Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

اعلام الموقعين عن رب العالمين
اعلام الموقعين عن رب العالمين
اعلام الموقعين عن رب العالمين
Ebook3,700 pages27 hours

اعلام الموقعين عن رب العالمين

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

إعلام الموقعين عن رب العالمين كتاب ألفه ابن قيم الجوزية جمع مصنفه فيه بين الفقه وأصوله ومقاصد الشريعة وتاريخ التشريع والسياسة الشرعية مستعيناً بأول ما أخذ وتلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمن انتشر عنهم الفقه والدين، ثم تكلم عن الاجتهاد و القياس في بحث مطول. وصل به إلى نهاية المجلد الثاني مع أمثلة مطولة ثم تناول بعد ذلك دراسة تفصيلية في مجموعة كبيرة من الفتاوى في مسائل مهمة في مباحث القضاء والعقيدة والعبادات والمعاملات والزواج والطلاق و الربا وأيضاً بعض الفتاوى عن الضرورات التي تبيح المحضورات وغير ذلك.... فأحسن اختيار الاستشهادات وتروى في الترجيح.
Languageالعربية
Release dateOct 21, 2019
ISBN9788835322139
اعلام الموقعين عن رب العالمين

Read more from ابن قيم الجوزية

Related to اعلام الموقعين عن رب العالمين

Related ebooks

Related categories

Reviews for اعلام الموقعين عن رب العالمين

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    اعلام الموقعين عن رب العالمين - ابن قيم الجوزية

    الرحيم

    خطبة الكتاب

    الحمد لله الذي خلق خلقه أطوارا، وصرفهم في أطوار التخليق كيف شاء عزة واقتدارا، وأرسل الرسل إلى المكلفين إعذارا منه وإنذارا، فأتم بهم على من أتبع سبيلهم نعمته السابغة، وأقام بهم على من خالف مناهجهم حجته البالغة، فنصب الدليل، وأنار السبيل، وأزاح العلل، وقطع المعاذير ،وأقام الحجة، وأوضح المحجة، وقال {هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل} [الأنعام:153] وهؤلاء رسلي{مبشرين ومنذرين، لسلاً يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء:165] فعمهم بالدعوة على ألسنة رسله حجة منه وعدلا، وخص بالهداية من شاء منهم نعمة منه وفضلا، فقبل نعمة الهداية من سبقت له من الله سابقة السعادة وتلقاها باليمين، وقال {رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علىّ وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين} [النمل:19] وردها من غلبت عليه الشقاوة ولم يرفع بها رأسا بين العالمين، فهذا فضله وعطاؤه {وما كان عطاء ربك محظورا } [الإسراء:20] ولا فضله بممنون، وهذا عدله وقضاؤه {فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون} [الأنبياء:23].

    فسبحان من أفاض على عباده النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وأودع الكتاب الذي كتبه، أن رحمته تغلب غضبه، وتبارك من له في كل شيء على ربوبيته ووحدانيته وعلمه وحكمته أعدل شاهد، ولو لم يكن إلا أن فاضل بين عباده في مراتب الكمال حتى عدل الآلاف المؤلفة منهم بالرجل الواحد، ذلك ليعلم عباده أنه أنـزل التوفيق منازله، ووضع الفضل مواضعه، وأنه يختص برحمته من يشاء وهو العليم الحكيم، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

    أحمده والتوفيق للحمد من نعمه، وأشكره والشكر كفيل بالمزيد من فضله وكرمه وقسمه، وأستغفره وأتوب إليه من الذنوب التي توجب زوال نعمه وحلول نقمه .

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كلمة قامت بها الأرض والسموات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات، وعليها أسست الملة، ونصبت القبلة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وبها أمر الله سبحانه جميع العباد؛ وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، ومفتاح عبوديته التي دعا الأمم على ألسن رسله إليها، وهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام وأساس الفرض والسنة ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة .

    وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، وحجته على عباده، وأمينه على وحيه، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعالمين، ومحجة للسالكين، وحجة على المعاندين، وحسرة على الكافرين، أرسله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وأنعم به على أهل الأرض نعمة لا يستطيعون لها شكورا، فأمده بملائكته المقربين، وأيده بنصره وبالمؤمنين، وأنـزل عليه كتابه المبين، الفارق بين الهدى والضلال والغي والرشاد والشك واليقين، فشرح الله له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، وأقسم بحياته في كتابه المبين، وقرن اسمه باسمه فإذا ذكر ذكر معه كما في الخطب والتشهد والتأذين، وافترض على العباد طاعته ومحبته والقيام بحقوقه، وسد الطرق كلها إليه وإلى جنته فلم يفتح لأحد إلا من طريقه، فهو الميزان الراجح الذي على أخلاقه وأقواله وأعماله توزن الأخلاق والأقوال والأعمال، والفرقان المبين الذي باتباعه تميز أهل الهدى من أهل الضلال، ولم يزل صلى الله عليه وعلى آله وسلم مشمرا في ذات الله تعالى لا يرده عنه راد، صادعا بأمره لا يصده عنه صاد، إلى أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، وتألفت به القلوب بعد شتاتها، وامتلأت به الأرض نورا وابتهاجا، ودخل الناس في دين الله أفواجا، فلما أكمل الله تعالى به الدين، وأتم به النعمة على عباده المؤمنين، استأثر به ونقله إلى الرفيق الأعلى، والمحل الأسنى، وقد ترك أمته على المحجة البيضاء، والطريق الواضحة الغراء، فصلى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله والصالحون من عباده عليه وآله كما وحد الله وعرَّف به ودعا إليه وسلم تسليما كثيرا .

    أشرف العلوم ومن أين يقتبس

    أما بعد فإن أولى ما يتنافس فيه المتنافسون، وأحرى ما يتسابق في حلبة سباقه المتسابقون، ما كان بسعادة العبد في معاشه ومعاده كفيلا، وعلى طريق هذه السعادة دليلاً، وذلك العلم النافع والعمل الصالح اللذان لا سعادة للعبد إلا بهما، ولا نجاة له إلا بالتعلق بسببهما، فمن رُزقهما فقد فاز وغنم، ومن حرمهما فالخير كله حرم، وهما مورد انقسام العباد إلى مرحوم ومحروم، وبهما يتميز البر من الفاجر والتقي من الغوي والظالم من المظلوم، ولما كان العلم للعمل قرينا وشافعا، وشرفه لشرف معلومه تابعا، كان أشرف العلوم على الإطلاق علم التوحيد، وأنفعها علم أحكام أفعال العبيد، ولا سبيل إلى اقتباس هذين النورين، وتلقي هذين العلمين، إلا من مشكاة من قامت الأدلة القاطعة على عصمته، وصرحت الكتب السماوية بوجوب طاعته ومتابعته، وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، {إن هو إلا وحي يوحى} [النجم:4].

    نوعا التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

    ولما كان التلقي عنه صلى الله عليه وآله وسلم على نوعين نوع بواسطة، ونوع بغير واسطة، وكان التلقي بلا واسطة حظ أصحابه الذين حازوا قصبات السباق، واستولوا على الأمد فلا مطمع لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق، ولكن المبرز من اتبع صراطهم المستقيم، واقتفى منهاجهم القويم والمتخلف من عدل عن طريقهم ذات اليمين وذات الشمال، فذلك المنقطع التائه في بيداء المهالك والضلال.

    ما كان عليه الصحابة من علم وعمل

    فأي خصلة خير لم يسبقوا إليها؟ وأي خطة رشد لم يستولوا عليها؟ تالله لقد وردوا رأس الماء من عين الحياة عذبا صافيا زلالا، وأطَّدوا قواعد الإسلام فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالا، فتحوا القلوب بعَدْلهم بالقرآن والإيمان، والقرى بالجهاد بالسيف والسنان، وألقوا إلى التابعين ما تلقوه من مشكاة النبوة خالصا صافيا، وكان سندهم فيه عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم عن جبريل عن رب العالمين سندا صحيحا عاليا، وقالوا هذا عهد نبينا إلينا وقد عهدنا إليكم، وهذه وصية ربنا وفرضه علينا وهي وصيته وفرضه عليكم، فجرى التابعون لهم بإحسان على منهاجهم القويم، واقتفوا على آثارهم صراطهم المستقيم، ثم سلك تابعوا التابعين هذا المسلك الرشيد، {وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد} [الحج:24]، وكانوا بالنسبة إلى من قبلهم كما قال أصدق القائلين (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين) [الواقعة: 13-14].

    وقوف الأئمة والتابعين مع الحجة والاستدلال

    ثم جاءت الأئمة من القرن الرابع المُفَضَّل في إحدى الروايتين، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد وابن مسعود وأبي هريرة وعائشة وعمران ابن حصين، فسلكوا على آثارهم اقتصاصا، واقتبسوا هذا الأمر عن مشكاتهم اقتباسا، وكان دين الله سبحانه أجلُّ في صدورهم، وأعظم في نفوسهم، من أن يقدموا عليه رأيا أو معقولا أو تقليدا أو قياسا، فطار لهم الثناء الحسن في العالمين، وجعل الله سبحانه لهم لسان صدق في الآخرين، ثم سار على آثارهم الرعيل الأول من أتباعهم، ودرج على منهاجهم الموفَّقُون من أشياعهم، زاهدين في التعصب للرجال، واقفين مع الحجة والاستدلال، يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه، ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه، إذا بَدَا لهم الدليل بأخذته طاروا إليه زرافات ووحدانا، وإذا دعاهم الرسول إلى أمر انتدبوا إليه ولا يسألونه عما قال برهانا، ونصوصه أجلّ في صدورهم وأعظم في نفوسهم من أن يقدموا عليها قول أحد من الناس، أو يعارضوها برأي أو قياس.

    ليس المتعصب من العلماء

    ثم خَلَفَ من بعدهم خُلُوف {فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون} [الروم:22] تقطعوا أمرهم بينهم زبرا وكل إلى ربهم راجعون، وجعلوا التعصب للمذاهب ديانتهم التي بها يدينون، ورؤوس أموالهم التي بها يَتَّجرون، وآخرون منهم قنعوا بمحض التقليد وقالوا (إنا وجدنا آباءنا على أُمة وإنّا على آثارهم مقتدون) [الزخرف: 23]، والفريقان بمعزل عما ينبغي اتباعه من الصواب، ولسان الحق يتلوا عليهم (ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب) [النساء: 123]، قال الشافعي قدس الله تعالى روحه أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس، قال أبو عمر وغيره من العلماء أجمع الناس على أن المقلد ليس معدودا من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله، وهذا كما قال أبو عمر رحمه الله تعالى، فإن الناس لا يختلفون أن العلم هو المعرفة الحاصلة عن الدليل، وأما بدون الدليل فإنما هو تقليد.

    فقد تضمن هذان الإجماعان إخراج المتعصب بالهوى والمقلد الأعمى عن زمرة العلماء، وسقوطهما باستكمال مَنْ فوقهما الفروض من وراثة الأنبياء.

    العلماء ورثة الأنبياء

    فإن العلماء هم ورثة الأنبياء، فإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم ،فمن أخذه أخذ بحظ وافر، وكيف يكون من ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم من يجهد ويكدح في رد ما جاء به إلى قول مُقَلِّده ومتبوعه، ويضيع عليه ساعات عمره في التعصب والهوى ولا يشعر بتضييعه؟.

    فتنة التعصب والمتعصبين

    تالله إنها فتنة عَمَّتْ فأعْمَتْ، ورمت القلوب فأصْمَتْ، ربى عليها الصغير، وهَرِمَ فيها الكبير، واتخذ لأجلها القرآن مهجورا، وكان ذلك بقضاء الله وقدره في الكتاب مسطورا، ولما عمت بها البلية، وعظمت بسببها الرزية، بحيث لا يعرف أكثر الناس سواها، ولا يعدُّونَ العلم إلا إياها، فطالِبُ الحق من مظانه لديهم مفتون، مؤثره على ما سواه عندهم مغبون، نصبوا لمن خالفهم في طريقتهم الحبائل، وبغوا له الغوائل، ورموه عن قوس الجهل والبغي والعناد، وقالوا لإخوانهم {إنى أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد}[غافر:26]

    فحقيق بمن لنفسه عنده قدر وقيمة، ألاَّ يلتفت إلى هؤلاء ولا يرضى لها بما لديهم، وإذا رُفِعَ له علم السنة النبوية شَمَّرَ إليه ولم يَحْبِس نفسه عليهم، فما هي إلا ساعة حتى يُبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، وتتساوى أقدام الخلائق في القيام لله، وينظر كل عبد ما قدمت يداه، ويقع التمييز بين المحقين والمبطلين، ويعلم المعرضون عن كتاب ربهم وسنة نبيهم أنهم كانوا كاذبين.

    فصل علماء الأمة على ضربين

    ولما كانت الدعوة إلى الله عز وجل والتبليغ عن رسوله صلى الله عليه وسلم شعار حزبه المفلحين، وأتباعه من العالمين، كما قال تعالى {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} [يوسف: 108] وكان التبليغ عنه نوعين تبليغ ألفاظ ما جاء به وتبليغ معانيه كان العلماء من أمته منحصرين في قسمين أحدهما حفاظ الحديث، وجهابذته، ونقاده الذين هم أئمة الأنام وزوامل الإسلام، الذين حفظوا على الأئمة معاقد الدين ومعاقله، وحموا من التغيير والتكدير موارده ومناهله، حتى ورد من سبقت له من الله الحسنى تلك المناهل صافية من الأدناس لم تشبها الآراء تغييرا، ووردوا فيها {عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا} [الإنسان:6] وهم الذين قال فيهم الإمام أحمد بن حنبل قدس الله روحه في خطبته المشهورة في كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية:

    الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه؟ وكم من ضال تائه قد هَدَوْه؟ فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جُهّال الناس بما يُشَبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتنة المُضِلِّينَ.

    فصل فقهاء الإسلام ومنــزلتهم

    فصل: القسم الثاني فقهاء الإسلام، ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خُصُّوا باستنباط الأحكام، وعُنُوا بضبط قواعد الحلال والحرام، فهم في الأرض بمنـزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفْرَضُ عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب، قال الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } [النساء: 59].

    من هم أولوا الأمر

    قال عبد الله بن عباس في إحدى الروايتين عنه وجابر بن عبد الله والحسن البصري وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح والضحاك ومجاهد بن جبر في إحدى الروايتين عنه أولو الأمر هم العلماء، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد: وقال أبو هريرة وابن عباس في الرواية الأخرى وزيد بن أسلم والسدي ومُقاتل هم الأمراء، وهو الرواية الثانية عن أحمد.

    متى تجب طاعة أولي الأمر

    والتحقيق أن الأمراء إنما يُطاعون إذا أمَروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء؛ فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء، ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء، وكان الناس كلهم تبعاً، كان صلاحُ العالم بصلاح هاتين الطائفتين، وفساده بفسادهما، كما قال عبد الله بن المبارك وغيره من السلف صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس، قيل من هم؟ قال الملوك، والعلماء. كما قال عبد الله بن المبارك:

    رأيت الذنوب تميت القلوب * وقد يورث الذل إدمانها

    وترك الذنوب حياة القلوب * وخيْرٌ لنفسك عصيانها

    وهل أفسد الدين إلا الملوك * و أحبار سوء ٍ و رهبانها

    [صفات المبلغين عن الرسول]

    فصل: ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ، والصدق فيه، لم تصلح مرتبة البليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالما بما يبلغ، صادقا فيه، ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضِيَّ السيرة، عدلا في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله؛ وإذا كان مَنْصِبُ التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا يُنْكَر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات؟ فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يُعِدَّ له عدته، وأن يتأهب له أُهبته، وأن يعلم قَدْرَ المقام الذي أقيم فيه، و لا يكون في صدره حرج من قول الحق والصَّدْع به؛ فإن الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب) [النساء: 127] وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفا وجلالة؛ إذ يقول في كتابه (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) [النساء: 176]، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤول غدا ومَوْقُوف بين يدي الله.

    منصب النبي في التبليغ والإفتاء

    فصل: وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين, وإمام المتقين، وخاتم النبيين, عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه, وسفيره بينه وبين عباده, فكان يفتي عن الله بوحيه المبين, وكان كما قال له أحكم الحاكمين (قل ما أسألكم عليه من أجر, وما أنا من المتكلفين) [ص:86] فكانت فتاويه صلى الله عليه وسلم جوامع الأحكام, ومشتملة على فصل الخطاب, وهي في وجوب اتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب, وليس لأحد من المسلمين العدول عنها ما وجد إليها سبيلا، وقد أمر الله عباده بالرد إليها حيث يقول (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول, إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر, ذلك خير وأحسن تأويلا) [النساء: 59].

    الصحابة الذين قاموا بالفتوى بعده صلى الله عليه وسلم

    فصل: ثم قام بالفتوى بعده بَرْكُ الإسلام وعصابة الإيمان, وعسكر القرآن, وجند الرحمن, أولئك أصحابه صلى الله عليه وسلم، ألين الأمة قلوبا, وأعمقها علما, وأقلها تكلفا, وأحسنها بيانا, وأصدقها إيمانا، وأعمها نصيحة, أقربها إلى الله وسيلة، وكانوا بين مكثر منها, ومقل ومتوسط.

    المكثرون من الصحابة

    والذين حُفِظَتْ عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ونيف وثلاثون نفسا، ما بين رجل وامرأة، وكان المكثرون منهم سبعة عمر بن الخطاب, وعلي بن أبي طالب, وعبد الله بن مسعود, وعائشة أم المؤمنين, وزيد بن ثابت, وعبد الله ابن عباس, وعبد الله بن عمر.

    و قال أبو محمد بن حزم ويمكن أن يُجمع من فتوى كل واحد منهم سِفْر ضخم.

    قال وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن أمير المؤمنين المأمون فتيا عبد الله بن عباس رضى الله عنهما في عشرين كتابا.

    وأبو بكر محمد المذكور أحد أئمة الإسلام في العلم و الحديث.

    المتوسطون

    فصل: قال أبو محمود و المتوسطون منهم فيما روي عنهم من الفتيا أبو بكر الصديق, وأم سلمة, وأنس بن مالك, وأبو سعيد الخدري, وأبو هريرة, وعثمان بن عفان, وعبد الله بن عمرو بن العاص, وعبد الله بن الزبير, وأبو موسى الأشعري, وسعد بن أبي وقاص, وسلمان الفارسي, وجابر بن عبد الله, ومعاذ بن جبل, فهؤلاء ثلاثة عشر يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم جزء صغير جدا, ويضاف إليهم طلحة، و الزبير, وعبد الرحمن بن عوف, وعمران بن حصين، وأبو بكرة, وعبادة بن الصامت, ومعاوية بن أبي سفيان.

    المقلون في الفتيا

    الباقون منهم مقلون في الفتيا، لا يروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان, والزيادة اليسيرة عن ذلك, يمكن أن يجمع من فتيا جميعهم جزء صغير فقط بعد التقصي والبحث, وهم أبو الدرداء، وأبو اليَسَر, وأبو سلمة المخزومي, وأبو عبيدة بن الجراح, وسعيد بن زيد, والحسن والحسين ابنا علي, والنعمان ابن بشير, وأبو مسعود, وأبي بن كعب, وأبو أيوب, وأبو طلحة, وأبو ذر, وأم عطية, وصفية أم المؤمنين, وحفصة, وأم حبيبة, وأسامة بن زيد, وجعفر بن أبي طالب, والبراء ابن عازب, وقُرَظة بن كعب, ونافع أخو أبي بكرة لأمه, والمقداد ابن الأسود, وأبو السنابل, والجارود، والعبدي, وليلى بنت قائف, وأبو محذورة, وأبو شريح الكعبي, وأبو برزة الأسلمي, وأسماء بنت أبي بكر, وأم شريك, والخَوْلاء بنت تُوَيْت, وأسيد بن الحضير, والضحاك بن قيس, وحبيب بن مسلمة, وعبد الله بن أُنيس, وحذيفة بن اليمان, وثمامة بن أثال, وعمار بن ياسر, وعمرو بن العاص, وأبو الغادية السلمي, وأم الدرداء الكبرى, الضحاك بن خليفة المازني, والحكم بن عمرو الغفاري, ووابصة بن معبد الأسدي, وعبد الله بن جعفر البرمكي, وعوف بن مالك, وعدي بن حاتم, وعبد الله بن أوفى, وعبد الله بن سلام, وعمرو بن عبسة, وعتاب بن أسيد, وعثمان بن أبي العاص, وعبد الله بن سرجس, وعبد الله بن رواحة, وعقيل بن أبي طالب, وعائذ بن عمرو, وأبو قتادة عبد الله بن معمر العدوي, (وعمير بن سعد)، وعبد الله بن أبي بكر الصديق, وعبد الرحمن أخوه, وعاتكة بنت زيد بن عمرو, وعبد الله بن عوف الزهري, وسعد بن معاذ, وسعد بن عبادة, وأبو منيب, وقيس بن سعد, وعبد الرحمن بن سهل, وسَمُرة بن جندب, وسهل بن سعد الساعدي, وعمرو بن مُقَرن, وسويد بن مقرن, ومعاوية بن الحكم, وسهلة بنت سهيل, وأبو حذيفة بن عتبة, وسلمة بن الأكوع, وزيد بن أرقم, وجرير بن عبد الله البجلي, وجابر بن سلمة، وجويرية أم المؤمنين, وحسان بن ثابت, وحبيب بن عدي, وقدامة بن مظعون, وعثمان بن مظعون, وميمونة أم المؤمنين, ومالك بن الحويرث, وأبو أمامة الباهلي, ومحمد بن مسلمة, وخباب بن الأرت, وخالد بن الوليد, وضمرة بن الفيض, وطارق بن شهاب, وظهير بن رافع, ورافع بن خديج, وسيدة نساء العالمين فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفاطمة بنت قيس, وهشام بن حكيم بن حزام, وأبوه حكيم بن حزام, وشرحبيل بن السِّمْط, وأم سلمة, ودحية بن خليفة الكلبي, وثابت بن قيس بن الشماس, وثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم, والمغيرة بن شعبة, وبريدة بن الخصيب الأسلمي, و رُويفع بن ثابت, وأبو حميد, وأبو أسيد, وفضالة بن عبيد, وأبو محمد روينا عنه وجوب الوتر ـ قلت أبو محمد هو مسعود بن الأنصاري، نجاريّ بدريّ ـ وزينب بنت أم سلمة, وعتبة بن مسعود, وبلا ل المؤذن, وعروة بن الحارث, وسياه بن روح أو روح بن سياه, وأبو سعيد بن المعَلِّي, والعباس بن عبد المطلب, وبشر بن أرطأة, وصهيب بن سنان, وأم أ يمن, وأم يوسف, والغامدية, وماعز، وأبو عبد الله البصري.

    فهؤلاء من نقلت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أدري بأي طريق عدَّ معهم أبو محمد الغامدية وماعزا، ولعله تخيل أن إقدامهما على جواز الإقرار بالزنا من غير استئذان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك هو فتوى لأنفسهما بجواز الإقرار, وقد أقِرَّ عليها, فإن كان تخيل هذا فما أبعده من خيال!! أو لعله ظفر عنهما بفتوى في شيء من الأحكام.

    سادة المفتين والعلماء: الصحابة

    فصل: وكما أن الصحابة سادة الأمة و أئمتها وقادتها, فهم سادات المفتين والعلماء.

    قال الليث عن مجاهد: العلماء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وقال سعيد عن قتادة في قوله تعالى (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنـزل إليك من ربك هو الحق) [سبأ: 6] قال: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

    أعظم الصحابة علما

    وقال يزيد بن عمير لما حضر معاذ بن جبل الموت قيل يا أبا عبد الرحمن أوصنا, قال أجلسوني, إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما، يقول ذلك ثلاث مرات، إلتمس العلم عند أربعة رهط عند عويمر بن أبي الدرداء، وعند سلمان الفارسي، وعند عبد الله بن مسعود، وعند عبد الله بن سلام.

    وقال مالك بن يُخامر لما حضرت معاذاً الوفاة بكيت، فقال ما يبكيك؟ قلت والله ما أبكي على دنيا كنت أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذين كنت أتعلمهما منك، فقال إن العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما، اطلب العلم عند أربعة، فذكر هؤلاء الأربعة، ثم قال فإن عجز عنه هؤلاء فسائر أهل الأرض عنه أعجز، فعليك بمعلِّم إبراهيم، قال فما نـزلت بي مسألة عجزت عنها إلا قلت يا معلم إبراهيم.

    وقال أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي إسحاق، قال قال عبد الله علماء الأرض ثلاثة، فرجل بالشام، وآخر بالكوفة، وآخر بالمدينة، فأما هذان فيسألان الذي بالمدينة، والذي بالمدينة لا يسألهما عن شيء.

    وقال الشعبي ثلاثة يستفتي بعضهم من بعض فكان عمر وعبد الله وزيد بن ثابت يستفتي بعضهم من بعض، وكان علي وأبيّ بن كعب وأبو موسى الأشعري يستفتي بعضهم من بعض، قال الشيباني فقلت للشعبي وكان أبو موسى بذاك؟ فقال ما كان أعلمه، قلت فأين معاذ؟ فقال هلك قبل ذلك.

    وقال أبو البختري قيل لعلي بن أبي طالب حدثنا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عن أيهم؟ قال عن عبد الله بن مسعود، قال قرأ القرآن، وعلم السنة، ثم انتهى، وكفاه بذلك؛ قال فحدثنا عن حذيفة؛ قال أعلم أصحاب محمد بالمنافقين، قالوا فأبو ذر، قال كُنَيِّف ملئ علما ًعجز فيه، قالوا فعمار، قال مؤمن نَسِيّ إذا ذكرته ذكر، خلط الله الإيمان بلحمه ودمه، ليس للنار فيه نصيب، قالوا فأبو موسى، قال صبغ في العلم صبغة، قالوا فسلمان، علم العلم الأول والآخر، بحر لا ينـزح، منا أهل البيت، قالوا فحدثنا عن نفسك يا أمير المؤمنين، قال إياها أردتم، كنت إذا سُئِلْت أعْطيت، وإذا سكتُّ ابْتُدِيت.

    وقال مسلم عن مسروق شاممت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ فوجدت علمهم ينتهي إلى ستة إلى علي، وعبد الله، وعمر، و زيد بن ثابت، وأبي الدرداء، وأبي بن كعب، ثم شاممت الستة فوجدت علمهم انتهى إلى علي وعبد الله.

    وقال مسروق أيضاً جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فكانوا كالإخَاذِ الإخاذة تروي الراكب، والإخاذة تروي الراكبين والإخاذة تروي العشرة، والإخاذة لو نـزل بها أهل الأرض لأصدرتهم، وإن عبد الله من تلك الإخاذة.

    وقال الشعبي إذا اختلف الناس في شيء فخذوا بما قال عمر.

    وقال ابن مسعود إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم.

    وقال أيضاً لو أن علم عمر وضع في كفة الميزان ووضع علم أهل الأرض في كفة لرجح علم عمر.

    وقال حذيفة كأن علم الناس مع علم عمر دُسَّ في جحر.

    وقال سعيد بن المسيب كان عمر يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن.

    وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود بأنه عليم مُعَلم، وبدأ به في قوله (خذوا القرآن من أربعة من ابن أم عبد، ومن أبي بن كعب، ومن سالم مولى بن أبي حذيفة، ومن معاذ بن جبل).

    ولما ورد أهل الكوفة على عمر أجازهم، وفضل أهل الشام عليهم في الجائزة، فقالوا يا أمير المؤمنين تفضل أهل الشام علينا؟ فقال يا أهل الكوفة أجزعتم أن فضلت أهل الشام عليكم لبعد شقتهم وقد آثرتكم بابن أم عبد؟ وقال عقبة بن عمرو ما أرى أحداً أعلم بما أنـزل على محمد صلى الله عليه وسلم من عبد الله، فقال أبو موسى إن تقل ذلك فإنه كان يسمع حين لا نسمع، ويدخل حين لا ندخل.

    وقال عبد الله ما أنـزلت سورة إلا وأنا أعلم فيم أنـزلت، ولو أني أعلم أن رجلاً أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته.

    وقال زيد بن وهب كنت جالساً عند عمر فأقبل عبد الله فدنا منه، فأكب عليه وكلمه بشيء، ثم انصرف، فقال عمر كُنَيّفٌ ملئ علماً.

    وقال الأعمش عن إبراهيم إنه كان لا يعدل بقول عمر و عبد الله إذا اجتمعا، فإذا اختلفا كان قول عبد الله أعجب إليه، لأنه كان ألطف.

    وقال أبو موسى لَمَجْلِسٌ؛ كنت أجالسه عبد الله أوثق في نفسي من عمل سنة.

    وقال عبد الله بن بريدة في قوله تعالى (حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً) [محمد:16] قال هو عبد الله بن مسعود.

    فضل عائشة

    وقيل لمسروق كانت عائشة تحسن الفرائض؟ قال والله لقد رأيت الأحبار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونها عن الفرائض.

    وقال أبو موسى ما أشكل علينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حديث قط فسألناه عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً.

    عود إلى أفضل الصحابة علماً

    وقال ابن سيرين كانوا يرون أن أعلمهم بالمناسك عثمان بن عفان، ثم ابن عمر بعده.

    وقال شهر بن حوشب كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا تحدثوا وفيهم معاذ نظروا إليه هيبة له.

    وقال علي أبو ذر أوعى علماً ثم أوْكى عليه فلم يخرج منه شيئاً حتى قبض.

    وقال مسروق قدمت المدينة فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم.

    وقال الجريري عن أبي تميمة قدمنا الشام فإذا الناس مجتمعون يُطِيفون برجل، قال قلت من هذا؟ قالوا هذا أفقه من بقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، هذا عمرو البكالي.

    وقال سعيد قال ابن عباس وهو قائم على قبر زيد بن ثابت هكذا يذهب العلم.

    فضل ابن عباس

    وكان ميمون بن مهران إذا ذكر ابن عباس وابن عمر عنده يقول ابن عمر أورعهما، وابن عباس أعلمهما. وقال أيضاً ما رأيت أفقه من ابن عمر، ولا أعلم من ابن عباس.

    وكان ابن سيرين يقول (اللهم أبقني ما أبقيت ابن عمر أقتدي به).

    وقال ابن عباس ضَمَّني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال (اللهم علمه الحكمة). وقال أيضاً دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح على ناصيتي، و قال (اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب).

    ولما مات ابن عباس قال محمد بن الحنفية مات ربانيّ هذه الأمة.

    وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ما رأيت أحداً أعلم بالسنة، ولا أجلد رأياً، ولا أثقب نظراً حين ينظر مثل ابن عباس، و إن كان عمر بن الخطاب ليقول له قد طرأت علينا عُضَلُ أقضية أنت لها و لأمثالها.

    وقال عطاء بن أبي رباح ما رأيت مجلساً قط أكرم من مجلس ابن عباس أكثر فقهاً وأعظم، إن أصحاب الفقه عنده وأصحاب القرآن وأصحاب الشعر عنده يُصْدِرهم كلهم في واد واسع.

    وقال ابن عباس كان عمر بن الخطاب يسـألني مع الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وقال ابن مسعود لو أن ابن عباس أدرك أسناننا ما عسره منا رجل.

    وقال مكحول قيل لابن عباس أنى أصبت هذا العلم؟ قال بلسان سَئُول وقلب عقول.

    وقال مجاهد كان ابن عباس يُسَمَّى البحر من كثرة علمه.

    وقال طاوس أدركت نحواً من خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر ابن عباس شيئاً فخالفوه لم يزل بهم حتى يقررهم.

    وقيل لطاوس أدركت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثم انقطعت إلى ابن عباس! فقال أدركت سبعين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا تدارءوا في شيء انتهوا إلى قول ابن عباس.

    وقال ابن أبي نجيح كان أصحاب ابن عباس يقولون ابن عباس أعلم من عمر ومن علي ومن عبد الله، ويعدون ناساً، فيثب عليهم الناس، فيقولون لا تعجلوا علينا، إنه لم يكن أحد من هؤلاء إلا وعنده من العلم ما ليس عند صاحبه، وكان ابن عباس قد جمعه كله.

    وقال الأعمش كان ابن عباس إذا رأيته قلت أجمل الناس فإذا تكلم قلت أفصح الناس، فإذا حدث قلت أعلم الناس.

    وقال مجاهد كان ابن عباس إذا فسر الشيء رأيت عليه النور.

    مكانة عمر بن الخطاب العلمية

    فصل: قال الشعبي من سره أن يأخذ بالوثيقة في القضاء فليأخذ بقول عمر. وقال مجاهد إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما صنع عمر فخذوا به. وقال ابن المسيب ما أعلم أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم من عمر بن الخطاب. وقال أيضاً كان عبد الله يقول لو سلك الناس وادياً وشعباً وسلك عمر وادياً وشعباً لسلكت وادي عمر وشعبه. وقال بعض التابعين دفعت إلى عمر فإذا الفقهاء عنده مثل الصبيان، قد استعلى عليهم في فقهه وعلمه. وقال محمد بن جرير لم يكن أحد له أصحاب معروفون حَرَّروا فتياه ومذاهبه في الفقه غير ابن مسعود، وكان يترك مذهبه وقوله لقول عمر، وكان لا يكاد يخالفه في شيء من مذاهبه، ويرجع من قوله إلى قوله. وقال الشعبي كان عبد الله لا يَقْنُت، وقال ولو قنت عمر لقنت عبد الله.

    مكانة عثمان وعلي العلمية

    فصل: وكان من المفتين عثمان بن عفان، قال ابن جرير غير أنه لم يكن له أصحاب يعرفون، والمبلغون عن عمر فتياه ومذاهبه وأحكامه في الدين بعده كانوا أكثر من المبلغين عن عثمان والمؤدين عنه.

    وأما علي بن أبي طالب عليه السلام فانتشرت أحكامه وفتاويه؛ ولكن قاتل الله الشيعة فإنهم أفسدوا كثيراً من علمه بالكذب عليه، ولهذا تجد أصحاب الحديث من أهل الصحيح لا يعتمدون من حديثه وفتواه إلا ما كان من طريق أهل بيته و أصحاب عبد الله بن مسعود كعبيدة السلماني وشريح وأبي وائل ونحوهم، وكان رضي الله عنه وكرم وجهه يشكو عدم حَمَلة العلم الذي أودعه كما قال إن ههنا علماً لو أصبت له حملة.

    الصحابة الذين انتشر عنهم الدين والفقه في الأمة

    فصل: والدين والفقه والعلم انتشر في الأمة عن أصحاب ابن مسعود، وأصحاب زيد بن ثابت، وأصحاب عبد الله بن عمر، وأصحاب عبد الله بن عباس؛ فعلم الناس عامته عن أصحاب هؤلاء الأربعة؛ فأما أهل المدينة فعلمهم عن أصحاب زيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وأما أهل مكة فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن عباس، وأما أهل العراق فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن مسعود.

    قال ابن جرير وقد قيل إن ابن عمر وجماعة ممن عاش بعده بالمدينة من أصحاب بالمدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانوا يفتون بمذاهب زيد ثابت, وما كانوا أخذوا عنه مما لم يكونوا حفظوا فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا.

    وقال ابن وهب حدثني موسى بن علي اللخمي عن أبيه أن عمر بن الخطاب خطب الناس بالجابية, فقال من أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت, ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل, ومن أراد المال فليأتني.

    الآخذون عن عائشة

    وأما عائشة فكانت مُقَدَّمة في العلم والفرائض والأحكام والحلال والحرام, وكان من الآخذين عنها، الذين لا يكادون يتجاوزون قولها، المتفقهين بها: القاسم بن محمد بن أبي بكر ابن أخيها, وعروة بن الزبير ابن أختها أسماء.

    قال مسروق: لقد رأيت مَشْيَخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونها عن الفرائض.

    وقال عروة بن الزبير: ما جالستُ أحدا قط كان أعلم بقضاء ولا بحديثٍ بالجاهلية ولا أروى للشعر ولا أعلم بفريضة ولا طب من عائشة.

    فقهاء التابعين

    فصل: ثم صارت الفتوى في أصحاب هؤلاء: كسعيد بن المسيب راوية عمر وحامل علمه, قال جعفر بن ربيعة: قلت لعراك بن مالك: من أفقه أهل المدينة؟ قال: أما أفقههم فقها وأعلمهم بقضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقضايا أبي بكر, وقضايا عمر, وقضايا عثمان, وأعلمهم بما مضى عليه الناس سعيد بن المسيب, وأما أغزرهم حديثا فعروة بن الزبير, ولا تشاء أن تَفْجُر من عبيد الله [بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ] بحرا إلا فجرته.

    قال عراك: وأفقههم عندي ابن شهاب, لأنه جمع علمهم إلى علمه, وقال الزهري: كنت أطلب العلم من ثلاثة: سعيد بن المسيب, وكان أفقه الناس, وعروة بن الزبير, وكان بحرا لا تكدره الدِّلاء, وكنت لا تشاء أن تجد عند عبيد الله [بن عبد الله بن عتبة بن مسعود]طريقة من علم لا تجدها عند غيره إلا وجدت.

    الفقهاء الموالي

    وقال الأعمش: فقهاء المدينة أربعة سعيد بن المسيب, وعروة, وقبيصة, وعبد الملك. وقال عبد الرحمن بن زيد أسلم: لما مات العَبَادِلة: عبد الله بن عباس, وعبد الله بن الزبير, وعبد الله بن عمرو بن العاص, صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي, فكان فقيه أهل مكة: عطاء بن أبي رباح, وفقيه أهل اليمن: طاوس, وفقيه أهل اليمامة: يحيى بن أبي كثير, وفقيه أهل الكوفة: إبراهيم, وفقيه أهل البصرة: الحسن, وفقيه أهل الشام: مكحول, وفقيه أهل خراسان: عطاء الخراساني، إلا المدينة فإن الله خصها بقرشي, فكان فقيه أهل المدينة: سعيد بن المسيب غير مُدَافَع.

    قال مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: مررت بعبد الله بن عمر, فسلمت عليه ومضيت, قال فالتفت إلى أصحابه, فقال: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا لسره, فرفع يديه جدا وأشار بيده إلى السماء.

    وكان سعيد بن المسيب صهر أبي هريرة، زَوَّجه أبو هريرة ابنته، وكان إذا رآه قال أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة, ولهذا أكثر عنه من الرواية.

    المفتون في المدينة

    وكان المفتون بالمدينة من التابعين ابن المسيب, وعروة بن الزبير, والقاسم بن محمد, وخارجة بن زيد, وأبا بكر بن عبد الرحمن بن حارث بن هشام, وسليمان بن يسار, وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود, وهؤلاء هم الفقهاء السبعة وقد نظمهم القائل, فقال:

    إذا قيل من في العلم سبعة أبحر* روايتهم ليست عن العلم خارجة

    فقل: هم عبيد الله, عروة, قاسم * سعيد, أبو بكر, سليمان, خارجة

    وكان من أهل الفتوى أبان بن عثمان بن عفان، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، ونافع، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وعلي بن الحسين.

    وبعد هؤلاء أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم, وابناه محمد وعبد الله، وعبد الله بن عمر بن عثمان وابنه محمد, وعبد الله والحسين ابنا محمد بن الحنفية, وجعفر بن محمد بن علي, وعبد الرحمن بن القاسم ابن محمد بن أبي بكر, ومحمد بن المنكدر, ومحمد بن شهاب الزهري، وجمع محمد بن نوح فتاويه في ثلاثة أسفار ضخمة على أبواب الفقه, وخَلْق سوى هؤلاء.

    المفتون بمكة

    فصل: وكان المفتون بمكة عطاء بن أبي رباح, وطاوس بن كيسان, ومجاهد بن جبر, وعبيد بن عمير, وعمرو بن دينار, وعبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة, وعبد الرحمن بن سابط, وعكرمة مولى ابن عباس .

    ثم بعدهم أبو الزبير المكي, وعبد الله بن خالد بن أسيد, وعبد الله بن طاوس.

    ثم بعدهم: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج, وسفيان بن عيينة، وكان أكثر فتواهم في المناسك, وكان يتوقف في الطلاق.

    وبعدهم مسلم بن خالد الزنجي, وسعيد بن سالم القداح.

    وبعدهما الأمام محمد ابن إدريس الشافعي, ثم عبد الله بن الزبير الحميدي, وإبراهيم بن محمد الشافعي ابن عم محمد, وموسى ابن أبي الجارود وغيرهم.

    فقهاء البصرة

    فصل: وكان من المفتين بالبصرة عمرو بن سلمة الجرمي, وأبو مريم الحنفي, وكعب بن سود, والحسن البصري, وأدرك خمس مائة من الصحابة, وقد جمع بعض العلماء فتاويه في سبعة أسفار ضخمة, قال أبو محمد بن حزم: وأبو الشعثاء جابر بن زيد, ومحمد بن سيرين, وأبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي, ومسلم بن يسار, وأبو العالية, وحميد بن عبد الرحمن, ومطرف بن عبد الله بن الشخير, وزرارة ابن أبي أوفى, أبو بردة بن أبي موسى.

    ثم بعدهم أيوب السختياني, وسليمان التيمي, وعبد الله بن عون, ويونس بن عبيد, والقاسم بن ربيعة, وخالد بن أبي عمران, وأشعث بن عبد الملك الحمراني, وقتادة, وحفص بن سليمان, وإياس ابن معاوية القاضي.

    وبعدهم: سوار القاضي, وأبو بكر العتكي, وعثمان بن سليمان البتي, وطلحة بن إياس القاضي, وعبيد الله بن حسن العنبري, وأشعث بن جابر بن زيد.

    ثم بعد هؤلاء: عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي, وسعيد ابن أبي عروبة, وحماد بن سلمة, وحماد بن زيد، وعبد الله بن داود الحرشي, وإسماعيل بن علية, وبشر بن المفضل, ومعاذ بن معاذ العنبري, ومعمر بن راشد, والضحاك بن مخلد, ومحمد بن عبد الله الأنصاري.

    فقهاء الكوفة

    فصل: وكان من المفتين بالكوفة علقمة بن قيس النخعي, والأسود بن يزيد النخعي, وهو عم علقمة, وعمرو بن شرحبيل الهمداني, ومسروق بن الأجدع الهمداني, وعبيدة السلماني, وشريح بن الحارث القاضي, وسليمان بن ربيعة الباهلي, وزيد بن صوحان, وسويد بن غفلة, والحارث بن قيس الجعفي, وعبد الرحمن بن يزيد النخعي, وعبد الله بن عتبة بن مسعود القاضي, وخيثمة بن عبد الرحمن, وسلمة بن صهيب, ومالك بن عامر, وعبد الله بن سَخبرة, وزر بن حبيش, وخلاس بن عمرو, وعمرو بن ميمون الأودي, وهمام بن الحارث, والحارث بن سويد, ويزيد بن معاوية النخعي, والربيع بن خثيم, وعتبة بن فرقد, وصلة بن زفر, وشريك ابن حنبل, وأبو وائل: شقيق بن سلمة, وعبيد بن نضلة. وهؤلاء أصحاب علي وبن مسعود.

    وأكابر التابعين كانوا يفتون في الدين, ويستفتيهم الناس وأكابر الصحابة حاضرون يُجَوِّزُون لهم ذلك, وأكثرهم أخذ عن عمر وعائشة وعلي, ولقي عمرو بن ميمون الأودي معاذ بن جبل، وصحبه، وأخذ عنه، وأوصاه معاذ عند موته أن يلحق بابن مسعود فيصحبه, ويطلب العلم عنده, ففعل ذلك.

    ويضاف إلى هؤلاء أبو عبيدة وعبد الرحمن ابنا عبد الله بن مسعود, وعبد الرحمن بن أبي ليلى, وأخذ عن مائة وعشرين من الصحابة, وميسرة، وزاذان، والضحاك.

    ثم بعدهم إبراهيم النخعي، وعامر الشعبي, وسعيد بن جبير, والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وأبو بكر بن أبي موسى, ومحارب بن دثار, والحكم بن عتيبة, وجبلة بن سحيم وصحب ابن عمر.

    ثم بعدهم حماد بن أبي سليمان, وسليمان بن المعتمر, وسليمان الأعمش, ومسعر بن كدام.

    ثم بعدهم محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الله بن شبرمة, وسعيد بن أشوع, وشريك القاضي, والقاسم بن معن, وسفيان الثوري, وأبو حنيفة، والحسن بن صالح بن يحيى.

    ثم بعدهم حفص بن غياث, و وكيع بن الجراح, وأصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف القاضي, وزُفر بن الهذيل، وحماد بن أبي حنيفة, والحسن بن زياد اللؤلؤي القاضي, ومحمد بن الحسن قاضي الرقة, وعافية القاضي, وأسد بن عمرو, ونوح بن دراج القاضي, وأصحاب سفيان الثوري كالأشجعي, والمعافى ابن عمران, وصاحبي الحسن بن حي الزولي ويحيى بن آدم.

    فقهاء الشام

    فصل: وكان من المفتين بالشام أبو إدريس الخولاني, وشرحبيل بن السمط, وعبد الله بن أبي زكريا الخزاعي, وقَبيصة بن ذُؤَيب الخزاعي, وحبان بن أمية، وسليمان بن حبيب المحاربي, والحارث بن عميرة الزبيدي, وخالد بن معدان, وعبد الرحمن بن غنم الأشعري, وجبير بن نفير.

    ثم كان بعدهم عبد الرحمن بن جبير بن نفير, ومكحول, وعمر بن عبد العزيز, ورجاء بن حيوة, وكان عبد الملك بن مروان يُعَدُّ في المفتين قبل أن يلي ما ولي, وحدير بن كريب.

    ثم كان بعدهم يحيى بن حمزة القاضي, وأبو عبد الرحمن بن عمر وعامر الأوزاعي, وإسماعيل بن أبي المهاجر, وسليمان بن موسى الأموي، وسعيد بن عبد العزيز, ثم مخلد بن الحسين, والوليد بن مسلم, والعباس بن يزيد صاحب الأوزاعي, وشعيب بن إسحاق صاحب أبي حنيفة, وأبو إسحاق الفزاري صاحب ابن المبارك.

    فقهاء مصر

    فصل: في المفتين من أهل مصر يزيد بن أبي حبيب, وبكير بن عبد الله بن الأشج, وبعدهما عمرو بن الحارث, وقال ابن وهب: لوعاش لنا عمرو بن الحارث ما احتجنا معه إلى مالك ولا إلى غيره, والليث بن سعد، وعبيد الله بن أبي جعفر.

    وبعدهم أصحاب مالك كعبد الله بن وهب, وعثمان بن كنانة, وأشهب, وابن القاسم على غلبة تقليده لمالك إلا في الأقل, ثم أصحاب الشافعي كالمزني والبويطي وابن عبد الحكم, ثم غلب عليهم تقليد مالك وتقليد الشافعي، إلا قوما قليلا لهم اختيارات كمحمد بن علي بن يوسف, وأبي جعفر الطحاوي. وكان بالقيروان سحنون بن سعيد،وله كثير من الاختيار, وسعيد بن محمد الحداد.

    وكان بالأندلس ممن له شيء من الاختيار يحيى بن يحيى، وعبد الملك بن حبيب, وبقي بن مخلد, وقاسم بن محمد صاحب الوثائق, تحفظ لهم فتاوٍ يسيرة, وكذلك مسلمة بن عبد العزيز القاضي، ومنذر بن سعيد، قال أبو محمد: وممن أدركنا من أهل العلم على الصفة التي من بلغها استحق الاعتداد به في الاختلاف مسعود بن سليمان، ويوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر.

    فقهاء اليمن

    فصل: وكان باليمن مُطَرِّف بن مازن قاضي صنعاء, وعبد الرزاق بن همام, وهشام بن يوسف، ومحمد بن ثور، وسماك بن الفضل.

    فقهاء مدينة السلام بغداد

    فصل: وكان بمدينة السلام من المفتين خلق كثير, ولما بناها المنصور أقدم إليها من الأئمة والفقهاء والمحدثين بشرا كثيرا, فكان من أعيان المفتين بها أبو عبيد القاسم بن سلام, وكان جبلا نفخ فيه الروح علما وجلالة ونبلا وأدبا, وكان منهم: أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي صاحب الشافعي, وكان قد جالس الشافعي وأخذ عنه, وكان أحمد يعظمه ويقول: هو في سلاح الثوري.

    الإمام أحمد

    وكان بها إمام أهل السنة على الإطلاق أحمد بن حنبل الذي ملأ الأرض علماً وحديثاًَ وسنة، حتى إن أئمة الحديث والسنة بعده هم أتباعه إلى يوم القيامة، وكان رضي الله عنه شديد الكراهة لتصنيف الكتب، وكان يحب تجريد الحديث، ويكره أن يكتب كلامه، ويشتد عليه جداً، فعلم الله حسن نيته وقصده فكتب من كلامه وفتواه أكثر من ثلاثين سفراً، ومنّ الله سبحانه علينا بأكثرها، فلم يفتنا منها إلا القليل، وجمع الخلال نصوصه في الجامع الكبير فبلغ نحو عشرين سِفراً أو أكثر، و رويت فتاويه ومسائله وحدث بها قرنا بعد قرن فصارت إماماً وقدوة لأهل السنة على اختلاف طبقاتهم، حتى إن المخالفين لمذهبه بالاجتهاد والمقلدين لغيره ليُعَظِّمون نصوصه وفتاواه ،ويعرفون لها حقها وقربها من النصوص وفتاوى الصحابة، ومن تأمل فتاواه وفتاوى الصحابة رأى مطابقة كل منهما على الأخرى، ورأى الجميع كأنها تخرج من مشكاة واحدة، حتى إن الصحابة إذا اختلفوا على قولين جاء عنه في المسألة روايتان، وكان تحريه لفتاوى الصحابة كتحري أصحابه لفتاويه ونصوصه، بل أعظم، حتى أنه ليُقدم فتاواهم على الحديث المرسل، قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ في مسائله قلت لأبي عبد الله حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسل برجال ثبت أحب إليك أو حديث عن الصحابة والتابعين متصل برجال ثبت؟ قال أبو عبد الله رحمه الله عن الصحابة أعجب إليّ.

    أصول فتاوى الإمام أحمد بن حنبل

    وكان فتاويه مبنية على خمسة أصول

    أحدها النصوص، فإذا وجد النص أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه كائنا من كان، ولهذا لم يلتفت إلى خلاف عمر في المَبْتُوتة لحديث فاطمة بنت قيس، ولا إلى خلافه في التيمم للجنب لحديث عمار بن ياسر، ولا في استدامة المحرِم الطيبَ الذي تطيب به قبل إحرامه لصحة حديث عائشة في ذلك، ولا إلي خلافه في منع المفرد والقارن من الفسخ إلى التمتع لصحة أحاديث الفسخ، وكذلك لم يلتفت إلى قول علي وعثمان وطلحة وأبي بن كعب في ترك الغُسل من الإكسال لصحة حديث عائشة أنها فعلته هي و رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلا، ولم يلتفت إلى قول ابن عباس وإحدى الروايتين عن علي أن عِدَّةَ المتوفى عنها الحامل أقصى الأجلين؛ لصحة حديث سبيعة الأسلمية، ولم يلتفت إلى قول معاذ ومعاوية في توريث المسلم من الكافر لصحة الحديث المانع من التوارث بينهما، ولم يلتفت إلى قول ابن عباس في الصرف لصحة الحديث بخلافه ولا إلى قوله بإباحة لحوم الحُمر كذلك، وهذا كثير جداً.

    ما أنكره الإمام أحمد عن دعوى الإجماع

    ولم يكن يُقدِّم على الحديث الصحيح عملاً ولا رأياً ولا قياساً و لا قول صاحب ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعا ويقدمونه على الحديث الصحيح، وقد كذَّب أحمد من ادعى هذا الإجماع، ولم يُسغ تقديمه على الحديث الثابت، وكذلك الشافعي أيضاً نصَّ في رسالته الجديدة على أن ما لا يُعلم فيه بخلاف لا يقال له إجماع، ولفظهُ ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعاً، وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل سمعت أبي يقول ما يدَّعي فيه الرجل الإجماع فهو كذب، من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، ما يدريه، ولم ينته إليه؟ فليقل لا نعلم الناس اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي و الأصم، ولكنه يقول لا نعلم الناس اختلفوا، أو لم يبلغني ذلك، هذا لفظه.

    ونصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم أجَلُّ عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث من أن يقدموا عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم بالمخالف، ولو ساغ لتعطلت النصوص، وساغ لكل من لم يعلم مخالفاً في حكم مسألة أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص؛ فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع، لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده.

    الأصل الثاني لأحمد: ما أفتى به الصحابة

    فصل: الأصل الثاني من أصل فتاوى الإمام أحمد ما أفتى به الصحابة، فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يُعرف له مخالف منهم فيها لم يعدها إلى غيرها، ولم يقل إن ذلك إجماع، بل من ورعه في العبارة يقول لا أعلم شيئاً يدفعه، أو نحو هذا، كما قال في رواية أبي طالب لا أعلم شيئاً يدفع قول ابن عباس وابن عمر وأحد عشر من التابعين عطاء ومجاهد و أهل المدينة على تَسَرِّي العبد، وهكذا قال أنس بن مالك لا أعلم أحداً ردَّ شهادة العبد، حكاه عنه الإمام أحمد، وإذا وجد الإمام أحمد هذا النوع عن الصحابة لم يقدم عليه عملاً و لا رأياً ولا قياساً.

    إذا اختلف الصحابة أخذ ما كان أقرب إلى الكتاب والسنة

    فصل: الأصل الثالث من أصوله إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف فيها ولم يجزم بقول.

    قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ في مسائله قيل لأبي عبد الله يكون الرجل في قومه فيسأل عن الشيء فيه اختلاف، قال يفتي بما وافق الكتاب والسنة وما لم يوافق الكتاب والسنة أمسك عنه، قيل له أفيجاب عليه؟ قيل لا.

    الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف

    فصل:الأصل الرابع الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف، إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، وهو الذي رجحه على القياس، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه فالعمل به؛ بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح وقسم من أقسام الحسن، ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح و حسن وضعيف، بل إلى صحيح وضعيف، وللضعيف عنده مراتب، فإذا لم يجد في الباب أثراً يدفعه ولا قول صاحب، ولا إجماع على خلافه كان العمل به عنده أولى من القياس.

    وليس أحَدٌ من الأئمة إلا وهو موافِقُه على هذا الأصل من حيث الجملة، فإنه ما منهم أحد إلا وقد قَدَّم الحديث الضعيف على القياس.

    تقديم أبو حنيفة الضعيف على القياس

    فقدم أبو حنيفة حديث القهقهة في الصلاة على محض القياس، وأجمع أهل الحديث على ضعفه، وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر على القياس، وأكثر أهل الحديث يضعفه، وقدم حديث (أكثر الحيض عشرة أيام) وهو ضعيف باتفاقهم على محض القياس؛ فإن الذي تراه في اليوم الثالث عشر مساوٍ في الحد والحقيقة والصفة لدم اليوم العاشر، وقدم حديث (لا مهر أقل من عشرة دراهم). وأجمعوا على ضعفه، بل بطلانه على محض القياس، فإن بذل الصداق مُعاوضة في مقابلة بذل البُضع، فما تراضيا عليه جاز قليلاً كان أو كثيراً.

    تقديم الشافعي الضعيف على القياس

    وقدم الشافعي خبر تحريم صيد وَجٍّ مع ضعفه على القياس، وقدم خبر جواز الصلاة بمكة في وقت النهي مع ضعفه ومخالفته لقياس غيرها من البلاد، وقدم في أحد قوليه حديث (من قَاءَ أو رُعِفَ فليتوضأ ولْيَبْنِ على صلاته) على القياس مع ضعف الخبر وإرساله.

    تقديم مالك المرسل والمنقطع والبلاغات

    وأما مالك فإنه يقدم الحديث المرسل والمنقطع والبلاغات وقول الصحابي على القياس.

    الأصل الخامس عند أحمد

    فإذا لم يكن عند الإمام أحمد في المسألة نص ولا قول الصحابة أو واحد منهم ولا أثر مرسل أو ضعيف عدل إلى الأصل الخامس. وهو القياس ـ فاستعمله للضرورة ـ وقد قال في كتاب الخلال، سألت الشافعي عن القياس، فقال إنما يصار إليه عند الضرورة، أو ما هذا معناه.

    فهذه الأصول الخمسة من أصول فتاويه، وعليها مدارها، وقد يتوقف في الفتوى؛ لتعارض الأدلة عنده، أو لاختلاف الصحابة فيها، أو لعدم اطلاعه فيها على أثر أو قول أحد من الصحابة أو التابعين.

    وكان شديد الكراهة والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف، كما قال لبعض أصحابه إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام.

    وكان يُسوغ استفتاء فقهاء الحديث وأصحاب مالك، ويدل عليهم، ويمنع من استفتاء من يعرض عن الحديث، ولا يبني مذهبه عليه، و لا يسوغ العمل بفتواه.

    قال ابن هانئ سألت أبا عبد الله عن الذي جاء في الحديث (أجْرَؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار) قال أبو عبد الله رحمه الله يفتي بما لم يسمع، قال وسألته عمن أفتى بفتيا يعيى فيها قال فإثمها على من أفتاها، قلت على أي وجه يفتي حتى يعلم ما فيها؟ قال يفتي بالبحث، لا يدري أيش أصلها.

    وقال أبو داود في مسائله ما أحصى ما سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم فيقول لا أدري، قال وسمعته يقول ما رأيت مثل ابن عُيَيْنة في الفتوى أحسن فتيا منه، كان أهون عليه أن يقول لا أدري.

    وقال عبد الله بن أحمد في مسائله سمعت أبي يقول وقال عبد الرحمن بن مهدي سأل رجل من أهل العرب مالك بن أنس عن مسألة فقال لا أدري فقال يا أبا عبد الله تقول لا أدري؟ قال نعم، فأبلغ مَنْ وراءك أني لا أدري.

    وقال عبد الله كنت أسمع أبي كثيراً يسأل عن المسائل فيقول لا أدري ويقف إذا كانت مسألة فيها اختلاف، وكثيراً ما كان يقول سَل ْ غيري، فإن قيل له من نسأل؟ قال سلوا العلماء، ولا يكاد يسمي رجلا بعينه. قال وسمعت أبي يقول كان ابن عُيَيْنة لا يفتي في الطلاق، ويقول من يحسن هذا؟!

    كراهية السلف التسرع في الفتيا

    فصل: وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى، ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى.

    وقال عبد الله بن المبارك حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أراه قال في المسجد، فما كان منهم مُحَدِّثٌ إلا ودَّ أنَّ أخاه كفاه الحديث، ولا مفتٍ إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.

    وقال الإمام أحمد حدثنا جرير عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منهم رجل يُسْأل عن شيء إلا ودَّ أن أخاه كفاه، ولا يحدث حديثاً إلا ودَّ أن أخاه كفاه.

    عن فتوى الطلاق الثلاث

    وقال مالك عن يحيى بن سعيد أن بكير بن الأشج أخبره عن معاوية بن أبي عياش أنه كان جالساً عند عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر, فجاءهما محمد بن إياس بن البكير فقال إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا فماذا تريان؟ فقال عبد الله بن الزبير إن هذا الأمر ما لنا فيه قول, فاذهب إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم, ثم ائتنا فأخبرنا, فذهبتُ فسألتهما فقال ابن عباس لأبي هريرة أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة, فقال أبو هريرة الواحدة تبينها, والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره.

    عود إلى كراهية السلف الفتيا

    وقال مالك عن يحيى بن سعيد قال قال ابن عباس إن كل من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه لمجنون، قال مالك وبلغني عن ابن مسعود مثل ذلك، رواه ابن وضاح عن يوسف بن عدي عن عبيد بن حميد عن الأعمش عن شقيق عن عبدالله، ورواه حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل عن عبد الله.

    وقال سحنون بن سعيد أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه.

    بم الجرأة على الفتوى

    قلت الجراءة على الفتيا تكون من قلة العلم ومن غزارته وسعته، فإذا قل علمه أفتى عن كل ما يسأل عنه بغير علم، وإذا اتسع علمه اتسعت فتياه، ولهذا كان ابن عباس من أوسع الصحابة فتيا، وقد تقدم أن فتاواه جمعت في عشرين سِفراً، وكان سعيد بن المسيب أيضاً، واسع الفتيا، وكانوا يسمونه الجريء كما ذكر ابن وهب عن محمد بن سليمان المرادي عن أبي إسحاق قال كنت أرى الرجل في ذلك الزمان وإنه ليدخل يسأل عن الشيء فيدفعه الناس عن مجلس إلى مجلس حتى يُدفع إلى مجلس سعيد بن المسيب كراهية الفتيا، قال وكانوا يدعونه سعيد بن المسيب الجريء، وقال سحنون إني لأحفظ مسائل منها ما فيه ثمانية أقوال من ثمانية أئمة من العلماء، فكيف ينبغي أن أعجل بالجواب قبل الخبر؟ فَلِمَ أُلام على حبس الجواب؟.

    من تجوز له الفتيا؟

    وقال ابن وهب حدثنا أشهل بن حاتم عن عبد الله بن عون عن ابن سيرين قال قال حذيفة إنما يفتي الناس أحد ثلاثة من يعلم ما نسخ من القرآن، أو أمير لا يجد بداً، أو أحمق متكلف، قال فربما قال ابن سيرين فلست بواحد من هذين، ولا أحب أن أكون الثالث.

    المقصود بالناسخ عند السلف والخلف

    قلت مراده ومراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ رفع الحكم بجملته تارة وهو اصطلاح المتأخرين، ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة، إما بتخصيص أو تقييد أو حَمْل مطلق على مقيد وتفسيره وتبيينه حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخاً لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد، فالنسخ عندهم وفي لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه، ومن تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه ما لا يحصى، وزال عنه به إشكالات أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر.

    وقال هشام بن حسان عن محمد بن سيرين قال قال حذيفة إنما يفتي الناس أحد ثلاثة رجل يعلم ناسخ القرآن ومنسوخه، وأمير لا يجد بداً، وأحمق متكلف، قال ابن سيرين فأنا لست أحد هذين ،وأرجو أن لا أكون أحمق متكلفاً.

    عود إلى كراهية الأئمة الفتيا

    وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب (جامع فضل العلم) حدثنا خلف بن القاسم ثنا يحيى بن الربيع ثنا محمد بن حماد المصيصي ثنا إبراهيم بن واقد ثنا المطلب بن زياد قال حدثني جعفر بن حسين إمامنا قال رأيت أبا حنيفة في النوم، فقلت ما فعل الله بك يا أبا حنيفة؟ قال غفر لي، فقلت له بالعلم؟ فقال ما أضرَّ الفتيا على أهلها، فقلت فبم؟ قال بقول الناس فيّ ما لم يعلم الله أنه مني، قال أبو عمر وقال سحنون يوماً إنا لله! ما أشقى المفتي والحاكم، ثم قال ها أنذا يتعلم مني ما تُضرب به الرقاب وتُوطأ به الفروج وتُؤخذ به الحقوق ،أما كنت عن هذا غنياً، قال أبو عمر وقال أبو عثمان الحداد القاضي أيْسَرُ مأثماً و أقرب إلى السلامة من الفقيه. يريد المفتي؛ لأن الفقيه من شأنه إصدار ما يرد عليه من ساعته بما حضره من القول، والقاضي شأنه الأناة والتثبت ومن تأنى وتثبت تهيأ له من الصواب ما لا يتهيأ لصاحب البديهة، انتهى.

    وقال غيره المفتي أقرب إلى السلامة من القاضي؛ لأنه لا يلزم بفتواه، وإنما يخبر بها من استفتاه، فإن شاء قبل قوله، وإن شاء تركه. وأما القاضي فإنه يلزم بقوله، فيشترك هو والمفتي في الإخبار عن الحكم، ويتميز القاضي بالإلزام والقضاء؛ فهو من هذا الوجه خطره أشد.

    ما جاء من الوعيد والتخويف في القاضي والمفتي

    ولهذا جاء في القاضي من الوعيد والتخويف ما لم يأت نظيره في المفتي، كما رواه أبو داود الطيالسي من حديث عائشة رضي الله عنها أنها ذكر عندها القضاة فقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (يؤتى بالقاضي العَدْل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة قط) وروى الشعبي عن مسروق عن عبد الله يرفعه (ما من حاكم يحكم بين الناس إلا وُكل به مَلك آخذ بقفاه حتى يقف به على شفير جهنم، فيرفع رأسه إلى الله فإن أمره أن يقذفه قذفه في مهوى أربعين خريفاً). وفي السنن من حديث ابن بريدة عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (القضاة ثلاثة، اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به هو في الجنة، ورجل قضى بين الناس بالجهل فهو في النار، ورجل عرف الحق فجار فهو في النار).

    وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويل لديان من في الأرض من ديان من في السماء، يوم يلقونه، إلا من أمر بالعدل، وقضي بالحق، ولم يقض على هوى، ولا على قرابة، ولا على رَغَب و لا رَهَب، وجعل كتاب الله مرآة بين عينيه. وفي سنن أبي داود من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة، ومن غلب جوره عدله فله النار). وفي سنن البيهقي من حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الله مع القاضي ما لم يَجُرْ، فإذا جار برئ الله منه ولزمه الشيطان) وفيه من حديث حسين المعلم عن الشيباني عن ابن أبي أوفى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار وكَلَه إلى نفسه) وفي السنن الأربعة من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (من قعد قاضياً بين المسلمين فقد ذبح نفسه بغير سكين). وفي سنن البيهقي من حديث أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ويل للأمراء، وويل للعرفاء، وويل للأمناء، ليتمنَّينَّ أقوام يوم القيامة أن نواصيهم كانت معلقة بالثريا يتجلجلون بين السماء والأرض، وأنهم لم يَلوا عملاً).

    وأما المفتي ففي سنن أبي داود من حديث مسلم بن يسار قال سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قال عليّ ما لم أقل فليتبوأ بيتاً في جهنم، ومن أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه ومن أشار على أخيه بأمر يعلم الرشد في غيره فقد خانه) فكل خطر على المفتي فهو على القاضي، وعليه مِنْ زيادة الخطر ما يختص به، ولكن خطر المفتي أعظم من جهة أخرى؛ فإن فتواه شريعة عامة تتعلق بالمستفتي وغيره.

    وأما الحاكم فحكمه جزئي خاص لا يتعدى إلى غيره المحكوم عليه وله؛ فالمفتي يفتي حكماً عاماً كلياً أن من فعل كذا ترتب عليه كذا، ومن قال كذا لزمه كذا، والقاضي يقضي قضاء معيناً على شخص معين، فقضاؤه خاص ملزم، وفتوى العالم عامة غير ملزمة، فكلاهما أجره عظيم، وخطره كبير.

    تحريم القول على الله بغير علم

    فصل: وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها، فقال تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق، وأن تشركوا بالله ما لم ينـزل به سلطاناً، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) [الأعراف:33] فرتَّب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريماً منه وهو الإثم والظلم، ثم ثلث بما هو أعظم تحريماً منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم ربع بما هو أشد تحريماً من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه. وقال تعالى (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون، متاع قليل ولهم عذاب أليم) [النحل: 116-117] فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه، وقولهم لما لم يحرمه هذا حرام، ولما لم يحله هذا حلال، وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا لما علم أن الله سبحانه أحله أو حرمه.

    وقال بعض السلف ليتق أحدكم أن يقول أحل الله كذا، وحرم كذا، فيقول الله له كذبت، لم أحل كذا، ولم أحرم كذا، فلا ينبغي أن يقول لما لا يعلم ورود الوحي المبين بتحليله وتحريمه أحله الله وحرمه الله لمجرد التقليد أو بالتأويل.

    وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أميرَه بريدة أن ينـزل عدوه إذا حاصرهم على حكم الله، وقال (فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا، ولكن أنـزلهم على حكمك وحكم أصحابك) فتأمل كيف فرق بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد، ونهى أن يسمى حكم المجتهدين حكم الله.

    ومن هذا لما كتب الكاتب بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكماً حكم به فقال هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر، فقال لا تقل هكذا ولكن قل هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.

    وقال ابن وهب سمعت مالكاً يقول لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا، ولا أدركت أحداً أقتدي به يقول في شيء هذا حلال، وهذا حرام، ما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون نكره كذا، ونرى هذا حسناً؛ ونتقي هذا و لا نرى هذا، ورواه عنه عتيق بن يعقوب، وزاد ولا يقولون حلال و لا حرام، أما سمعت قول الله تعالى {قل أرأيتم ما أنـزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً، قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون} [يونس: 59] الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله.

    سبب غلط المتأخرين في إطلاق لفظ الكراهة على المحرم ودليله

    قلت وقد غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم بسبب ذلك، حيث تورَّع الأئمة عن إطلاق لفظ التحريم، وأطلقوا لفظ الكراهة، فنفى المتأخرون التحريم عما أطلق عليه الأئمة الكراهة، ثم سَهُل عليهم لفظ الكراهة وخفت مؤنته عليهم فحمله بعضهم على التنـزيه، وتجاوز به آخرون إلى كراهة ترك الأولى، وهذا كثير جداً في تصرفاتهم؛ فحصل بسببه غلط عظيم على الشريعة وعلى الأئمة، وقد قال الإمام أحمد في الجمع بين الأختين بملك اليمين أكرهه، ولا أقول هو حرام، ومذهبه تحريمه، وإنما تورع عن إطلاق لفظ التحريم لأجل قول عثمان.

    وقال أبو القاسم عمر بن الحسين الخرقي فيما نقله عن أبي عبد الله ويكره أن يتوضأ في آنية الذهب والفضة، ومذهبه أنه لا يجوز، وقال في رواية أبي داود ويستحب أن لا يدخل الحمام إلا بمئزر له، وهذا استحباب وجوب، وقال في رواية إسحاق بن منصور إذا كان أكثر مال الرجل حراماً فلا يعجبني أن يؤكل ماله، وهذا على سبيل التحريم.

    وقال في رواية ابنه عبد الله لا يعجبني أكل ما ذُبح للزهرة ولا الكواكب ولا الكنيسة، وكل شيء ذبح لغير الله، قال الله عز وجل (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل لغير الله به) [المائدة: 3] فتأمل كيف قال (لا يعجبني) فيما نص الله سبحانه على تحريمه، واحتج هو أيضاً بتحريم الله له في كتابه، وقال في رواية الأثرم أكره لحوم الجلالة وألبانها، وقد صرح بالتحريم في رواية حنبل وغيره، وقال في رواية ابنه عبد الله أكره أكل لحم الحية والعقرب، لأن الحية لها ناب والعقرب لها حُمَة و لا يختلف مذهبه في تحريمه، وقال في رواية حرب إذا صاد الكلب من غير أن يُرْسَلَ فلا يعجبني؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا أرْسَلْتَ كلبك وسَمَّيت) فقد أطلق لفظه (لا يعجبني) على ما هو حرام عنده، وقال في رواية جعفر بن محمد النسائي لا يعجبني المُكْحُلة والمِرْوَد، يعني من الفضة، وقد صرح بالتحريم في عدة مواضع، وهو مذهبه بلا خلاف؛ وقال جعفر بن محمد أيضاً سمعت أبا عبد الله سُئل عن رجل قال لامرأته كل امرأة أتزوجها أو جارية أشتريها للوطء وأنت حية فالجارية حرة والمرأة طالق، قال إن تزوج لم آمره أن يفارقها، والعتق أخشى أن يلزمه؛ لأنه مخالف للطلاق، قيل له يهب له رجل جارية، قال هذا طريق الحيلة، و كرهه، مع أن مذهبه تحريم الحِيَلِ وأنها لا تخلص من الإيمان، ونص على كراهة البطة من جلود الحمر، وقال تكون ذكية، و لا يختلف مذهبه في التحريم، وسئل عن شعر الخنـزير، فقال لا يعجبني، وهذا على التحريم، وقال يكره القِدُّ من جلود الحمير، ذكياً وغير ذكي، لأنه لا يكون ذكياً، وأكرهه لمن يعمل وللمستعمل؛ وسئل عن رجل حلف لا ينتفع بكذا، فباعه واشترى به غيره، فكره ذلك، وهذا عنده لا يجوز، وسئل عن ألبان الأتُنِ فكرهه وهو حرام عنده، وسئل عن الخمر يتخذ خلاَ فقال لا يعجبني، وهذا على التحريم عنده، وسئل عن بيع الماء، فكرهه، وهذا في أجوبته أكثر من أن يُسْتَقْصَى، وكذلك غيره من الأئمة.

    الحكم على المكروه بأنه حرام

    وقد نص محمد بن الحسن أن كل مكروه فهو حرام، إلا أنه لما لم يجد فيه نصاً قاطعاً لم يطلق عليه لفظ الحرام، وروى محمد أيضاً عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه إلى الحرام أقرب ،وقد قال في الجامع الكبير يكره الشرب في آنية الذهب والفضة للرجال والنساء، ومراده التحريم، وكذلك قال أبو يوسف ومحمد يكره النوم على فرش الحرير والتوسد على وسائده، ومرادهما التحريم، وقال أبو حنيفة وصاحباه يكره أن يلبس الذكور من الصبيان الذهب والحرير، وقد صرح الأصحاب أنه حرام، وقالوا إن التحريم لما ثبت في حق الذكور، وتحريم اللُّبس يحرم الإلْبَاسَ، كالخمر لما حرم شربها حرم سقيها، وكذلك قالوا يكره منديل الحرير الذي يتمخط فيه ويتمسح من الوضوء، ومرادهم التحريم، وقالوا يكره بيع العَذَرَة ،ومرادهم التحريم، وقالوا يكره الاحكتار في أقوات الآدميين والبهائم إذا أضر بهم وضيق عليهم، ومرادهم التحريم، وقالوا يكره بيع السلاح في أيام الفتنة ن ومرادهم التحريم، وقال أبو حنيفة يكره بيع أرض مكة، ومرادهم التحريم عندهم،قالوا ويكره اللعب بالشطرنج، وهو حرام عندهم، قالوا ويكره أن يَجْعَل الرجل في عنق عبده أو غيره طوق الحديد الذي يمنعه من التحرك، وهو الغُلُّ، وهو حرام، وهذا كثير في كلامهم

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1