Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

شرح صحيح البخاري
شرح صحيح البخاري
شرح صحيح البخاري
Ebook779 pages5 hours

شرح صحيح البخاري

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

هذا كتاب شَرحَ فيه مصنفُه كتاب: «الجامع الصحيح» للإمام البخاري، فبيَّن المفردات والألفاظ غير الواضحة، ووجَّه الروايات نحويًّا وصرفيًّا، كما تعرض لبيان خواص التراكيب بحسب علوم البلاغة، وذكر ما يستفاد وما يتعلق بالحديث من المسائل الفقهية، وبخاصة المذهب المالكي، وذكر ما يتعلق بأصول الفقه من الخاص والعام، والمجمل والمبين، وأنواع الأقيسة، وذكر ما يتعلق بالآداب والدقائق، وما يتعلق بعلوم الحديث واصطلاحات المحدثين، وبيَّن الملتبس والمشتبه، والمختلف والمؤتلف من الأسماء والأنساب وغيرها.
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateMar 24, 1901
ISBN9786329116479
شرح صحيح البخاري

Related to شرح صحيح البخاري

Related ebooks

Related categories

Reviews for شرح صحيح البخاري

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    شرح صحيح البخاري - ابن بطال

    الغلاف

    شرح صحيح البخاري

    الجزء 3

    ابن بطال

    449

    هذا كتاب شَرحَ فيه مصنفُه كتاب: «الجامع الصحيح» للإمام البخاري، فبيَّن المفردات والألفاظ غير الواضحة، ووجَّه الروايات نحويًّا وصرفيًّا، كما تعرض لبيان خواص التراكيب بحسب علوم البلاغة، وذكر ما يستفاد وما يتعلق بالحديث من المسائل الفقهية، وبخاصة المذهب المالكي، وذكر ما يتعلق بأصول الفقه من الخاص والعام، والمجمل والمبين، وأنواع الأقيسة، وذكر ما يتعلق بالآداب والدقائق، وما يتعلق بعلوم الحديث واصطلاحات المحدثين، وبيَّن الملتبس والمشتبه، والمختلف والمؤتلف من الأسماء والأنساب وغيرها.

    باب أَمْرِ الرَّسُولِ الَّذِي لا يُتِمُّ رُكُوعَهُ بِالإعَادَةِ

    / 153 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ، فَرَدَّ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَيْهِ السَّلامَ، فَقَالَ: (ارْجِعْ، فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ، فَقَالَ: ارْجِعْ، فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، ثَلاثًا، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ فَمَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، قَالَ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا). قال المؤلف: استدل بهذا الحديث جماعة من الفقهاء، فقالوا: الطمأنينة فى الركوع والسجود فرض، لا تجزئ صلاة من لم يرفع رأسه، ويعتدل فى ركوعه وسجوده ثم يقيم صلبه، وقالوا: ألا ترى أن الرسول قال له: (ارجع فصل فإنك لم تصل)، ثم علمه الصلاة وأمره بالطمأنينة فى الركوع والسجود، هذا قول الثورى، وأبى يوسف، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وابن وهب صاحب مالك قال: من لم يعتدل قائمًا من ركوعه حتى يسجد فلا يعتد بتلك الركعة. وفيها قول آخر، روى ابن القاسم عن مالك فى (العتبية) قال: من رفع رأسه من الركوع فلم يعتدل قائمًا حتى يسجد يجزئه ولا يعود، وقاله ابن القاسم فى كتاب سحنون، وروى ابن وهب عن مالك مثل ذلك فى (العتبية).

    وروى عيسى عن ابن القاسم فيمن رفع رأسه من السجود، فلم يعتدل جالسًا حتى سجد: يستغفر الله ولا يعود. وذكر ابن المواز عن ابن القاسم مثله، وهو قول أبى حنيفة، ومحمد. وكذلك اختلفوا فيمن خرَّ من ركوعه ساجدًا، ولم يرفع رأسه، فروى عيسى عن ابن القاسم أنه لا يعتد بتلك الركعة، واستحب مالك أن يتمادى ويعيد الصلاة، وفى (المجموعة) روى على بن زياد، عن مالك أن من فعل ذلك ساهيًا، فليسجد قبل السلام وتجزئه تلك الركعة، وفى (الواضحة) عن ابن كنانة: تجزئه تلك الركعة، واحتج أبو عبد الله بن أبى صفرة لهذا القول أن النبى، عليه السلام، أمر هذا الرجل حين لم يكمل الركوع والسجود بالإعادة، ولم يأمر الذين نقصوا الركوع والسجود بالإعادة حين قال لهم: (إنى أراكم من وراء ظهرى)، فدل ذلك من فعله أن الطمأنينة لو كانت فريضة، لما ترك الذين قال لهم: لا يخفى علىّ خشوعكم حتى يبين لهم ذلك؛ لأنه بُعث معلمًا. قال المهلب: والدليل على صحة هذا القول أنه لما أمر الذى لم يحسن صلاته بالإعادة مرة بعد أخرى، ولم يحسن قال له: والله ما أحسن غير هذا فعلِّمنى، فوصف له عليه السلام هيئة الصلاة، ولم يأمره أن يعيد الصلاة التى نقصها مرة أخرى على الصفة التى علمه، ولم يقل له: لا يجزئك حتى تصلى هذه الصلاة على هذه الصفة، وإنما علمه كيف يصلى فيما يستقبل.

    واحتج الرازى لأبى حنيفة بحديث رفاعة بن رافع فى تعليم الأعرابى أن النبى، عليه السلام، قال له: (ثم ارفع فاعتدل قائمًا.. .)، وذكر الحديث قال: إذا صليت على هذا فقد أتممتها، وما أنقصت من ذلك فإنما تنقص من صلاتك، فجعلها ناقصة يدل على الجواز.

    2 -

    باب الدُّعَاءِ فِي الرُّكُوعِ

    / 154 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ عليه السلام، يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي). وترجم له: (باب التسبيح والدعاء فى السجود)، وزاد فيه بعد قوله: (اللهم اغفر لى)، (يتأول القرآن به). قال الطحاوى: اختلف العلماء فيما يدعو به الرجل فى ركوعه وسجوده، فقالت طائفة: لا بأس أن يدعو الرجل بما أحب، وليس عندهم فى ذلك شىء موقَّت، قالوا: وقد رويت آثار كثيرة عن الرسول أنه كان يدعو بها. منها: حديث موسى بن عقبة، عن عبد الله بن الفضل، عن الأعرج، عن عبيد الله بن أبى رافع، عن على بن أبى طالب قال: كان رسول الله يقول فى ركوعه: (اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، وأنت ربى، خشع سمعى وبصرى، ومخى وعظمى، وعصبى لله رب العالمين)، ويقول فى سجوده: (اللهم لك سجدت، ولك أسلمت، وأنت ربى، سجد وجهى للذى خلقه وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين). ومنها: حديث يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة قالت: فقدت النبى، عليه السلام، ذات ليلة، فظننت أنه أتى جاريته، فالتمسته فوقعت يدى على صدور قدميه وهو ساجد، وهو يقول: (اللهم إنى أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك). إلا أن مالكًا كره الدعاء فى الركوع، ولم يكره فى السجود، واقتصر فى الركوع على تعظيم الله تعالى، والثناء عليه، أظنه ذهب إلى حديث على عن النبى، عليه السلام، قال: (أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا فيه فى الدعاء)، فجعل فى هذا الحديث الركوع لتعظيم الله، تعالى، وإن كانت قراءة القرآن أفضل من ذكر التعظيم، فلذلك ينبغى أن يكون فى كل موضع ما جعل فيه، وإن كان غيره أشرف منه. ويؤيد هذا المعنى ما روى الأعمش عن النخعى قال: كان يقال إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء استوجب، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء. وروى ابن عيينة عن منصور بن المعتمر، عن مالك بن الحويرث، قال: (يقول الله: إذا شغل عبدى ثناؤه علىّ عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين)، فلهذه الآثار كره مالك الدعاء فى الركوع، واستحبه فى السجود، والله أعلم. وقال أهل المقالة الأولى: تعظيم الرب والثناء عليه عند العرب دعاء، قاله ابن شهاب وهو حجة فى اللغة، وقد ثبت فى حديث عائشة المذكور فى هذا الباب الدعاء فى الركوع والسجود فلا معنى لمخالفة ذلك. وقالت طائفة: ينبغى له أن يقول فى ركوعه: سبحانك ربى العظيم ثلاثًا، وفى سجوده: سبحان ربى الأعلى ثلاثًا، واحتجوا بما رواه موسى بن أيوب عن عمه إياس بن عامر، عن عقبة بن عامر الجهنى، قال: لما نزلت: (فسبح باسم ربك العظيم) [الواقعة: 74]، قال عليه السلام: (اجعلوها فى ركوعكم)، ولما نزلت: (سبح اسم ربك الأعلى) [الواقعة: 96]، قال: (اجعلوها فى سجودكم). وروى مرة إياس بن عامر، عن على بن أبى طالب، وذكر مثله، هذا قول الكوفيين، والأوزاعى، والشافعى، وأبى ثور، إلا أنهم لم يوجبوا ذلك، وقالوا: من ترك التسبيح فى الركوع والسجود فصلاته تامة، وقال إسحاق، وأهل الظاهر: إن ترك ذلك عليه الإعادة، وقال: حديث عقبة ورد مورد البيان فوجب امتثاله. فيل لهم: البيان إنما ورد فى المجمل، والركوع والسجود مفسر فلا يفتقر إلى بيان، فحمل حديث عقبة على الاستحباب بدليل تعليمه الأعرابى الصلاة وليس التسبيح منها، فلو وجب فى الركوع والسجود ذكر معين لا تجزئ الصلاة دونه لبيَّن ذلك النبى لأمته؛ لأنه قد بيَّن لهم فروض الصلاة وسننها، ولأخبرهم أن ما كان روى عنه من ضروب الدعاء والذكر فى الركوع منسوخ بحديث عقبة، فلما لم يثبت ذلك سقط قول أهل الظاهر وقول من شرط فى ذلك ذكرًا معينًا أيضًا. قال ابن القصار: لو قال: سبحان ربى الجليل، أو الكبير، أو القدير لكان معظمًا له، وإذا ثبت أن نفس التسبيح ليس بواجب، فتعيينه والعدول عنه إلى ما فى معناه جائز. وقوله: يتأول القرآن، يعنى: يتأول قوله تعالى: (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابًا) [النصر: 3]، حين أعلمه الله بانقضاء أجله. وقال الخطابى: أخبرنى الحسن بن خلاد قال: سألت الزجاج عن قوله: سبحانك اللهم وبحمدك، والعلة فى ظهور الواو؟ قال: سألت عنه المبرد فقال: سألت عنه المازنى، فقال: المعنى: سبحانك اللهم بجميع آلائك، وبحمدك سبحتك، وقال: ومعنى سبحانك: سبحتك، وسبحان الله معناه: سبحت الله ونزهته عن كل عيب، ونصبه على المصدر.

    3 -

    باب القراءة فى الركوع والسجود وما يقول الإمام ومن خلفه إذا رفع رأسه من الركوع

    / 155 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ إِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَكَانَ إِذَا رَكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ يُكَبِّرُ، وَإِذَا قَامَ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ، قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ). ترجم له البخارى: (باب القراءة فى الركوع والسجود)، ولم يُدخل فيه حديثًا بجواز ذلك ولا بمنعه. وقد روى عن النبى، عليه السلام، أنه نهى عن قراءة القرآن فى الركوع والسجود، ذكره الطبرى قال: أخبرنا عبد الله بن أبى زياد، قال: حدثنا عثمان بن عمر، قال: حدثنا داود بن قيس، عن إبراهيم بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس، عن على قال: (نهانى حبيبى (صلى الله عليه وسلم) أن أقرأ راكعًا وساجدًا).

    واتفق فقهاء الأمصار على القول بهذا الحديث، وخالفه قوم من السلف وأجازوه، روى أبو إسحاق، عن عمرو بن ميمون قال: سمعت أخى سليمان بن ربيعة وهو ساجد، وهو يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ما لو شاء رجل يذهب إلى أهله فيتوضأ، ثم يجىء، وهو ساجد لفعل، وقال عطاء: رأيت عبيد بن عمير يقرأ وهو راكع فى المكتوبة، وأجازه الربيع بن خثيم، وقال إبراهيم النخعى فى الرجل ينسى الآية فيذكرها وهو راكع، قال: يقرؤها وهو راكع. قال الطبرى: وهؤلاء لم يبلغهم الحديث بالنهى عن ذلك عن الرسول، أو بلغهم فلم يَرَوْهُ صحيحًا، ورأوا قراءة القرآن حسنة فى كل حال، قال الطبرى: والخبر عندنا بذلك صحيح، فلا ينبغى لمصل أن يقرأ فى ركوعه وسجوده من أجله، وعلى هذا جماعة أئمة الأمصار. واختلف العلماء فيما يقول الإمام ومن خلفه إذا رفع رأسه من الركوع، فذهبت طائفة إلى الأخذ بحديث سعيد المقبرى، عن أبى هريرة، وقال: ينبغى للإمام أن يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، يجمعهما جميعًا، ثم يقول المأموم: ربنا ولك الحمد خاصة، هذا قول أبى يوسف، ومحمد بن الحسن، والشافعى، وابن نافع صاحب مالك، إلا أن الشافعى خالفهم فى المأموم، فقال: يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، كالإمام سواء. وقالت طائفة: يقول الإمام: سمع الله لمن حمده دون المأموم، ويقول المأموم: ربنا ولك الحمد، هذا قول مالك والليث وأبى حنيفة، واحتجوا لهذا القول بحديث مالك عن سُمى، عن أبى صالح، عن أبى هريرة: (أن نبى الله قال: إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد). قال ابن القصار: فأفرد الإمام بغير ما أفرد به المأمومين، ولو كان الإمام يجمع الأمرين لقال عليه السلام: إذا قال الإمام: ربنا ولك الحمد، فقولوا: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، حتى يكون ابتداء قولهم بعد انتهاء قوله، كما قال: وإذا كبر فكبروا، ولم يكن للفرق بينهما معنى، وحديث أبى صالح قاضٍ على حديث المقبرى ومبيِّن له، ويحتمل أن يكون عليه السلام، يقول: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد إذا كان منفردًا فى صلاته، وإنما سقط سمع الله لمن حمده للمأموم لاختلاف حاله وحال الإمام فى الصلاة، وأن الإمام مجيب للدعاء، كما قسم عليه السلام الذكر بين العاطس والمشمت، فكذلك قسم هذا الذكر بين الإمام والمأموم، وقول الإمام: سمع الله لمن حمده استجابة لدعاء داع، وقول المأموم: ربنا ولك الحمد على وجه المقابلة؛ لأنه لا حامد له غير المؤتم به فى هذه الحال، فلا يشرك أحدهما صاحبه. وقال أهل المقالة الأولى: ليس فى قوله عليه السلام: (وإذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد)، دليل على أن ذلك يقوله الإمام دون غيره، ولو كان كذلك لاستحال أن يقولها من ليس بمأموم، فقد رأيناكم تُجمعون على أن المصلى وحده يقولها مع قوله: سمع الله لمن حمده، فلما قالها المنفرد ولم ينتف ما ذكرنا من قوله عليه السلام، كان الإمام كذلك يقولها أيضًا، ولا ينفى ما قال رسول الله، واحتجوا أيضًا بما رواه ابن وهب، عن يونس، عن الزهرى، عن سعيد وأبى سلمة، عن أبى هريرة قال: (كان رسول الله يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة يكبر ويرفع رأسه يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، اللهم أنج الوليد بن الوليد.. .) الحديث. وبه قال ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قالت: (خسفت الشمس فى حياة رسول الله فصلى بالناس، فلما رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد). قال الطحاوى: هذا من طريق الآثار، وأما من طريق النظر، فإنا قد رأيناهم أجمعوا أن المنفرد يقول ذلك، فأردنا أن ننظر فى الإمام هل حكمه حكم من يصلى وحده أم لا، فوجدنا الإمام يفعل فى صلاته كلها من التكبير والقراءة مثل ما يفعله المنفرد، ووجدنا أحكامه فيما يطرأ عليه كأحكامه، وكان المأموم فى ذلك بخلاف الإمام والمنفرد، وثبت باتفاقهم أن المصلى وحده يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ثبت أن الإمام يقولها أيضًا كذلك.

    4 -

    باب فَضْلِ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ

    / 156 - فيه: أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ: (إِذَا قَالَ الإمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا ولَكَ الْحَمْدُ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ). / 157 - وقال أبو هُرَيْرَةَ: لأقَرِّبَنَّ صَلاةَ رسول الله، فَكَانَ يَقْنُتُ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنْ صَلاةِ الظُّهْرِ، وَصَلاةِ الْعِشَاءِ، وَصَلاةِ الصُّبْحِ، بَعْدَ مَا يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ. / 158 - وفيه: رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: (كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ الرسول، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ، قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: مَنِ الْمُتَكَلِّمُ؟ قَالَ: أَنَا، قَالَ: رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ). وقد تقدم كلام العلماء فى حديث أبى هريرة فى الباب قبله، فأغنى عن إعادته. وفيه: أن القنوت كان فى صلاة الظهر وصلاة العشاء وصلاة الصبح، ثم ترك فى الظهر والعشاء. وفى حديث رفاعة: ثواب التحميد لله، تعالى، والذكر له وما عند الله أكثر وأوسع، قال الله تعالى: (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين) [السجدة: 17]. وفيه: دليل على جواز رفع المذكر صوته بالتكبير والتحميد فى المساجد الكثيرة الجمع ليسمع الناس، وليس ذلك بكلام تفسد به الصلاة، وكيف يفسدها، رفع الصوت أم لم يرفع، وهو مندوب إليه فيها، وكما لا يجوز لأحد أن يتكلم فى الصلاة بكلام الناس، وإن لم يرفع صوته، فكذلك لا يضره رفع الصوت بالذكر؛ يدل على ذلك حديث معاوية بن الحكم عن الرسول أنه قال: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شىء من كلام الناس، وإنما هو التهليل والتكبير، وقراءة القرآن)، فأطلق أنواع الذكر فى الصلاة، فلهذا قلنا: إن المذكر إذا رفع صوته ب (ربنا ولك الحمد)، وسائر التكبير لا يضره، وقد خالف ذلك بعض المتأخرين بلا دليل ولا برهان، وقد تقدم ذكر ذلك فى باب من أسمع الناس تكبير الإمام قبل هذا.

    5 -

    باب الطُّمَأْنِينَةِ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ

    وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: رَفَعَ النَّبِيُّ عليه السلام، رأسه حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ. / 159 - فيه: أَنَسٌ: نعَتُ صَلاةَ رسول الله، فَكَانَ يُصَلِّي: فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، قَامَ، حَتَّى نَقُولَ: قَدْ نَسِيَ. / 160 - وفيه: الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رُكُوعُ الرسول وَسُجُودُهُ، وَإِذَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ، وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ. / 161 - وفيه: مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ: أنه أراهم صَلاةُ رسول الله - وَذَلكَ فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلاةٍ - فَقَامَ، فَأَمْكَنَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَمْكَنَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَأَنْصَبَ هُنَيَّئةً، فَصَلَّى بِنَا صَلاةَ شَيْخِنَا أَبِي يزيد.. .، الحديث. قال المؤلف: هذه الصفة فى الصلاة حسنة لمن التزمها فى خاصة نفسه، غير أن فعل أنس ومالك بن الحويرث، ونعتهما صلاة رسول الله بهذه الصفة يدل أنهم كانوا لا يبالغون فى الطمأنينة فى الرفع من الركوع ولا بين السجدتين مثل ما ذكر فى الحديث عن الرسول، فأراهم أنس ومالك بن الحويرث ذلك، ولم يقولا لهم: إن صلاتكم هذه التى تقصرون فيها عن بلوغ هذا الحد من الطمأنينة لا تجوز، وإن كانت هذه الصفة أفضل لمن قدر عليها. وقد قال أبو أيوب فى باب المكث بين السجدتين بعد ذلك: وقد كان أبو يزيد يفعل شيئًا لم أرهم يفعلونه، وكذلك قال ثابت: عن أنس فى ذلك الباب أنه كان يصنع شيئًا لم أراكم تصنعونه: كان إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل: قد نسى، وبين السجدتين كذلك، فدل أن الذى كانوا يصنعونه فى ذلك من خلاف هذه الآثار جائز أيضًا؛ إذ لا يجوز أن يتفق الصحابة على صفة من الصلاة إلا وهى جائزة. هذا المفهوم من هذه الآثار، وقد ترجم لحديث مالك بن الحويرث، ولحديث البراء، ولحديث أنس: (باب المكث بين السجدتين) .

    6 -

    باب يَهْوِي بِالتَّكْبِيرِ حِينَ يَسْجُدُ

    وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَضَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ. / 162 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ: أنه كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ صَلاةٍ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ وَغَيْرِهَا فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ، فَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا.. .، الحديث.

    / 163 - وفيه: حديث أَنَسَ: أن النبى، عليه السلام، ركب فَرَسًا - فَجُحِشَ شِقُّهُ، فَصَلَّى قَاعِدًا.. .، إلى قوله: (وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا). وقد تقدم معنى هذا الباب: أن التكبير فى الصلاة كلها مع الخفض والرفع، فى (باب إتمام التكبير فى الركوع)، فلا معنى لإعادة القول فيه، ولا خلاف فيه بين الفقهاء إلا فى تكبير القيام من ثنتين، وسيأتى ذلك فى (باب يكبر وهو ينهض بين السجدتين)، إن شاء الله. واختلفوا فى وضع اليدين قبل الركبتين فى السجود، فذهب مالك، والأوزاعى إلى ما روى فى ذلك عن ابن عمر، رواه أبو مصعب عن مالك فى (المبسوط)، قال: وهو أحسن فى سكينة الصلاة ووقارها، والحجة لذلك ما رواه أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبى هريرة أن النبى قال: (إذا سجد أحدكم فليضع يديه على الأرض قبل ركبتيه ولا يبرك بروك البعير)، ذكره إسماعيل بن إسحاق، وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه يضع أيهما شاء قبل صاحبه، وذلك واسع، ذكره ابن حبيب. وقالت طائفة: يضع ركبتيه قبل يديه روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وهو قول الثورى والكوفيين، وذكر ابن شعبان عن مالك مثله، وبه قال ابن وهب، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وحجتهم حديث وائل بن حجر: (أن النبى، عليه السلام، بدأ فوضع ركبتيه قبل يديه). قال الطحاوى: اتفقوا أنه يضع رأسه بعد يديه وركبتيه، ثم يرفعه قبلهما، ثم كانت اليدان متقدمتين فى الرفع، فوجب أن تكون مؤخرتين فى الوضع.

    7 -

    باب فَضْلِ السُّجُودِ

    / 164 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: (هَلْ تُمَارُونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟)، قَالُوا: لا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟)، قَالُوا: لا، قَالَ: (فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا، فَلْيَتَّبِعْه، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الْقَمَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: هَذَا مَكَانُنَا، حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَدْعُوهُمْ، وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ، وَلا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلا الرُّسُلُ، وَكَلامُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ، سَلِّمْ، وَفِي جَهَنَّمَ كَلالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟)، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهُ لا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلا اللَّهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بقدر بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ، ثُمَّ يَنْجُو، حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ رَحْمَةَ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَمَرَ الْمَلائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ، فَيُخْرِجُونَهُمْ، وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ.. .)، وذكر باقى الحديث. قال المؤلف: قوله عليه السلام: (وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود)، يدل أن الصلاة أفضل الأعمال لما فيها من الركوع والسجود، وقد قال عليه السلام: (أقرب ما يكون العبد إلى الله إذا سجد)، وقرأ: (واسجد واقترب) [العلق: 19]، ولعن الله إبليس، لإبائه عن السجود، لعنةً، أبلسهُ بها وأيأسهُ من رحمته إلى يوم القيامة. وقال ثوبان لرسول الله: دُلَّنى على عمل أكون به معك فى الجنة قال: (أكثر من السجود). وقيل فى قوله تعالى: (سيماهم فى وجوههم من أثر السجود) [الفتح: 29]، هو أثر السهر والصفرة، وقيل: الصلاة والخشوع والوقار، وقيل: هو ما يتعلق من التراب بموضع السجود، وقيل فيها غير هذا وسأذكر ذلك فى الباب بعد هذا، وأذكر فيه من كره آثار السجود فى الوجه ومن رخص فيها. قال المهلب: وفيه إثبات الرؤية لله، تعالى، نصًا من كلام رسول الله، وهو تفسير لقوله: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) [القيامة: 22، 23]، يعنى: مبصرة لله تعالى، ولو لم يكن هذا القول للنبى بالرؤيا نصًا لكان لنا فى قوله تعالى ما فيه كفاية لمن أنصف، وذلك أن النظر إذا قرن بذكر الوجه لم يكن إلا نظر البصر، وإذا قرن بذكر القلب كان بمعنى اليقين، فلا يجوز أن ينقل حكم الوجوه إلى حكم القلوب. فإن اعترض معترض علينا بقوله تعالى: (ولا تدركه الأبصار) [الأنعام: 103]، وأن ذلك على العموم. قيل: يحتمل أن يكون على العموم لولا ما خصه من قوله عليه السلام: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر والشمس وليس دونهما سحاب).

    وقوله: (فيها منافقوها)، يدل أن المنافقين يتبعون محمدًا لما انكشف لهم من الحقيقة رجاء منهم أن ينتفعوا بذلك، ويلتزموا الرياء فى الآخرة كما التزموه فى الدنيا حتى تُبينهم الغُرَرُ والتحجيل من أثر الوضوء عند الحوض، فيتبين حينئذ المنافق؛ إذ لا غرة له ولا تحجيل، ويؤخذ بهم ذات الشمال فى جملة من ارتد بعده عليه السلام فيقال: إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك، فيقول: سحقًا سحقًا. وقوله: (فيأتيهم الله)، الإتيان هاهنا إنما هو كشف الحجب التى بين أبصارنا وبين رؤية الله؛ لأن الحركة والانتقال لا تجوز على الله؛ لأنها صفات الأجسام المتناهية، والله تعالى، لا يوصف بشىء من ذلك، فلم يبق من معنى الإتيان إلا ظهوره تعالى إلى أبصار لم تكن تراه ولا تدركه. والضحك: هو صفة من صفات الله، ومعناه عند العلماء: الاستبشار والرضا، لا ضحك بلهوات وتعجب كما هو منا، وسأستقصى القول فى رؤية الله تعالى، وسائر معانى هذا الحديث وتفسير اللغة والعربية فى (كتاب الاعتصام)، فى (باب قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) [القيامة: 22، 23]، إن شاء الله. تفسير الغريب: قوله: (منهم الموبق بعمله)، قال صاحب (الأفعال): وبق الرجل: إذا هلك بذنوبه. وقوله: (ومنهم من يخردل)، قال صاحب (العين): خردلت اللحم: فصلته، وخردلت الطعام: أكلت خياره. وقال غيره: خردلته: صرعته، والجردلة بالجيم، الإشراف على السقوط والهلكة.

    وقوله: (قد امتحشوا)، المحش: إحراق الجلد، من كتاب (العين). وقوله: (قشبنى ريحها)، قال صاحب (الأفعال): تقول العرب: قشبت الشىء: قذرته، وقشب الشىء، بكسر الشين، قشبًا: قذر، وقال ابن قتيبة: قشبنى ريحها، هو من القشيب، والقشيب: السم، كأنه قال: سمنى ريحها، ويقال لكل مسموم: قشيب. وقال الخطابى: يقال: قشبه الدخان إذا ملأ خياشيمه وأخذ بكظمه وكانت ريحه طيبة، وأصل القشب خلط السم بالطعام، يقال: قشبه: إذا سمه، وقشبتنا الدنيا: أى فتنتنا، فصار حبها كالسم الضار، ثم قيل على هذا: قشبه الدخان، وقشبته الريح الزكية: إذا بلغت منه الكظم. ومنه حديث عمر أنه كان بمكة فوجد ريح طيب فقال: من قشبنا؟ فقال معاوية: يا أمير المؤمنين، دخلت على أم حبيبة فطيبتنى.

    8 -

    باب يُبْدِي ضَبْعَيْهِ وَيُجَافِي فِي السُّجُودِ

    / 165 - فيه: ابْنِ بُحَيْنَةَ (أَنَّ رسول الله كَانَ إِذَا صَلَّى فَرَجَ بَيْنَ يَدَيْهِ، حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ). وهذه صفة مستحسنة عند العلماء، ومن تركها لم تبطل صلاته، وقد اختلف السلف فى ذلك، فممن روى عنه أنه كان يجافى فى سجوده: على بن أبى طالب، والبراء، وأبو مسعود، وأبو سعيد الخدرى، وابن عمر، ذكره الطبرى، وقال الحسن: حدثنى أحمر صاحب النبى، قال: (إن كنا لنأوى لرسول الله مما يجافى بمرفقيه عن جنبيه)، وفعله الحسن، وقال النخعى: إذا سجد فليفرج بين فخذيه. وممن رخص أن يعتمد بمرفقيه، قال ابن مسعود: هيئت عظام ابن آدم للسجود فاسجدوا حتى المرافق. وأجاز ابن سيرين أن يعتمد بمرفقيه على ركبتيه فى سجوده، وقال نافع: كان ابن عمر يضم يديه إلى جنبيه إذا سجد، وسأله رجل: هل يضع مرفقيه على فخذيه إذا سجد؟ قال: اسجد كيف تيسر عليك. وقال أشعث بن أبى الشعثاء، عن قيس بن سكن: كل ذلك كانوا يفعلون ينضمون ويجافون، كان بعضهم ينضم، وبعضهم يجافى. وروى ابن عيينة، عن سُمى، عن النعمان بن أبى عياش، قال: (شكى إلى رسول الله الإدغام والاعتماد فى الصلاة، فرخص لهم أن يستعين الرجل بمرفقيه على ركبتيه أو فخذيه)، ذكر هذا كله ابن أبى شيبة فى (مصنفه). وإنما كان يجافى عليه السلام، فى سجوده ويفرج بين يديه حتى يبدى بياض إبطيه، والله أعلم، ليخف على الأرض ولا يثقل عليها، كما ذكر أبو عبيد، عن عطاء بن أبى رباح، أنه قال: خفوا على الأرض. قال أبو عبيد: وجهه أنه يريد ذلك فى السجود، يقول: لا ترسل نفسك على الأرض إرسالاً ثقيلاً، فيؤثر فى جبهتك، ويبين ذلك حديث مجاهد أن حبيب بن أبى ثابت سأله قال: إنى أخشى أن يؤثر السجود فى جبهتى؟ قال: إذا سجدت فتخاف، يعنى: خفف نفسك وجبهتك على الأرض، وبعض الناس يقولون: فتجاف، والمحفوظ عندى بالخاء. وقد ذكر ابن أبى شيبة من كره ذلك ومن رخص فيه، ذكر عن ابن عمر: أنه رأى رجلاً قد أثر السجود فى جبهته، فقال: لا يشينن أحدكم وجهه، وكرهه سعد بن أبى وقاص، وأبو الدرداء، والشعبى، وعطاء. وممن رخص فى ذلك: قال أبو إسحاق السبيعى: ما رأيت سجدة أعظم من سجدة ابن الزبير، ورأيت أصحاب على، وأصحاب عبد الله وآثار السجود فى جباههم وأنوفهم، وقال الحسن: رأيت ما يلى الأرض من عامر بن عبد قيس مثل ثفن البعير. وقد روى عن سعيد بن جبير، وعكرمة فى تأويل قوله تعالى: (سيماهم فى وجوههم من أثر السجود) [الفتح: 29]، قالا: هو التراب وكذا الطهور. وروى ابن وهب، عن مطرف، عن مالك أنه ما تعلق بالجبهة من أثر الأرض وهذا يشبه الرخصة فى هذا الباب. وفى الآية أقوال أخر قيل: صلاتهم تبدو فى وجوههم يوم القيامة، عن ابن عباس.

    وقال عطية: مواضع السجود أشد بياضًا يوم القيامة، وهو قول الحسن ومقاتل. وعن ابن عباس: هو السمت الحسن فى الدنيا، وقال مجاهد: هو سيما الإسلام وسمته وتواضعه. وقال الحسن: هو الصفرة التى تعلو الوجه من السهر والتعب. والضبعان: العضدان، واحدهما: ضبع، ومنه الاضطباع فى اللباس، ويقال: ضبعت: إذا مددت يدى ومنه قول الشاعر: ولا صلح حتى تضبعون ونضبعا أى: حتى تمدون أضباعكم إلينا بالسيوف ونمد أضباعنا، عن ابن قتيبة، وفى كتاب العين: المضبعة: اللحمة التى تحت الإبط. وقوله: إن كنا لنأوى لرسول الله، قال صاحب العين: أويت له: رفقت له.

    9 -

    باب يَسْتَقْبِلُ بِأَطْرَافِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ

    قَالَهُ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام. لا يختلف العلماء فى استحباب هذه الصفة فى السجود، وكذلك يستحبون أن يستقبل الساجد بأنامل يديه القبلة فى سجوده، وإن فعل غير ذلك فصلاته جائزة عندهم.

    0 -

    باب إِذَا لَمْ يُتِمَّ سُجُودَه

    قد تقدم فى الجزء الأول من الصلاة، فأغنى عن إعادته.

    1 -

    باب السُّجُودِ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ

    / 166 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ (أُمِرَ الرسول أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ، وَلا يَكُفَّ شَعَرًا، وَلا ثَوْبًا: الْجَبْهَةِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ). / 167 - ورواه عبد الله بن طَاوُسٍ، عن أبيه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: قَالَ رسول الله: (أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى الْجَبْهَةِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ، عَلَى أَنْفِهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ، وَلا يكْف الشَّعَرَ وَالثِّيَابَ). / 168 - وفيه: الْبَرَاءُ قَالَ: (كُنَّا نُصَلِّي خَلْفَ الرسول، فَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ، حَتَّى يَضَعَ النَّبِيُّ جَبْهَتَهُ عَلَى الأرْضِ). اختلف العلماء فيما يجزئ السجود عليه من الآراب السبعة بعد إجماعهم أن السجود على الوجه فريضة، فقالت طائفة: إذا سجد على جبهته دون أنفه أجزأه، روى ذلك عن ابن عمر، وعطاء، وطاوس، والحسن، وابن سيرين، والقاسم، وسالم، والشعبى، والزهرى، وهو قول مالك، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى فى أحد قوليه، وأبى ثور، والمستحب عندهم أن يسجد على أنفه مع جبهته، وقالت طائفة: يجزئه أن يسجد على أنفه دون جبهته، هذا قول أبى حنيفة، وروى مثله عن طاوس، وابن سيرين، وذكر أبو الفرج، عن ابن القاسم مثله. وأوجب قوم من أهل الحديث السجود على الأنف والجبهة جميعًا، روى ذلك عن النخعى، وعكرمة، وابن أبى ليلى، وسعيد بن جبير، وهو قول أحمد، وطائفة، وهو مذهب ابن حبيب، وقال ابن عباس: من لم يضع أنفه فى الأرض لم يصل. وقالت طائفة: لا يجزئه إن ترك السجود على شىء من الأعضاء السبعة، وهو أحد قولى الشافعى، وبه قال أحمد وإسحاق، وهو مذهب ابن حبيب، وأظن البخارى مال إلى هذا القول، وحجته حديث ابن عباس أن النبى، عليه السلام، أمر أن يسجد على سبعة أعضاء، فلا يجزئ السجود على بعضها إلا بدلالة. وحجة من أوجب السجود على الجبهة والأنف جميعًا أنه قد روى فى بعض طرق هذا الحديث، أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء، منها الوجه، فلا يخص بالجبهة دون الأنف. وبهذا الحديث احتج أبو حنيفة فى أنه يجزئ السجود على الأنف خاصة، وقال: ذكره للوجه يدل على أنه أى شىء وضع منه أجزأه، وإذا جاز عند من خالفنا الاقتصار على الجبهة دون الأنف جاز الاقتصار على الأنف دون الجبهة؛ لأنه إذا سجد على أنفه، قيل: قد سجد على وجهه، كما إذا اقتصر

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1