Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

Elmet Arabic
Elmet Arabic
Elmet Arabic
Ebook421 pages3 hours

Elmet Arabic

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook


بأسلوب جديد ومتميز في الكتابة نابع من صيحة حديثة ومثيرة في أدب الخيال، تأتي رواية إلمت لتعلق في ذاكرة من يقرأها بفكرتها التي تدور حول العائلة وتأملاتها للطبيعة . معالجة غنائية للمجتمع، كما أنها محاولة لاكتشاف مدى العمق الذي يمكن أن تصل إليه العلاقة بين الأب والإبن.
Languageالعربية
Release dateApr 29, 2020
ISBN9789927129643
Elmet Arabic

Related to Elmet Arabic

Related ebooks

Reviews for Elmet Arabic

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    Elmet Arabic - Fiona Mozley

    Elmet_(Arabic)-Cover.jpg

    المحتويات

    1

    الفصل الأول

    الفصل الثاني

    2

    الفصل الثالث

    الفصل الرابع

    الفصل الخامس

    الفصل السادس

    الفصل السابع

    3

    الفصل الثامن

    الفصل التاسع

    الفصل العاشر

    الفصل الحادي عشر

    الفصل الثاني عشر

    الفصل الثالث عشر

    الفصل الرابع عشر

    4

    الفصل الخامس عشر

    الفصل السادس عشر

    الفصل السابع عشر

    الفصل الثامن عشر

    5

    الفصل التاسع عشر

    الفصل العشرون

    الفصل الحادي والعشرون

    الفصل الثاني والعشرون

    6

    شكر وعرفان

    إلى ميغان.

    «إِلْمِت» هي آخر مملكة سِلتيَّة مستقلة في إنجلترا، وفي الأصل كانت تمتد في وادي يورك... لكن هذا الصدع الضيق وجدرانه بقيت - حتى حلول القرن السابع عشر - أسفل المستنقعات المتجمدة، أرضًا يبابًا، وملاذًا للآبقين الخارجين على القانون.

    بقايا إِلْمِت

    تيد هيوز

    1

    لا ظلَّ لي. يعلق الدخان من ورائي، ويخمد نور النهار. أعدُّ عوارض السكة الحديدية فتتسارع الأرقام. أعدُّ المسامير والبراغي. أمشي قاصدًا الشمال. خطوتاي الأُوليان بطيئتان، متململتان. لستُ على يقين من وجهتي، ولكنني ثابت على ذلك الخيار الأول. لقد اجتزت الباب وأُغلق من ورائي.

    لا تزال في أنفي رائحة الجمرات، وفي عينيَّ صورة الحطام المتفحِّم المتلوِّي متعرِّج الحواف، وفي أذنيَّ تلك الأصوات من جديد: أصوات الرجال والفتاة، والغضب، والخوف، والإصرار. ومن بعدها تلك الذبذبات المدمِّرة تعيث في الغابة، ولعق ألسنة اللهب، ورذاذ المطر الساخن الجاف، وأختي إذ يسيل الدم على بشرتها، والأرض إذ تضيع سُدًى.

    أبقى على السكة الحديدية لا أحيد. أسمع من بعيد هدير محركٍ وبطبطة بطَّةٍ من وراء شجيرات الزعرور البري. ما من ركَّاب، كلُّها قطارات بضائع. عربات فولاذية مزدانة برموز فاسدة: شعارات شباب شاخوا منذ زمان بعيد، صدأ وصرير وسنوات طوال من الدخان.

    يهطل المطر ثم يتوقف. يبتلُّ العشب. ينبعث صريرٌ تحت نعليَّ إذ يحتكَّان بالعشب. لا ألتفت إلى عضلاتي حينما تبدأ في التوجُّع. أجري. أسير. أجري أكثر. أُجرجر قدميَّ. أستريح. أنحني فأشرب من تجاويف تتجمَّع فيها مياه المطر، وأعتدل، وأمشي.

    يصاحبني شكٌّ دائم. لو كانت اتجهت جنوبًا عند وصولها إلى السكة الحديدية فلا أمل، وما من سبيل للعثور عليها. بوسعي أن أجدَّ في السير أو أتراخى أو أنطلق كالسهم أو أتوقف في عرض الطريق مستلقيًا في انتظار قطار يمزِّقني إربًا، فلا يُغير أيٌّ من ذلك في الأمر شيئًا. لو كانت اتجهت جنوبًا فقد ضاعت.

    لكنني اخترت طريق الشمال، فهو وجهتي التي سأسير فيها.

    أخرق جميع القواعد. أخطو عابرًا حدود الحقول. أقفز حين تصادفني سياجات الأسلاك الشائكة والبوابات الموصدة. أمرق عبر المنشآت الصناعية والحدائق الخاصة. لا أبالي بحدود المقاطعات والوحدات الإدارية والأبرشيات. أسير، سواء أتحت قدميَّ مرعى أم مَراح خيل أم حديقة.

    تسير بي السكة الحديدية بين تلال أسفل ذراها تنساب القطارات، ومن تحتها الأودية. أقضي ليلة طريح المستنقعات، مراقبًا الريح والغربان والمركبات البعيدة، غارقًا في ذكريات بعض هذه الأرض، لولا أنها في موضع أسبق جهة الجنوب، وزمان أسبق، ثم غارقًا بالمثل في ذكريات البيت، والأُسرة، وتقلُّبات القدر، وتبدُّلات المصير، والبدايات والنهايات، والعلل والعواقب.

    في الصباح التالي أواصل طريقي، ومن تحت قدميَّ، بقايا إِلْمِت.

    الفصل الأول

    وصلنا في الصيف، وقد ازدهى الأفق وصار في ريعان نضارته، واشتدت حرارة النهار، ولان الضوء، فكنت أهيم عاري الصدر، يتفصَّد مني عرقٌ نظيف، منعَّمًا بين أحضان الهواء الرخيم. وتناثر النمش في تلك الشهور على كتفيَّ ذواتي العظام البارزة، بينما الشمس تتراخى في غروبها لتحلَّ الأمسيات رمادية لتسودَّ ولتنسرب فيها الصباحات من جديد. كانت الأرانب تتواثب في الحقول، وحينما يبتسم لنا الحظ، وتسكن الريح، وتكتسي التلال حجابًا راسيًا، كنا نرى أرنبة بريَّة.

    كان المزارعون يُطلقون الرصاص على الضواري، وننصب نحن الفخاخ للأرانب حتى نقتات بها، إلا الأرنبة البرية، إلا أرنبتي البرية. الأرنبة الأُم الساكنة، هي وصغارها، عشًّا في ظل السكة الحديدية. الأرنبة التي اخشوشنت من مرور القطارات، فلما رأيتها كانت وحيدة كأنما انسلَّت من العش فلا رأتها عين ولا سمعت لها أذن صوتًا. كان نادرًا بين مثلها من المخلوقات أن تترك واحدة صغارها في الصيف لتجري وسط الحقول، لكنها كانت تبحث، تبحث عن طعام أو وليف، تبحث كما لو أنها حيوان ضارٍ يبحث عن فريسة، كأنها أرنبة برية فكَّرت في الأمر وقررت ألَّا تكون فريسة، بل تجري وتصطاد، كأنها أرنبة برية فوجئت في يوم من الأيام وهي تجري أمام ثعلب أنها تتوقف بغتة وتلتفت، فإذا هي مطارِدة لا طريدة.

    بدت مختلفة عن أي أرنبة سواها، مهما يكن سبب ذلك الاختلاف. تنطلق، فلا أكاد من فرط سرعتها أراها، وتسكن للحظة، فلا يكون لأميال وأميال من حولها ما هو أشدُّ منها سكونًا. أشدُّ سكونًا حتى من السنديان والصنوبر. أشدُّ سكونًا حتى من الصخور وأبراج الضغط العالي. أشدُّ سكونًا حتى من طريق السكة الحديدية. بدت كأنها اقتنصت الأرض وثبَّتتها تحتها، فصارت مركزًا لها، وإذا بأشدِّ العلامات هدوءًا وسكينة تدور من حولها دوَّامة مارقة، في حين أن كل شيء، كل ما في المشهد من تفاصيل، غرق في كهرمان عينيها الكرويتين الهائلتين.

    ولو أن تلك الأرنبة البرية كانت مخلوقة من أساطير، فمثلها في ذلك الأرض التي كانت تنبش فيها. ليس فيها الآن غير بقع متناثرة من الأشجار، لكن المقاطعة كلها كانت غابة في يوم من الأيام، ولم يزل مُمكنًا تبيُّن أشباح الغابات العتيقة حينما تهبُّ الرياح. عجَّت الأرض بنثار حكاياتٍ انهمرت انهمارًا، ثم تعفَّنت حيثما انهمرت، ثم انبعثت وسط الشجيرات مرتدة إلى حياتنا من جديد. حكايات عن رجال خضر يختلسون النظر من وسط الآكام بوجوه من ورق الشجر وسيقان من جذوعه. صيحات كلاب صيد توشك أن تموت جوعًا وهي تسارع لاهثة وراء طريدة منهكة. روبين هود وعصبته من المتشردين النِّحال وهم يصفرون ويتصارعون ويحتفلون وهم ينعمون بحرية الطيور التي سرقوا ريشها. غابة عتيقة تمتد في قطاع من الأرض يمضي جليلًا من الشمال إلى الجنوب. خنازير ودببة وذئاب. غزلان ووعول وأيائل. أميال من الفطر النابت تحت التراب. زهور اللبن الثلجية، وأعشاب الجريس، وزهور الربيع. ومن كل ذلك لم يبقَ من الشجر إلا الذي انزاح قبل زمان بعيد مُفسحًا المكان لمحاصيل ومراعٍ وطرق وبيوت وسكة حديدية وأيكات صغيرة كأيكتنا.

    كنا، أبي وكاثي وأنا، نعيش في بيت صغير بناه أبي بما عثر عليه في الأرض المحيطة من خامات. اختار لنا أيكة دردار صغيرة على بُعد حقلين من طريق الساحل الشرقي الرئيسي، فهي بعيدة بما لا يجعل أحدًا يراها، وقريبة فنعرف القطارات خير المعرفة. كثيرًا ما نسمعها، فنُميِّز طنين قطارات الركَّاب ورنينها، وقعقعة قطارات البضائع واكتظاظها حيث تمرُّ بنا، ومن ورائها حمولاتها المكدسة في حاويات معدنية ملونة. كانت لها جداول خاصة، وبين بعضها بعضًا فواصل محدَّدة، فهي ترسم ما يُشبه حلقات النمو حول بيتنا مع كلِّ رحلة تقوم بها، وكان لها من حولنا رنين كرنين أجراس الصلاة. قطارات أديلانت وبندولينو الزرقاء الطويلة المتجهة من لندن إلى إدنبره، والقطارات الأصغر العابرة بما عليها من سنوات طوال، وبما فوقها من شارات صدئة متصاخبة، وقطارات الخيول القديمة حيث تتحرك ببطء في طريقها إلى الاستيداع على القضبان الحديثة ماضية على الفولاذ مُضِي الشيوخ على الجليد.

    في اليوم الذي وصلنا فيه، صعد إلى التل عسكريٌّ هرم، يسوق جرَّارًا من خلفه مقطورة ممتلئة بحجارة جاء بها من ساحة البنَّائين، فمنها الحديث ومنها المستعمل. ترك العسكري لأبي مهمة تفريغ أغلب الشحنة، بينما جلس هو على جذع خشبي مقطوع حديثًا يُدخِّن سيجارة تلو سيجارة تلفُّها له كاثي من تبغها وورقها. كان يرنو إليها وهي تلفُّها بأصابعها وتضع طرف لسانها على أسنانها لتلعق لاصقها، وينظر إلى وركها اليمنى حيث تضع عليها كيس التبغ، بل إنه انحنى غير مرَّة يتناوله مُتحسسًا وركها بيده في أثناء ذلك، مُتصنعًا من بعدُ أنه يقرأ ما كُتب على العبوة. ومع كلِّ سيجارة دخَّنتها كان يعرض أن يُشعلها لها. فكان في كلِّ مرَّة يُشعل الثقاب في لهفة، ويستاء مثل طفل صغير حينما تُعرِض عن لهبه، وتستمر في إشعال سيجارتها بنفسها. لم يرَ عبوسها طوال الوقت وتقطيبها حيث تنظر إلى يديها وهي تقوم بالعمل. لم يكن بالرجل الذي ينظر فيرى ويفهم جيدًا ما تقوله الوجوه، ولا بالرجل الذي يعرف معنى العيون والشفاه، أو بالذي يتصوَّر وجود وجه جميل مُغلق على أفكار لا علاقة لها بالجمال.

    ظلَّ العسكري يتكلم طيلة العصر عن الجيش والقتال الذي خاضه في العراق والبوسنة، وكيف أنه رأى صِبية صغارًا في مثل سِنِّي أنا، تُبقر بطونهم بالسكاكين فتندفع أحشاؤهم بلون زُرقة عابرة. اسودَّ وجهه قليلًا وهو يحكي لنا هذا. ظلَّ أبي يعمل على البيت طوال النهار حتى إذا حلَّ المساء مضى الرجلان نازلين التل ليتناولا بعضًا من خمرة التفاح التي جلبها العسكري معه في زجاجة عصير بلاستيكية. لم يطل بقاء أبي معه، فلم يكن يُقبل على الشرب كثيرًا، ولا يميل إلى مخالطة الناس خلا أختي وأنا.

    عندما رجع أبي حكى لنا أنه تشاجر مع العسكري، ولطمه بقبضته اليسرى في رأسه، فثمة خدش دامٍ الآن قرب مفصل إبهامه.

    سألته كيف بدأت المشاجرة.

    قال لي أبي:

    - كان وغدًا يا دانيال. كان وغدًا.

    ورأيت أنا وكاثي ذلك جزاءً وفاقًا.

    كان بيتنا أشبه في تصميمه بالأكواخ، أو بيوت الحدائق في الضواحي أو المدن الصغيرة التي يعيش فيها المسنُّون والأُسر الفقيرة. لم يكن أبي معماريًّا، لكنه استطاع أن يحاكي مخطَّطًا رماديًّا مشوبًا ببياض سرقه من موظفي المجلس المحلي.

    مع ذلك بدا بيتنا أقوى مما يماثله من بيوت، فقد أُقيم بطوب أفضل، وملاط أفضل، وحجارة أفضل، وخشب أفضل. وكنت أعرف أنه سوف يبقى لعشرات من الأعوام أكثر من البيوت التي نراها على الطريق ونحن متَّجهون إلى البلدة. وقد بدا أجمل منها، حيث كان لبلاب الغابة وطحالبها الخضراء أحرص على التعلُّق في جوانبه، وجعلِه جزءًا من الأفق. ومع كلِّ عام يمرُّ يبدو منظر البيت أقدم مما كان عليه بالفعل، وكلما بدا أنه قائم هنالك منذ وقت أطول، ازددنا نحن يقينًا بأنه بُنِي ليبقى، شأنه في ذلك شأن كل البيوت الحقيقية، وشأن مَن يعدُّونها دون غيرها بيوتًا.

    ما كادت الجدران الخارجية تُقام حتى نثرتُ بذورًا وبصيلات. كانت الأرض لم تزل متقلِّبة منذ أن حفر أبي الأساس، فعمَّقتُ الأخاديد، وملأتها بسماد وروث حديث جئنا به من إسطبل على بُعد ثمانية أميال. رأينا عنده بنات صغيرات، يرتدين سراويل ركوب الخيل وأحذية جلدية لامعة، ويركبن الخيول الصغيرة في ساحة كأنها بحيرة من نور. زرعتُ زهور البنفسج والنرجس والورد من مختلف الألوان، وغرستُ شتلة اقتطعتها من نبات متسلِّق أبيض الزهور عثرت عليه ناميًا فوق جدار حجري قديم. لم يكن ذلك الوقت من العام هو الوقت الملائم للزرع، لكن بعض البراعم نبتت، وفي السنة التالية نمت البقية. وذلك سرُّ كلِّ بيت حقيقي، الانتظار. رَبْطُ البيت بنا، وتوطيدُ أركانه، وتثبيتُه وتثبيتُنا أنفسنا في الفصول والشهور والسنين.

    جئنا قبيل عيد ميلادي الرابع عشر، وبعدما بلغت كاثي الخامسة عشرة للتوِّ. كنا في مطلع الصيف، فتوفرت لأبي فسحة من الوقت للبناء. كان يعرف أنه سينتهي منه قبل مجيء الشتاء بوقت كافٍ، ولم يحل منتصف سبتمبر إلا ولدينا بالفعل ما يكفينا من البناء لنعيش بداخله. قبل ذلك عشنا في شاحنتين عسكريتين متهالكتين اشتراهما أبي من لصٍّ في دونكاستر، وساقهما إلى الموقع سالكًا الطرق الخلفية والمسارات البعيدة عن الأنظار. ربطنا إحداهما في الأخرى بسلسلة حديدية، وجئنا بقماش ثقيل فغطَّيناهما به من أعلى بدُرْبَة وإحكام، وصار لنا مأوى تحتهما. كان أبي ينام في شاحنة وأنا وكاثي في الأخرى. وكان لنا أسفل الغطاء القماشي الثقيل كراسي بلاستيكية قديمة من كراسي الحدائق، ثم صارت لنا بعد وقت أريكة زرقاء ساقطة، فجعلنا من ذلك كله غرفة للمعيشة. وتوفرت لدينا صناديق نقلبها لنضع عليها أكوابنا وأطباقنا ونفرد عليها أقدامنا أيضًا، في ليالي الصيف الدافئة حين لم يكن ثمة شيء يمكن أن نفعله إلا الجلوس والكلام والغناء.

    في أصفى الأمسيات نبقى بالخارج حتى الصباح، ونفتح مذياعي الشاحنتين، وأظلُّ أنا وكاثي نرقص على الأرض المكسوَّة بورق الشجر، على هدير موسيقى نظامنا الصوتي البري، آمنَين لمعرفتنا أن الجيران أبعد كثيرًا من أن يسمعوا أصواتنا. وقد نجلس في بعض الأحيان فيكفينا غناؤنا عن المذياعين. حيث أحضر لي أبي قبل سنين نايًا خشبيًّا، وجاء لكاثي بكمنجة، وتلقَّينا دروسًا مجانية حين كنا في المدرسة. صحيح أننا لم نكن خبيرين، لكن كان بوسعنا أن نُصدر أصواتًا منضبطة يرجع الفضل فيها إلى الآلتين اللتين نعزف عليهما. فقد أحسن أبي الاختيار. لم يكن يعرف شيئًا عن الموسيقى، لكنه كان على دراية عظيمة بجودة الأشياء، فبوسعه أن يُميِّز الجودة والصنعة من طبيعة الخشب والغراء، ومن رائحة الطلاء ونعومة الحواف. وكنا قد قطعنا الطريق الطويل إلى ليدز لشرائهما.

    ترون إذن أنه كان على دراية بمختلف الأخشاب، وكان يعرف الشجر القائم في أيكتنا فعرَّفني به منذ وقت مبكِّر. تراوحت أعمار أغلبه بين الشجيرات الحديثة والأشجار البالغة من العمر نحو خمسين سنة، حيث كانت الأيكة موقعًا للاحتطاب منذ زمان بعيد سابق على وصولنا نحن، زمان لعله يمتد إلى مئات السنين حسبما قدَّر أبي. وكان في وسط الأيكة، بل في القلب منها تمامًا، أقدم ما فيها من شجر، ومنها شجرة هي الأقدم على الإطلاق، هي الأم التي قال أبي إن بقية الشجر جاءت منها. كانت قائمة في مكانها ذلك منذ أكثر من مائتي سنة حتى اشتد لحاؤها كأنه شذرات من الصمغ الصلب.

    كان في الأيكة كذلك شجر بندق، ومن بعضه تتساقط حبات البندق. علَّمني أبي كيف أقطع الغصون عن الجذوع، وأراني كيف أُعمِل المطواة حادة النصل في تشكيل الحطب الأخضر، فقضيت أيامًا في محاولة صنع ناي رفيع من غصن أخضر طازج، نازعًا اللحاء الليِّن، مجوِّفًا إياه من أحشائه الطرية. وظللت أعمل بدقَّة من أجل تنعيمه من الخارج قدر ما أستطيع، وإحنائه انحناءة الإصبع. وفي النهاية لم يُصدر الناي صوتًا، فانتقلت بعد ذلك إلى صنع أشياء أنفع، وأغراض تقتضي قدرًا أقلَّ من المهارة، أو هي بالأحرى أشياء قادرة على الوجود حتى لو لم تكن دقيقة الصنع. فما دام بوسع طبق أن يحوي ما فيه، فمن السهل حسبانه طبقًا وإن بدا قبيح المنظر خشن الملمس. أما إذا لم يتسنَّ لناي أن يُصدر نغمة موسيقية فهيهات أن يُعدَّ من جملة النايات.

    كان لبيتنا في الغابة مطبخ ومنضدة ضخمة من خشب السنديان. وحينما كنا لا نزال نقيم في العراء، كان أبي يطهو على مشواة صنعها من قطع حديد مضلع وفحم يحرق في صفيحتَي نفط، ووضعها في قلب الأيكة على مقربة من الشجرة الأم.

    أكلنا كثيرًا من اللحم في تلك الأيام، مُتَّبعين نظام أبي الغذائي، فكنا نأكل من طعام كالذي يطهوه لنفسه قبل أن نأتي لنعيش معه على الدوام. واللحم الذي كنا نأكله هو من صيده في المقام الأول. لم يكن يكترث بالفاكهة أو الخضراوات، بل يصطاد يمام الغابة، والحمام الصخري، والحمام المطوق، والتدرُج، ودجاج الأرض، إن لمح أيًّا منها في المساء وقد تخفَّف من ستره. كما كانت في المنطقة غزلان صغيرة. وحينما تندر الطرائد، أو يتوفر المال لأبي، أو يعنُّ له التغيير لا أكثر ولا أقل، يقصد القرية، فيساوم على قطع من لحم البقر أو الحملان أو سجق الخنزير. وفي الموسم المناسب تُلعب لعبة صغيرة من أجل الإفطار، فقد كان في القرية رجل لديه باز يصطاد له الكثير من القُبَّرات ويأكلها وحده، وكان يعطينا منها في مقابل بعض الطيور الكبيرة التي لم يكن بازه يقوى على صيدها من أجله. وكنا نأكل القُبَّرات بالخبز المحمص، كاملة تقريبًا، مع فناجين ضخمة من الشاي بالحليب.

    ابتعد أبي مرَّة مع بعض الرحَّالة لأربعة أيام، ثم رجع بجوال من الخيش مليء ببطٍّ منتوف، وخمسة صناديق من الدجاجات الحية. أقام للدجاج قنًّا بالقرب من الموضع المُعد لإقامة باب البيت الخلفي. وصرنا نأكل البيض بعد ذلك، لكننا أصبحنا لا نكاد نتناول من الفاكهة والخضراوات إلا العنب البري النابت على جوانب الطرق.

    وبعدما اكتمل بناء البيت زرعتُ شجر تفاح وبرقوق، وطلبتُ من أبي أن يُحضر من القرية، حينما يذهب لعمله هناك، أكياس الجزر البرتقالي والجزر الأبيض، وأعددت ما جاء به على طاولة في المطبخ بسكاكين شحذها أبي.

    قبل بناء البيت، في تلك الشهور القليلة الحارة الجافة، ونحن نخيِّم ونغنِّي في العراء، كان أبي يتكلم معنا بالشكل اللائق، فيستعمل كلمات قليلة لكننا نسمع منها ما هو أكثر. يتكلم عمن صارعهم من الرجال، ومن قتلهم في مستنقعات أيرلندا أو وحل لينكولنشير الأسود الذي يعلق في الأيدي والأقدام كأنه حبر المحاكم. كان أبي يلاكم من أجل المال، بالأيدي العارية، بعيدًا غاية البُعد عن الحلبات أو الصالات الرياضية، لكن في مقابل أموال قد تكون ضخمة، ويتوافد من شتى أرجاء البلد رجال تأتيهم نقودهم من العدم ليضعوا رهاناتهم على فوز أبي. وأحمق كلُّ مَن لم يكن يدعم أبي؛ فقد كان بوسعه أن يطرح الرجل أرضًا بلكمة واحدة، وإن طالت المعركة فما ذلك إلا رغبةً منه في مصارعة كاملة.

    كان ينظم تلك المباريات إما رحَّالة أو رجال شِداد من المنطقة، يتحيَّنون الفرص لامتحان أنفسهم والظفر بفضلة من المال. خاض الرحَّالة على مدار قرون أشباه تلك المصارعات، وأطلقوا عليها «مصارعات الجوائز» أو «مصارعات العدل». لا يرتدون لها القفازات المبطَّنة، ولا يُقسِّمون المباريات إلى جولات تفصل بينها استراحات. وما كانوا يتصارعون إلى أن تفصل بينهم دقَّات نواقيس السلام، بل إلى أن يستسلم طرف أو ينطرح أرضًا. وكانت المصارعات تسوِّي في بعض الأحيان نزاعات بين عائلات متحاربة، لكنها في الغالب تُقام من أجل المال. عشرات الآلاف من الجنيهات قد توضع في مباراة، لذا عاش أبي من وراء ذلك عيشًا كريمًا.

    حكى لنا أبي عن عداء قائم منذ عقود بين آل جويس وآل كوين ماكدونا. فكل ثلاث سنوات، أو نحو ذلك، يبعث هؤلاء رجالهم ليقابلوا رجال أولئك في مواجهات ثنائية يتبارون فيها بالأيدي العارية تحت إشراف رجال أكبر سِنًّا من عائلات محايدة. وفي مثل تلك الحالات لم تكن العائلتان نفسهما تحضران؛ خشية أن ينشب شجار بينهما، فتنتهي طائفة كاملة من مجتمع الرحَّالة، بشيوخها وشبابها، ورجالها ونسائها، وقد مُحيت تمامًا أو اعتقلتها الشرطة وزجَّت بها في الشاحنات لترميها في السجن.

    كان المغنم كبيرًا، فلم تكن مصارعات العداء تلك تخلو من الرهانات العالية. كان آل جويس وآل كوين ماكدونا يتبارون أيهم أعلى رهانًا بالمال من الآخر. ففي بعض الأحيان يعرض كلٌّ منهما ما يصل إلى خمسين ألف جنيه ينالها الفائز كلها ويرجع بها إلى عربته داعيًا العصبة جميعًا إلى أمسية من الويسكي. قال

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1