: «إنَّمَا هَذِهِ الصَّدَقَةُ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ». وَحَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ أَيْضًا. وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي تَحْرِيمِ أَخْذِهِمْ الْعِمَالَةَ، فَلَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ. وَيُفَارِقُ النَّقَّالَ وَالْحَمَّالَ وَالرَّاعِيَ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ أُجْرَةً لِحَمْلِهِ لَا لِعِمَالَتِهِ. وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ حُرًّا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَحْصُلُ مِنْهُ الْمَقْصُودُ كَالْحُرِّ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا كَالْحُرِّ. وَلَا كَوْنُهُ فَقِيهًا إذَا كُتِبَ لَهُ مَا يَأْخُذُهُ، وَحُدَّ لَهُ، كَمَا كَتَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَّالِهِ فَرَائِضَ الصَّدَقَةِ، وَكَمَا كَتَبَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَّالِهِ، أَوْ بَعَثَ مَعَهُ مَنْ يُعَرِّفُهُ ذَلِكَ. وَلَا كَوْنُهُ فَقِيرًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْعَامِلَ صِنْفًا غَيْرَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَلَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ مَعْنَاهُمَا فِيهِ، كَمَا لَا يُشْتَرَطُ مَعْنَاهُ فِيهِمَا.

    وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، إلَّا لَخَمْسَةٍ؛ لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أَوْ لِرَجُلٍ ابْتَاعَهَا بِمَالِهِ، أَوْ لِرَجُلٍ كَانَ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتَصَدَّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ، فَأَهْدَى الْمِسْكِينُ إلَى الْغَنِيِّ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ تُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ؛ لِأَنَّ الْعِمَالَةَ وِلَايَةٌ، فَنَافَاهَا الرِّقُّ، كَالْقَضَاءِ. وَيُشْتَرَطُ الْفِقْهُ؛ لِيَعْلَم قَدْرَ الْوَاجِبِ وَصِفَتَهُ. وَلَنَا، مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَا نُسَلِّمُ مُنَافَاةَ الرِّقِّ لِلْوِلَايَاتِ الدِّينِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إمَامًا فِي الصَّلَاةِ، وَمُفْتِيًا، وَرَاوِيًا لِلْحَدِيثِ، وَشَاهِدًا، وَهَذِهِ مِنْ الْوِلَايَاتِ الدِّينِيَّةِ.

    وَأَمَّا الْفِقْهُ، فَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَعْرِفَةِ مَا يَأْخُذُهُ وَيَتْرُكُهُ، وَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ لَهُ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَاحِبَاهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.

    فَصْلٌ الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي أَجْر عَامِلِ الزَّكَاة

    (5104) فَصْلٌ: وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْعَامِلَ إجَارَةً صَحِيحَةً، بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ، إمَّا عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، وَإِمَّا عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ، وَبَيْنَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ جَعْلًا مَعْلُومًا عَلَى عَمَلِهِ، فَإِذَا عَمِلَهُ اسْتَحَقَّ الْمَشْرُوطَ، وَإِنْ شَاءَ بَعَثَهُ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ ثُمَّ أَعْطَاهُ؛ فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «بَعَثَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا رَجَعْت عَمَّلَنِي، فَقُلْت: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَحْوَجُ مِنِّي.» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. فَإِنْ تَلْفِت الصَّدَقَةُ فِي يَدِهِ قَبْلَ وُصُولِهَا إلَى أَرْبَابِهَا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَيَسْتَحِقُّ أَجْرَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ تَتْلَفْ أُعْطِيَ أَجْرَ عَمَلِهِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا أَوْ أَقَلَّ.

    ثُمَّ قُسِّمَ الْبَاقِي عَلَى أَرْبَابِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُؤْنَتِهَا، فَجَرَى مَجْرَى عَلْفِهَا وَمُدَاوَاتِهَا. وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَعْطَاهُ أُجْرَةً مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ يَجْعَلُ لَهُ رِزْقًا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَلَا يُعْطِيهِ مِنْهَا شَيْئًا، فَعَلَ. وَإِنْ تَوَلَّى الْإِمَامُ أَوْ الْوَالِي مِنْ قِبَلِهِ، أَخْذَ الصَّدَقَةِ وَقِسْمَتَهَا، لَمْ يَسْتَحِقَّ مِنْهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ رِزْقَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.

    فَصْلٌ لِلْإِمَامِ أَنْ يُوَلِّيَ السَّاعِيَ جِبَايَة الصَّدَقَة دُونَ تَفْرِقَتِهَا

    (5105) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُوَلِّيَ السَّاعِيَ جِبَايَتَهَا دُونَ تَفْرِقَتِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَهُ جِبَايَتَهَا وَتَفْرِيقَهَا؛ «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَّى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ فَقَدِمَ بِصَدَقَتِهِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ. وَقَالَ لَقَبِيصَةَ: أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لَك بِهَا. وَأَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَأْخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَيَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ.» وَيُرْوَى أَنَّ زِيَادًا وَلَّى عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ الصَّدَقَةَ، فَلَمَّا جَاءَ قِيلَ لَهُ: أَيْنَ الْمَالُ؟ قَالَ: أَوَ لِلْمَالِ بَعَثْتنِي، أَخَذْنَاهَا كَمَا كُنَّا نَأْخُذُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَضَعْنَاهَا حَيْثُ كُنَّا نَضَعُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

    وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: أَتَانَا مُصَدِّقُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا، فَوَضَعَهَا فِي فُقَرَائِنَا، وَكُنْت غُلَامًا يَتِيمًا، فَأَعْطَانِي مِنْهَا قَلُوصًا. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ.

    مَسْأَلَةٌ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ وَهُمْ الْمُشْرِكُونَ الْمُتَأَلَّفُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ

    (5106) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ، وَهُمْ الْمُشْرِكُونَ الْمُتَأَلَّفُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ) هَذَا الصِّنْفُ الرَّابِعُ مِنْ أَصْنَافِ الزَّكَاةِ الْمُسْتَحِقُّونَ لَهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: انْقَطَعَ سَهْمُهُمْ. وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ مُشْرِكًا جَاءَ يَلْتَمِسُ مِنْ عُمَرَ مَالًا، فَلَمْ يُعْطِهِ، وَقَالَ: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]. وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ عُمَرَ وَلَا عُثْمَانَ وَلَا عَلِيٍّ أَنَّهُمْ أَعْطَوْا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وَقَمَعَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى التَّأْلِيفِ. وَحَكَى حَنْبَلٌ، عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: الْمُؤَلَّفَةُ قَدْ انْقَطَعَ حُكْمُهُمْ الْيَوْمَ.

    وَالْمَذْهَبُ عَلَى خِلَافِ مَا حَكَاهُ حَنْبَلٌ، وَلَعَلَّ مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ: انْقَطَعَ حُكْمُهُمْ. أَيْ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِمْ فِي الْغَالِبِ، أَوْ أَرَادَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ لَا يُعْطُونَهُمْ الْيَوْمَ شَيْئًا، فَأَمَّا إنْ احْتَاجَ إلَيْهِمْ جَازَ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ، فَلَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ إلَّا مَعَ الْحَاجَةِ. وَلَنَا، عَلَى جَوَازِ الدَّفْعِ إلَيْهِمْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60]. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ، وَهِيَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُسْلِمِينَ. وَأَعْطَى أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ، وَقَدْ قَدِمَ عَلَيْهِ بِثَلَاثِمِائَةٍ جَمَلٍ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ، ثَلَاثِينَ بَعِيرًا.

    وَمُخَالَفَةُ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَاطِّرَاحُهَا بِلَا حُجَّةٍ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَثْبُتُ النَّسْخُ بِتَرْكِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ إعْطَاءَ الْمُؤَلَّفَةِ، وَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَحْتَاجُوا إلَى إعْطَائِهِمْ، فَتَرَكُوا ذَلِكَ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، لَا لِسُقُوطِهِ.

    فَصْلٌ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ ضَرْبَانِ

    (5107) فَصْلٌ: وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ ضَرْبَانِ؛ كُفَّارٌ وَمُسْلِمُونَ، وَهُمْ جَمِيعًا السَّادَةُ الْمُطَاعُونَ فِي قَوْمِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ. فَالْكُفَّارُ ضَرْبَانِ؛ أَحَدُهُمَا، مَنْ يُرْجَى إسْلَامُهُ، فَيُعْطَى لِتَقْوَى نِيَّتُهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَتَمِيلَ نَفْسُهُ إلَيْهِ، فَيُسْلِمَ؛ «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، أَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ الْأَمَانَ، وَاسْتَنْظَرَهُ صَفْوَانُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لِيَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ، وَخَرَجَ مَعَهُ إلَى حُنَيْنٍ، فَلَمَّا أَعْطَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَطَايَا قَالَ صَفْوَانُ: مَا لِي؟ فَأَوْمَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى وَادٍ فِيهِ إبِلٌ مُحَمَّلَةٌ، فَقَالَ: هَذَا لَك. فَقَالَ صَفْوَانُ: هَذَا عَطَاءُ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ» .

    وَالضَّرْبُ الثَّانِي، مَنْ يُخْشَى شَرُّهُ، وَيُرْجَى بِعَطِيَّتِهِ كَفُّ شَرِّهِ وَكَفُّ غَيْرِهِ مَعَهُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْمًا كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ أَعْطَاهُمْ مَدَحُوا الْإِسْلَامَ، وَقَالُوا: هَذَا دِينٌ حَسَنٌ. وَإِنْ مَنَعَهُمْ ذَمُّوا وَعَابُوا. وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَأَرْبَعَةُ أَضْرُبٍ؛ قَوْمٌ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ نُظَرَاءُ مِنْ الْكُفَّارِ، وَمِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَهُمْ نِيَّةٌ حَسَنَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِذَا أُعْطُوا رُجِيَ إسْلَامُ نُظَرَائِهِمْ وَحُسْنُ نِيَّاتِهِمْ، فَيَجُوزُ إعْطَاؤُهُمْ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَعْطَى عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ، وَالزِّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ، مَعَ حُسْنِ نِيَّاتِهِمَا وَإِسْلَامِهِمَا.

    الضَّرْبُ الثَّانِي، سَادَاتٌ مُطَاعُونَ فِي قَوْمِهِمْ يُرْجَى بِعَطِيَّتِهِمْ قُوَّةُ إيمَانِهِمْ، وَمُنَاصَحَتُهُمْ فِي الْجِهَادِ، فَإِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، وَعَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاثَةَ، وَالطُّلَقَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَقَالَ لِلْأَنْصَارِ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ عَلَامَ تَأْسَوْنَ؟ عَلَى لُعَاعَةٍ مِنْ الدُّنْيَا تَأَلَّفْت بِهَا قَوْمًا لَا إيمَانَ لَهُمْ، وَوَكَلْتُكُمْ إلَى إيمَانِكُمْ؟». وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى أُنَاسًا وَتَرَكَ أُنَاسًا، فَبَلَغَهُ عَنْ الَّذِينَ تَرَكَ أَنَّهُمْ عَتَبُوا، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إنِّي أُعْطِي أُنَاسًا وَأَدَعُ أُنَاسًا، وَاَلَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الَّذِي أُعْطِي، أُعْطِي أُنَاسًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ، وَأَكِلُ أُنَاسًا إلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْغِنَى وَالْخَيْرِ؛ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ» .

    وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: حِينَ «أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ أَمْوَالَ هَوَازِنَ، طَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِي رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، فَقَالَ نَاسٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَمْنَعُنَا، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنِّي أُعْطِي رِجَالًا حُدَثَاءَ عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ، قَوْمٌ فِي طَرَفِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، إذَا أُعْطُوا دَفَعُوا عَمَّنْ يَلِيهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. الضَّرْبُ الرَّابِعُ: قَوْمٌ إذَا أُعْطُوا أَجَبُّوا الزَّكَاةَ مِمَّنْ لَا يُعْطِيهَا إلَّا أَنْ يَخَافَ. وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ مِنْ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، فَيَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ الْآيَةِ.

    مَسْأَلَةٌ ثُبُوتِ سَهْمِ الرِّقَابِ

    (5108) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَفِي الرِّقَابِ، وَهُمْ الْمُكَاتَبُونَ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي ثُبُوتِ سَهْمِ الرِّقَابِ، وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّ الْمُكَاتَبِينَ مِنْ الرِّقَابِ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ.

    وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَخَالَفَهُمْ مَالِكٌ، فَقَالَ: إنَّمَا يُصْرَفُ سَهْمُ الرِّقَابِ فِي إعْتَاقِ الْعَبِيدِ، وَلَا يُعْجِبُنِي أَنْ

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1