Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الجسد دليل المستخدمين
الجسد دليل المستخدمين
الجسد دليل المستخدمين
Ebook843 pages6 hours

الجسد دليل المستخدمين

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

الجسد دليل المستخدمين بيل برايسون الجسد – دليل العجائب سوف يذهلك ويجعلك ممتن للخالق قراءة ممتعة مرحة وواضحة تعتمد على الحكايات يكشف عن الآلاف من المهام التي نادراً ما يتم الاعتراف بها والتي تقوم بها أجسامنا دون أن نشعر. . . مليئ بالمعلومات المفيدة والمسلية وأحيانا تكون مقززة (التقبيل، وفقاً لإحدى الدراسات، ينقل ما يصل إلى مليار بكتيريا من فم إلى آخر، إلى جانب 0.2 ميكروغرام من بقايا الطعام). . . برايسون، الذي يضفي أجواء جديرة بالثقة ، رائع في تهدئة المخاوف ودحض الأساطير يقوم بشرح الوظائف المعقدة بطريقة سهلة وممتعة للغاية. الفصول عبارة عن استكشافات قصيرة لعلم التشريح البشري وعلم وظائف الأعضاء والتطور والمرض ( مرض السكري والسرطان والالتهابات ) مدعومة بخلفيات تاريخية. كل فصل عبارة عن دورة مصغرة في علم الأحياء، يتم وضعها في سياق الأحداث الرئيسية في التاريخ ( أي الاكتشافات والعمليات الجراحية والعلاجات ) الفصول المتعلقة بالألم والمرض والموت ستجعلك شديد الامتنان للخالق. على سبيل المثال، “في كل يوم، ما بين خلية إلى خمس خلايا تتحول إلى خلايا سرطانية، ويقوم جهاز المناعة لديك بالتقاطها وقتلها.

Languageالعربية
Publishertevoi
Release dateMay 10, 2024
الجسد دليل المستخدمين

Related to الجسد دليل المستخدمين

Related ebooks

Reviews for الجسد دليل المستخدمين

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الجسد دليل المستخدمين - بيل برايسون

    إهداء

    الى لوتي، اهلا بك أيضا

    أعمال أخرى للكاتب

    القارة المفقودة

    اللغة الأم

    كلمات معضلة

    لا هنا ولا هناك

    صنع في أمريكا

    مذكرات من جزيرة صغيرة

    مسيرة في الغابة

    مذكرات من بلد كبير

    اليوميات الأفريقية

    التاريخ الموجز لكل شيء تقريبا

    حياة وأوقات طفل الرعد

    جنوبا هناك

    شكسبير (سلسلة شخصيات عظيمة)

    قاموس بريسون للكتاب والمحررين في المنزل

    ذات صيف

    الطريق لرحلة صغيرة

    عن الكتاب والكاتب

    هذا دليل للعظمة: قصص مذهلة عن القلب والرئتين والأعضاء مع بعض الغضب ونصائح الحياة ممتزجة بأسلوب بريسون الحميم. الجارديان

    الكتاب رقم 1 في المبيعات والهدية التي تناسب الجميع: صن داي تايمز

    كتاب يفيض بالسلاسة بينما يهزك بالمعلومات الثرية ديلي تليجراف

    أجد في هذا الكتاب المواصفات المثالية لمن يبحث عن قراءة إضافية حيث تمتزج القصص التاريخية المثيرة مع الحقائق الحيوية لجسد الانسان. مراجعة على موقع جينوم البرتا العلمي

    لعل هذه المراجعة الأخيرة هي المفتاح لتذوق هذا الكتاب الثري. فالكاتب الأمريكي البريطاني بيل بريسون لا يبحث عن القارئ السطحي الذي يجمع الحشو من الحقائق الغريبة غير المفيدة كالتي تزخر بها المسابقات التلفزيونية ولا عن القارئ المتخصص الذي يبحث عن منهج علمي معقد يمضي بالترتيب الأكاديمي.

    إنه كتاب لقارئ يريد أن يعرف أكثر عن الحياة، ويفهم أكثر عن نفسه وعن الوجود الإنساني في أدق صوره: عن نفسك الكائنة بداخلك فيما تسميه بالجسد. إذ لا يكتفي بريسون بذكر الحقائق العلمية الجافة بل يربطها بالحياة سواء بأفعالنا اليومية أو عبر المقارنة بغيرنا من الكائنات الحية وينتقل بين وظيفة الأعضاء أو الاكتشافات الفارقة في تاريخنا أو النقائص والمظالم التي كانت بين العلماء الذين أوصلوا لنا هذه المعارف. وفي تنقله فبريسون يمضي بصورة سلسلة مع قدرة مبهرة على الحكي لا يسأم منها القارئ المسافر معه في هذه الرحلة.

    يمكن حقا اعتبار الكتاب هو رحلة أخرى من رحلات المؤلف، فكما سبقها برحلات في موطنه وفي الترحال بين العالم القديم والجديد ثم عبر التاريخ الكوني فهو هنا يخوض رحلة عميقة في داخل الجسد الإنساني. يحكي فيها في نقاط شتى وينتقل بين النقاط والأعضاء والعلماء. لكنه دوما يرجع لحقيقتين أساسيتين يدور حولهما الكتاب (إلى جانب حقائق التشريح والوظائف بالطبع)

    إنهما تلك الحقيقتان القديمتان اللتان نحتاج دوما لتذكرهما: نحن نتاج معجزة الحياة التي يتواضع أمامها كل ما صنعناه من آلات وجمعناه من علوم وأننا لا نحاكي الآلهة فأجسادنا هي أبعد ما تكون عن الكمال. إنها تلك المعادلة المستحيلة التي نتجنا عنها بقدرتنا المبهرة والتي تفوقت على كائنات أعقد وأضخم وحتى على أحدث ما أنتجته علومنا من آلات نعتبرها خارقة وكذلك بضعفنا وعجزنا ونقائصنا الجسدية التي لا نملك لها شيئا. إنه الأمر الذي يجمع بين كوننا خلقنا في أحسن تقويم وأننا خلقنا في كبد ومعاناة. وهذا باختصار ما يجعل الإنسان إنسانا وليس حيواناً أو آلة.

    ولد بيل بريسون 1951 في ولاية أيوا الأمريكية لعائلة تعمل في الصحافة، قطع مؤقتا دراسته الجامعية وارتحل لأوربا ثم استقر في بريطانيا ليعمل في مصحة نفسية ويتزوج من ممرضة بها هي زوجته سينثيا.  التحق بالصحافة لسنوات حتى عمل كمدير تحرير في جريدتي التايمز والاندبندنت. حصل أخيرا على الجنسية البريطانية عام 2015

    كان لبريسون كما يتضح من كتبه اهتمام خاص باللغة والرحلات، فأصدر عدة كتب عن اللغويات مثل اللغة الأم وقاموس بريسون للمحررين الصحفيين وعدد من كتب الرحلات التي حققت له شهرة مثل مذكرات من جزيرة صغيرة ومذكرات من بلد كبير

    ثم نشر عمله الهام: التاريخ الموجز لكل شيء تقريبا، والذي حقق نجاحا فائقا بتناوله لرحلة الكون والمادة عبر الزمن والفيزياء والكمياء بأسلوبه السهل الذي ربط العلوم بحكاياته وتنقلاته الممتعة.

    ثم قدم هذا الكتاب الرائع الذي بين أيدينا والذي يبدأ رحلته مع الإنسان من المستوى الذري حيث يبحث بمرح في تكلفة بناء نسخة من الممثل البريطاني الشهير بندكت كامبرباتش ثم يقفز إلى مظهرنا الخارجي الذي طالما جعل الانسان منه سببا للتفرقة والتمييز ويعرج على الأجهزة الرئيسية للإنسان مثل القلب والرئتين المخ والمناعة ولكن ليس بصورة نمطية رتيبة تتلو دروسا متباينة بل في شبكة واسعة من الحكايات والمعلومات تخلط الإنجازات بالأخطاء والماضي والحاضر وتوقعات المستقبل وكل هذا يرتكز حول الكائن المعجزة الذي ندعوه: أنت!

    لا يختتم بريسون كتابه أو رحلته في الجسد بالحكم أو الخلاصات العلمية المعتادة، وإنما يستغرق في فصوله الأخيرة بالتفكر حول جدوى العلوم وبوصلة الأبحاث والمشاكل التي لا تفرق بين الدول الغنية والفقيرة في رحلة صحفية استقصائية تهم كل قارئ يأمل في غد صحي أفضل. يقدم استقصاءه وهو يتحدث عن الأمراض والأورام والموت والأخطاء الطبية في مزيج فريد لا يتخلى فيه عن روح الصحفي الباحث عن الهموم الحقيقية للأفراد وليس فحسب الأسئلة التي تؤرق العلماء. ولعل السؤال الذي سأله لعالم المناعة الشهير ميتشيل كينش عن أكبر خطر يتهددنا فأجابه بقلة استعدادنا لوباء كالأنفلونزا الأسبانية، وهي الإجابة التي قد نعتبرها نبوءة سبقت انتشار جائحة كوفيد ببضعة شهور، كافية لنفهم قيمة التحري والأسئلة التي طرحها بريون في هذا الكتاب.

    ختاما أرجو أن ترقى الترجمة لتطلعات القارئ العربي. حرصنا على تيسيرها وإخراجها في صورة تحافظ على المحتوى المتميز وتقدمه للقارئ بلغة تربطه بهذه الرحلة العلمية دون مشقة.

    وهنا يجب عليّ أن أوجه الشكر والتقدير لدار الجليس على اختيار وتقديم هذا العمل الهام للقارئ العربي

    كما يجب أن أوجه الشكر لمن دعموني في إتمام الترجمة خاصة د. إيمان الدواخلي، د. مؤمن وهدان، م. منى الدواخلي.

    ونرجو لكم قراءة ممتعة و إبحارا طيبا في عالم الجسد

    محمد الدواخلي..

    1- كيف تبني إنسانا

    كيف يحاكي إلهًا

    وليام شكسبير، هاملت

    منذ زمن بعيد وأنا طالب في المدرسة في أمريكا أتذكر مقولة مدرس الأحياء لنا أن كل المواد الكيمائية التي تصنع جسد الإنسان يمكن شراؤها من متجر المعدات بخمسة دولارات أو ما شبه. لا أذكر المجموع النهائي ربما كان رقما بين 2.97 دولار إلى 13.5 دولاراً لكنه يظل رقما قليلا حتى بأسعار الستينيات، وأتذكر ذهولي أن هذا الكائن المترهل ذا الحبوب يصنع تقريبا من لا شيء.

    كانت حالة من التأمل عميقة مثيرة للتواضع فثبتت في ذهني عبر السنين. ولكن السؤال هو: هل هذا حقيقي؟ هل تكلفتنا رخيصة لهذه الدرجة؟

    الكثير من الجهات (المشكلة في الأغلب من طلبة علوم لا يجدون ما يشغلهم ليلة الجمعة) قدمت تقديرات مختلفة، (لا هدف لها سوى التسلية) لحساب كم تكلف المواد المستخدمة لصنع إنسان. ولعل المحاولة التقريبية الأكثر وجاهة في السنوات الأخيرة كانت على يد الجمعية الملكية للكمياء حين قامت في عام 2013 كجزء من مهرجان كامبريدج للعلوم في ذلك العام بتقدير تكلفة جمع العناصر التي تشكل الممثل البريطاني بندكت كامبرباتش. كان الأخير هو مقدم الحفل في ذلك العام وهو لحد كبير نموذج مناسب للإنسان متوسط الحجم.

    في المجمل تبعا لحسابات الجمعية الملكية للكيمياء نحتاج لتسعة وخمسين عنصرا تشكل جسد الإنسان. ستة منها وهي الكربون والاكسجين والنيتروجين والهيدروجين والكالسيوم والفوسفور تشكل 99.1% من مكوناتنا، لكن قد تفاجئك معرفة البقية، فمن يتصور أننا لن نكتمل بدون بعض المولبيدينوم أو الفناديوم أو المنجنيز والقصدير والنحاس؟ إن احتياجاتنا من بعض هذه العناصر ضئيلة لأدنى درجة وتقاس بالجزء من المليون وأحيانا من البليون. فعلى سبيل المثال نحتاج فقط لعشرين ذرة من الكوبالت وثلاثين من الكروم مقابل كل 999,999,999.5 ذرة من بقية العناصر.

    المكون الأكبر في جسد أي إنسان والذي يشغل 61 في المائة من الحيز المتاح هو الأكسجين. ربما يبدو مستغربا أن ما يقرب من ثلثي أجسادنا يتشكل من غاز عديم اللون والرائحة.  والسبب في أننا لسنا منتفخين كالبالونات هو أن الأكسجين في الأغلب مرتبط بالهيدروجين (الذي بدوره يشكل 10% منك) ليصنع الماء والماء كما أخبرتك تجربتك حين تبدل في بركة أو تسير بملابس مبللة ثقيل حقا. لعلها مفارقة أن اثنين من أخف الغازات في الطبيعة مثل الاكسجين والهيدروجين حينما يجتمعان يشكلان واحدا من أثقل المكونات في الطبيعة. لكن يبدو هذا عاديا بالنسبة لك. الأكسجين والهيدروجين هما أيضا اثنان من أرخص المكونات بداخلك. كل ما تحتويه من اكسجين يقدر فقط ب 8.9 جنيه إسترليني وكل الهيدروجين سيكلف حوالي 16 إسترليني بفرض أنك في نفس حجم بندكت كامبرباتش.

    النيتروجين (2.6 بالمائة منك) أغلى قليلا لكنه لن يكلف سوى 27 بنساً في الجسد بأكمله، لكن بعد ذلك ستعلو التكاليف.

    تحتاج إلى نحو ثلاثين رطلا من الكربون وحسب الجمعية الملكية للكمياء التي اعتمدت فقط على أعلى درجة نقاء متاحة من كل عنصر ورفضت استخدام المواد الرخيصة في بناء إنسان فستكلف هذه الكمية 44,300 إسترليني، الكالسيوم والفسفور والبوتاسيوم برغم أننا لا نحتاج إلا لكميات أقل بكثير لكنهم سيكلفون 47000£. بقية العناصر أغلى ثمنا لكن لحسن الحظ نحتاج كميات دقيقة منها. يتكلف الثوريوم مثلا 2000£ للجرام الواحد لكنه يشكل فقط 0.0000001 بالمائة من جسدك لذا فستشتري ما يحتويه جسدك فقط ب21 بنساً. وكل القصدير الذي يحتويه الجسد يمكن شراؤه بـ 4 بنسات بينما ستتكلف للزركونيوم والنيوبيوم بنسين لكل منهما. ونسبة 0.00000007 بالمائة التي يساهم بها الساماريوم لا يبدو أنها تستحق تحويلها إلى مال فنجدها في حسابات الجمعية الملكية للكمياء تكلف صفرا.

    من بين التسعة والخمسين عنصرا التي نجدها في أجسادا هناك أربعة وعشرون تعرف بالعناصر الأساسية لأننا حقا لا يمكننا أن نعيش بدونها. أما البقية فمتنوعة. بعضها نفعه واضح والبعض قد يكون نافعا لكننا لا نعرف وظيفته والبعض الآخر ليس بالنافع أو الضار لكنه موجود فحسب والقليل منها ضار حتما. على سبيل المثال فالكادميوم هو العنصر رقم 23 من حيث الكم في الجسد البشري حيث يمثل 0.1% من كتلة الجسم لكنه سام جدا. يتواجد بداخلنا ليس لأن أجسادنا تحتاجه بل لأن النباتات تمتصه من التربة ونحن نبتلع هذه النباتات. لو أنك تعيش في أمريكا الشمالية فأنت على الأرجح تلتهم ثمانية ميكروجرامات من الكادميوم يوميا بلا نفع.إلا الضر

    قد يبدو مفاجئاً أن هناك الكثير مما لا نعرفه بالكامل بعد في وظائف العناصر داخل الجسم. بالتقريب كل خلية حية في جسدك ستجد بداخلها مليون ذرة سلينيوم إن لم تزد. وبرغم ذلك لا أحد يعرف حقا ما وظيفته. نعرف أنه مهم لتكوين اثنين من الانزيمات الحيوية ونقصه مرتبط بارتفاع ضغط الدم والتهاب المفاصل والانيميا وبعض أنواع السرطان وربما انخفاض عدد الحيوانات المنوية. لذا فمن الواضح أن الحصول على بعض السيلينيوم مهم لصحتك (تجده في المكسرات وخبز الدقيق الكامل والسمك.) ولكن في الوقت نفسه لو تناولت المزيد منه فسيبب تسمما غير قابل للعلاج في كبدك. مثل أغلب ما نمر به في حياتنا فالتوازن الصحيح هو أمر شديد الأهمية.

    في المجمل فتبعا لحسابات الجمعية الملكية للكمياء فالتكلفة الكلية لبناء جسد جديد مستخدما بندكت كامبرباتش كنموذج ستكون بالضبط 96,546.79 جنيه استريليني. العمالة والمصاريف بالطبع ستضاعف الرقم، ستكون محظوظا بالحصول على نسخة منزلية من بندكت كامبرباتش بمبلغ أقل من مائتي ألف استريليني. ليست ثروة مهولة بالمقارنة مع أشياء أخرى لكن بالطبع ليست تلك الحفنة من الدولارات التي افترضها مدرسي في المدرسة الإعدادية.

    من جهة أخرى في عام 2012 فإن برنامج نوفا العلمي الذي يذاع منذ مدة طويلة على قناة بي بي اس في أمريكا قامت بتحليل دقيق في حلقة باسم صيد العناصر حددت مبلغ 168 دولار لكل العناصر الأساسية التي تشكل جسم الانسان. وهذا يثبت نقطة سنجدها تزداد وضوحا عبر هذا الكتاب: إنه فيما يتعلق بالجسم البشري فهناك الكثير من التفاصيل التي من المذهل كونها غير مؤكدة.

    لكن بالطبع فالأمر بدون فائدة. أيا كان ما ستدفعه، ومهما بلغت دقتك في جمع تلك الخامات فلن تستطيع أن تخلق جسدا بشريا. يمكنك أن تجمع أعظم عقول العالم التي تعيش الآن وحتى من عاشت من قبل وتمدهم بكامل ما جمعته الإنسانية من معارف ولن يستطيعوا أن يجتمعوا على صنع خلية حية واحدة ناهيك عن نسخة من بنكت كامبرباتش.

    وهذه هي الحقيقة التي بلا منازع هي الأروع فيما يتعلق بنا. فتكويننا هو حفنة من المواد الخامدة، نفس المواد التي تجدها في حفنة من التراب. قلتها في كتاب سابق من قبل لكنها حقيقة تستحق التكرار: الشيء المميز الوحيد في العناصر التي تتكون منها هي أنك مصنوع منها، وهذه هي معجزة الحياة.

    إننا نقضي حياتنا في تلك الكتلة الدافئة الرخوة من اللحم ورغم ذلك نكاد نعتبرها من المسلمات، كم منا يعرف ولو بالتقريب أين يوجد طحاله وماذا يفعل؟ أو ما هو الفارق بين الأوتار والأربطة، أو ما وظيفة العقد الليمفاوية؟ كم مرة بالتقريب ترمش عينك في اليوم؟ خمسمائة؟ ألف؟ ليس لديك فكرة بالطبع. حسنا أنت ترمش حوالي أربع عشرة ألف مرة كل يوم. كثيرا لدرجة أن عينيك مقفولتان لثلاث عشر دقيقة من كل يوم يقظة. ورغم ذلك لا تفكر في الأمر، لأن جسدك في كل ثانية من كل يوم ينفذ مهام تفوق الحصر حرفيا. كوادرليون، نونيليون، كوينديشيليون، فيجينتيليون (هذه أسماء حقيقية لأرقام) أيا كان فهو رقم يتجاوز قدرتك على التصور وكلها بدون الحاجة للحظة واحدة من انتباهك.

    في تلك اللحظة التي استغرقتها كي تبدأ قراءة هذا السطر فقد صنع جسدك قرابة المليون كرة دم حمراء أصبحت تجري بالفعل في عروقك. تتجول بين أوردتك كي تبقيك حيا. كل واحدة منها ستدور متخبطة عبر جسدك حوالي 150,000 مرة لتوصل الأكسجين لخلاياك قبل أن تتحطم وتتلف فتسلم نفسها لخلايا أخرى تقتلها في صمت لأجل صالحك العام.

    في المجمل يحتاج الأمر إلى سبعة بلايين بليون البليون (أي 7,000,000,000, 000,000,000,000,000,000 سبعة أوكتليون) ذرة كي يبني جسدك. لا أحد يستطيع أن يفسر ما الرغبة التي أصابت تلك السبعة بلايين بليون البليون ذرة كي تكونك. فهي جزيئات غير عاقلة في نهاية الأمر لا تتبادل فكرة أو لمحة فيما بينهم، ورغم ذلك في سبيل أن توجد سيبنون ويحافظون على أنظمة وتركيبات لا حصر لها ضرورية كي تبقيك إنسانا، كي تجعلك أنت: أنت. كي تمنحك الهيئة والشكل الذي يتيح لك الاستمتاع بهذه الحالة النادرة الراقية المقبولة التي تعرف بالحياة.

    وهذه مهمة أضخم مما تدرك، ففي الحالة المفككة فأنت مهول. رئتاك لو بسطناهما فستغطيان ملعب تنس والقصيبات الهوائية بها ستمتد للمسافة بين لندن وموسكو. إجمالي طول جميع أوعيتك الدموية يقطع بك المسافة حول الأرض مرتين ونصف. والأكثر إبهارا هنا هو حمضك النووي. لو بسطت DNA  الخاص بك داخل جميع خلاياك في شريط مفرد فسيمتد عشرة بلايين ميل أي يمتد لأبعد من كوكب بلوتو. فكر بالأمر، هناك منك ما يكفي لمغادرة المجموعة الشمسية. أنت حرفيا ذو طبيعة كونية.

    لكن ذراتك ليست سوى قوالب بناء غير حية بذاتها. وبرغم أنه من الصعب التحديد بدقة أين تبدأ الحياة فيمكن الاتفاق على أن الخلية هي الوحدة الحية الأساسية. والخلية ممتلئة بالكثير من الأشياء العاملة. ريبوسومات، الاحماض النووية الديوكسي ريبوزي (DNA) والريبوزي (RNA) والبروتينات والميتوكوندريا وغيرها من الغوامض المجهرية. لكن أيا من هذه المكونات ليس حيا بذاته. والخلية نفسها ليست سوى حجيرة أو مساحة: خلية تحتويهم. وهذه الحجيرة وحدها غير حية مثل بقية المكونات. برغم ذلك فبطريقة ما حين تجتمع كل هذه الأشياء معا تجد الحياة. هذا هو الأمر الذي يرواغ العلم حتى يومنا هذا وآمل أن يظل يراوغه دوما.

    والمثير للانتباه أنه لا يوجد شيء محدد يتولى التحكم بالأمر. كل مكون من مكونات الخلية يستجيب لإشارة من مكونات أخرى. كل منها يتشابك ويتصادم مع البقية كما لو كانت عربات في حلبة الملاهي ورغم ذلك بطريقة ما كل تلك الحركة العشوائية تنتج أفعالا منتظمة متناسقة. ليس فقط داخل الخلية بل عبر الجسد بأكمله حيث تتواصل الخلية مع الخلايا الأخرى التي تسكن عالمك الداخلي.

    قلب الخلية هو النواة. وهي التي تحتوي الحمض النووي الديوكسي ريبوز (أو دي إن أيهDNA ) الخاص بها. بطول متر منه كما ذكرنا مضغوط في حيز ضئيل حتى يمكن وصفه بمتناه الصغر والسبب في إمكانية احتواء كل هذا الحمض النووي في نواة الخلية هي أنه رفيع لدرجة مذهلة. تحتاج لعشرين بليون خيط من الحمض النووي جوار بعضها البعض لتصل إلى سمك أرق شعرة بشرية. كل خلية داخل جسدك (أو للدقة كل خلية تحتوي نواة) بها نسختان من حمضك النووي وهذا هو سبب أنك تمتلك منه ما يكفي للوصول لأبعد من بلوتو.

    الدي إن أيه يوجد لهدف وحيد: أن يصنع المزيد من الحمض النووي. إن حمضك النووي هو ببساطة كتيب إرشادات لتصنيعك.

    جزيء دي ان ايه كما لابد أنك تتذكر من عشرات البرامج التلفزيونية إن كنت نسيت ما درسته في مادة الأحياء مكون من شريط مزدوج، متصل بدرجات كي يشكل السلم الملتوي الشهير المعروف باللولب المزدوج. ينقسم الحمض النووي الصبغي لقطع تسمى صبغيات أو كروموسومات. وإلى وحدات أصغر تسمى جينات ومجموع جيناتك يطلق عليه الجينوم.

    الحمض النووي الصبغي شديد الثبات، يمكن أن يبقى محفوظا لعشرات الألوف من السنين. وهو ما يمكن العلماء اليوم من دراسة الماضي السحيق للأحياء، بعد ألف عام من الآن فعلى الأرجح لن يبقى شيء منك مهما كان، سواء كتابة أو جواهر أو حتى كنوز مدفونة. لكن حمضك النووي سيبقى موجوداً وقابلاً للاستخراج لو اهتم أحدهم بالبحث جيدا. يمرر الحمض النووي المعلومات المخزنة به بدقة فائقة، حيث يخطأ في حرف واحد من كل بليون حرف يتم نسخه. ورغم ذلك فهذا يعني ثلاثة أخطاء أو طفرات في كل انقسام خلوي. وأغلب هذه الأخطاء يمكن للجسد تجاهلها، ولكن أحيانا تكون مهمة وهو ما يؤدي إلى التطور.

    كل مكونات الجينوم لها غرض واحد: أن يحفظ وجودك عبر الأجيال. إنه لأمر مهيب حين تفكر أن الجينات التي تحملها قديمة وعلى الأرجح أبدية. أنت ستموت وتذوي بينما تستمر جيناتك في البقاء طالما استمر نسلك في الإنجاب. ومن المذهل حقا أنه وصلك بدون انقطاع خلال ثلاثة بلايين عام مرت منذ نشوء الحياة. فلكي توجد أنت هنا اليوم فكل واحد من أسلافك مرر مادته الجينية بنجاح للجيل التالي قبل أن ينتهي أو يتم إبعاده من العملية التكاثرية. إنها سلسلة من النجاحات المذهلة حقا.

    أما دور الجينات فهو إعطاء التعليمات لبناء البروتينات. أغلب الأشياء المفيدة في الجسم هي بروتينات. بعضها محفزات تسرع العمليات الكميائية وهي ما تسمى بالإنزيمات. وأخرى تحمل رسائل كميائية وتعرف بالهرمونات. هناك أخرى تهاجم الأجسام المعدية وتسمى بالأجسام المضادة. أكبر البروتينات في جسدنا على الإطلاق يسمى التيتين، وهو يساعد على تنظيم مرونة العضلات. يتكون اسمه الكميائي من 189,819 حرفاً وهو ما كان سيجعله أطول كلمة على الإطلاق في اللغة لولا أن القواميس لا تعترف بالأسماء الكميائية. لا يستطيع أحد أن يحصر عدد أنواع البروتينات الموجودة بداخلك ولكن التقديرات تقع بين بضع مئات من الألاف إلى أكثر بقليل من المليون.

    المفارقة في مسألة الجينات هي أننا جميعا مختلفون ورغم ذلك فعمليا متشابهون. كل البشر يتشاركون في 99.9 بالمائة من حمضهم النووي الصبغي ورغم ذلك لا يوجد شخصان متماثلان. حمضي النووي وحمضك سيختلفان عن بعضهما في ثلاثة أو أربعة ملايين موضع وهي نسبة ضئيلة جدا من إجمالي الجينات لكنها كافية لصنع فوارق كبيرة بيننا. أنت أيضا تحمل في داخلك قرابة المائة طفرة خاصة. انحرافات عن التعليمات الجينية التي حصلت عليها من والديك وتخصك أنت وحدك.

    الكيفية التي يدار بها هذا الأمر بالتفصيل لا تزال غامضة لنا. فقط 2% من الجينوم البشري يحمل شفرة بروتينات وهو ما يعني أن فقط 2 بالمائة من الجينوم له معنى واضح وفائدة مفهومة. أما ما يفعله الباقي فغير معلوم. الكثير منه يبدو أنه موجود فقط، مثل النمش على البشرة، لا يمكن تفسير دوره. هناك سلسلة قصيرة تسمى بالعنصر آلو (Alu element) تتكرر ما يزيد عن المليون مرة وسط الجينوم بما في ذلك في منتصف جينات تحمل شفرة بروتينات هامة. وهي بلا معنى إطلاقا حسب ما يمكننا معرفته. ورغم ذلك تمثل عشرة بالمائة من المحتوى الجيني. كان هذا الجزء الغامض من الحمض النووي يسمى حشو الحمض النووي (junk DNA) لكن اليوم نطلق عليه لقبا أكثر تحفظا: الحمض النووي المظلم (dark DNA) بمعنى أننا لا نعرف حقا ماذا يفعل ولماذا هو موجود. جزء منه له دور في تنظيم عمل الجينات، لكن أكثريته غير محدد الوظيفة.

    كثيرا ما نشبه الجسد بأنه آلة لكن الحقيقة أنه لا وجه للمقارنة، كم آلة تعرفها تعمل أربعاً وعشرين ساعة كل يوم لمدة عقود بدون أن تحتاج إلى صيانة أو قطع غيار (باستثناء حالات نادرة) وتقوم على الماء وبعض المواد العضوية وتظل سلسة جميلة، الجسد يعمل ٢٤ ساعة في اليوم لمدة عقود بدون حاجة تذكر للصيانة الدورية أو استبدال قطع الغيار. وهو يعمل بالماء والقليل من المواد العضوية، وهو سلس محبب قادر على الحركة والتفاعل يعيد تصنيع نفسه منتشيا ويلقي بالنكات ويشعر بالعاطفة ويتذوق حمرة الغروب وبرودة النسيم. أي آلة تقدر على كل هذا؟ حقا إنك لأعجوبة لا ريب، ولكن والحق يقال فمثلك في هذا مثل دودة الأرض.

    وكيف نحتفي بعظمة هذا الوجود؟ حسنا، إن أغلبنا يتدرب بشكل أقل ويأكل أكثر. فكر في كم الوجبات غير الصحية التي تلقيها في فمك وكم من حياتك تقضيها مجمدا أمام الشاشات. وبرغم ذلك فبما يشبه الإعجاز تعتني أجسادنا بنا وتستخلص المغذيات من كل تلك الوجبات التي ندفن وجهونا فيها وتحافظ على سلامتنا لعقود، إن الانتحار بالترف يستغرق دهورا.

    حتى لو فعلت كل ما هو خاطئ، فسيرعاك جسدك ويحافظ عليك. كلنا شواهد حية على هذا بطريقة أو بأخرى، خمسة من كل ستة مدخنين سينجون من سرطان الرئة، وأغلب الأشخاص المعرضين لخطر الأزمات القلبية لا يصابون بأزمات قلبية، حسابيا فكل يوم يمر عليك تتحول بين واحدة إلى خمس خلايا من خلاياك إلى خلايا سرطانية يقتلها جهازك المناعي. فكر في هذا. إنها بضع عشرات من المرات في الأسبوع وعدة آلاف في السنة تتعرض لأخطر أمراض العصر ولكن جسدك ينقذك في كل مرة. بالطبع أحيانا يتطور السرطان لشيء أكثر خطورة لكن في المجمل فمعدل الإصابة يعتبر نادرا. أغلب خلايا الجسد تنقسم بلايين المرات بدون مشاكل. ربما يكون السرطان سببا شائعا للموت لكنه ليس عرضاً دائما في الحياة.

    جسدنا هو كون مشكل من 37.2 تريليون خلية*1 تعمل في تناغم شبه كامل بدون انقطاع يذكر. صحيح أن الألام، المعاناة من عسر الهضم، والكدمات الغريبة أو البثور، كلها أمور طبيعبة كوننا لسنا كاملين ولكن هناك الآلاف من الأسباب التي قد تقتلنا. ما يقارب الثمانية آلاف سبب حسب الإحصائية العالمية لتصنيف الأمراض والمشاكل الصحية التي أجرتها منظمة الصحة العالمية. ونحن ننجو منها جميعا كل يوم حتى النهاية إلا واحدا. ولمعظم البشر فهذه صفقة مقبولة. لسنا كاملين حتما. لدينا ضروس متلاصقة لأن الفكين أضيق من أن يسعا كل الأسنان اللازمة للهضم، الحوض أضيق مما يكفي لإنجاب الأطفال بدون آلام تعذيبية، نحن بلا ريب معرضون لآلام الظهر ولدينا أعضاء تعجز عن إصلاح نفسها. سمك الدانيو المخطط إذا تعرض لإصابة في القلب فسريعا ما يصلحه بنسيج جديد. أما لو آذيت قلبك فهي إذن أخبار سيئة. كل الحيوانات تقريباً تنتج احتياجاتها من فيتامين ج، لكننا لا نستطيع هذا. جسمنا يقوم بكل الخطوات باستثناء الأخيرة لسبب مجهول. مجرد انتاج انزيم واحد.

    إن معجزة الحياة لا تكمن في غياب مظاهر النقص ولكن في قدرتنا على التغلب عليها. لا تنس أن جيناتك تشترك أغلبها مع كائنات أدنى، بعضهم أسماك والكثير منها كان لكائنات مزغبة صغيرة تختبئ في الجحور. هذه هي الكائنات التي تشترك مع جسدك في البناء. فأنت حلقة من ثلاثة بلايين عام من حلقات الحياة المتنوعة. كنا سنكون في حال أفضل بالتأكيد لو تخيلنا أننا سنبني أجسادنا من الصفر حسب احتياجاتنا المعاصرة، فنجعل انتصاب قامتنا غير مرهق لركبنا وأظهرنا، وأن نبتلع ما نشاء بدون الخوف من الاختناق وأن نلد الأطفال كما تخرج المشتريات من ماكينات البيع بسهولة دون معاناة. لكن أجسادنا لم تهيئ لهذا. منذ كانت الحياة الوحيدة هي كائن وحيد الخلية يطفو فوق الماء الدافئ للبحار الضحلة وكل ما أتى بعدها تشكلت رحلة طويلة مثيرة من الأحداث المذهلة حتى وصلت لهذا الكائن الذي ستوضح الصفحات التالية روعته الرائعة.

    2- المظهر :الجلد والشعر

    الجمال لا يتجاوز البشرة، بينما يتعمق القبح حتى العظام

    دورثي باركر

    ربما يبدو هذا غريبا لكن الجلد هو أكبر أعضاء جسدنا ووربما أكثرها مهاما. هو يحفظ ما بداخلنا ويحمي من الأشياء الخارجية الضارة، وهو كالوسادة الواقية، كما يمنحنا حاسة اللمس، نشعر عبره بالمتعة والدفء والألم وتقريبا كل ما يشعرنا بالحياة. ينتج الميلانين للوقاية من آشعة الشمس ويصلح نفسه حينما نسيء له. وهو يجمع أوجه الجمال. إنه يعتني بنا.

    الاسم الرسمي للجلد هو الجهاز الكيوتيني. يبلغ حجمه مترين مربعين (ما يعادل عشرين قدماً مربعاً) وكل جلدك يزن ما بين عشرة إلى خمسة عشر رطلا(من4.5 إلى 7 كجم). بطبيعة الأمر يعتمد هذا على كم يبلغ طولك وكم يحتاج إلى أن يتمدد كي يغطي بطنك وأردافك. أرق ما يكون في الجفون (فقط واحد على الألف من البوصة) وأكثر سمكًا أسفل راحة اليد والعقب في القدم. وبخلاف القلب والكلية فإن الجلد لا يصاب بالفشل أبدًا: إن طبقات جسدنا لا تنفجر، ولا نراها تسرب من تلقاء نفسها أبدًا.على حد تعبير نينا جابلونسكي أستاذة الأنثروبوجي في جامعة بين والتي تعد مرجعاً في كل ما هو كيوتيني.

    يتكون الجلد من طبقة داخلية تسمى الأدمة وأخرى خارجية تسمى البشرة، السطح الخارجي للبشرة يسمى الطبقة المتقرّنة وهي مكونة من خلايا ميتة. ولعلها فكرة مقبضة أن كل ما يجعل شكلك جميلا مصنوع مما انتهى. أينما يلامس الهواء جسدنا فهو يلامس جثثا ميتة. وهذا الجلد الخارجي يستبدل كل شهر. إننا نسلخ جلدنا باستمرار دون أن نلقي بالا، حوالي خمسة وعشرين ألف شظية كل دقيقة، أكثر من مليون قطعة كل ساعة. حين ترسم بإصبعك على رف مترب فإن الخط الذي نظفته صنع من قطع من جسدك القديم. وهكذا فإننا في صمت وبدون أن يطرف لنا جفن نتحول إلى تراب. الاسم الصحيح للجلد المفتت هو القشور. نحن نترك خلفنا كل عام أثرا من غبار الجلد يعادل رطلا (أو نصف كيلوجرام) كل عام.  لو أحرقت ما جمعته المكنسة الكهربية فالرائحة الغالبة ستميزها بدون شك أنها تشبه رائحة الشعر المحترق.  وهذا لأن كلا من الشعر والجلد يتكونان من نفسر المادة: الكيراتين.

    أسفل البشرة تلك الطبقة الأكثر حيوية وهي الأدمة. وهي تحوي كل أنظمة الجلد النشطة مثل الأوعية الدموية والليمفاوية والضفائر العصبية وبصيلات الشعر. وكذلك الغدد العرقية والدهنية. وأسفل كل هذا طبقة ليست من الناحية العلمية جزءا من الجلد، وهي الطبقة تحت الجلدية حيث تخزن دهون الجسم. وبرغم أنها ليست جزءا من الجهاز الكيوتيني فإنها جزء هام من جسدك لأنها تخزن الطاقة، وتوفر العزل الحراري وتربط الجلد بالجسد الذي يحويه.

    لا يعرف أحد على وجه اليقين عدد الثقوب في بشرتك. لكن جسدك مسامي تماما. أغلب التقديرات تترواح بين اثنين إلى خمسة ملايين بصيلة شعر وما يقارب ضعف هذا التقدير للغدد العرقية. بصيلات الشعر لها دور مزدوج، فمنها تنمو الشعرة وتفرز الدهون عبر الغدد الدهنية ليختلط مع العرق صانعا مزيجا زيتيا على السطح يحافظ على ترطيب الجلد ويجعله غير مناسب لنمو الكثير من الكائنات الدقيقة. تنسد أحيانا تلك المسام بكتل من الجلد الميت والافرازات الدهنية الجافة وهكذا يتكون كابوس البلوغ: البثرات. والبثرات تصبح وبائية في سن البلوغ حين تنشط غددهم الدهنية لينتج عنها حب الشباب أو Acne وهي كلمة من غير المعروف اشتقاقها الأصلي ولكن يبدو أن لها علاقة بالكلمة الاغريقية  acme  التي تدل على إنجاز أو تحقيق ما يثير العجاب، وهو أمر أبعد ما يكون عن وجه غزته البثرات. كيف ارتبط المعنيان معا فهذا أمر مجهول، أقدم سجل للمصطلح نجده في قاموس طبي بريطاني يرجع إلى عام 1734.

    تحتوي البشرة على حشود متنوعة من المستقبلات التي -حرفيًا- تجعلنا نحس بالعالم. حين تشعر بنسمة تداعب وجهك فإن جسيمات*2 ميسنر هي التي تبلغك بهذا. وحين تضع يدك على طبق ساخن فإن جسيمات روفيني هي التي تصرخ. خلايا ميركل تستجيب للضغط الثابت بينما جسيمات باتشيني تبلغك بالاهتزازات.

    جسيمات ميسنر هي المفضلة لدينا جميعا، فبها نشعر باللمسة الخفيفة وتكثر بالذات في المناطق الحساسة والمرتبطة بالشهوة مثل أنامل الأصابع، الشفتين، اللسان، والأعضاء التناسلية الخ.

    المصطلح أطلق على اسم عالم التشريح الألماني جورج ميسنر الذي ينسب إليه فضل اكتشافها عام 1852، برغم أن زميله رودلف فاجنر ادعى أنه مكتشفها الحقيقي. تنازع الاثنان حول الأمر ليثبتا أنه لا يوجد في العلم تفصيلة أصغر من أن تكون سببا للعداء.

    كل هذه المستقبلات مضبوطة بدقة لتمكنك من الشعور بالعالم. جسيمات باتشيني تجعلك تشعر بحركة دقيقة لا تتجاوز 0.00001 من المليميتر، عملياً يعد هذا سكوناً. والأعجب أنك لست بحاجة لتلمس المادة مباشرة كي تعرف طبيعتها، فكما ذكر دايفيد جي ليندن في كتابه (اللمس) لو أنك غرست مجرفة في كومة من الزلط أو الرمال ستشعر بالفارق بينهما برغم أنك تلمس المجرفة. من الطريف أننا لا نملك مستقبلات تستشعر الرطوبة، لدينا فحسب مستقبلات حرارية تشعرنا بها لذا فعندما نجلس في مكان رطب لا يمكننا التيقن إن كان ما نشعر به رطوبة أم مجرد برودة.

    حاسة اللمس لدى النساء أكثر حساسية بكثير منها عند الرجال، على الأرجح لأن أيديهن أصغر لذا فإن شبكة المستشعرات لديهن أكثر كثافة. ومن المشوق أن عقولنا لا تخبرنا بالشعور الناتج عن اللمس وإنما بالشعور الذي يجب أن ينتج عنها! لذا فإن نفس اللمسة من شخص محبوب تمنحنا إحساساً رائعاً مطمئناً بينما من شخص غريب تشعرنا بالانزعاج والخوف. وهذا هو السبب في عدم قدرتك على دغدغة نفسك.

    واحدة من اللحظات التي لا أنساها أثناء إعدادي هذا الكتاب كانت في مشرحة كلية الطب بجامعة نوتنجهام حين قام أستاذ وجراح يدعى بين أوليفر (سآت لذكره فيما بعد) بقطع وفصل شظية من الجلد من ذراع جثة لا يتجاوز سمكها المليمتر. كانت رقيقة للغاية حتى تكاد تكون شفافة. وقال وهذا هو كل ما يحتويه جلدك من لون. هذا هو كل ما يعنيه العرق. مجرد رقاقة من البشرة.

    وحين ذكرت هذا لنينا جابلونسكي حين قابلتها في مكتبها بجامعة بنسلفانيا أومأت موافقة بقوة وقالت من الغريب أن جزءً ضئيلاً من تركيبنا نوليه كل هذه الأهمية. يتصرف الناس كما لو كان لون البشرة هو صفة تفريقية بينما هو مجرد نتاج للتفاعل مع آشعة الشمس. من الناحية البيولوجية فإن الأعراق ليست شيئا حقيقيا. كل ما يرتبط بها مثل لون البشرة وسمات الوجه ونوع الشعر والبنيان العظمي وكل ما يستخدم للتمييز بين الناس ليس له قيمة، ورغم ذلك انظر عبر التاريخ كم من الناس استعبد أو تعرض للكراهية والتمييز والقتل أو التجريد من حقوقه الطبيعية فقط بسبب لون بشرتهم.

    جابلونسكي هي سيدة طويلة ذات شعر فضي قصير تعمل في مكتب مزدحم بالطابق الرابع من مبنى الانثروبولوجي (علم الانسانيات) في الحرم الجامعي لجامعة بنسلفانيا. لكن اهتمامها بالجلد بدأ منذ حوالي ثلاثين عاماً عندما كانت عالمة شابة متخصصة في الرئيسيات وعلم أحياء الحفريات في جامعة استراليا الغربية ببيرث. فبينما كانت تعد لمحاضرة حول الاختلافات بين ألوان جلد الرئيسيات والبشر أدركت أنه لا يوجد إلا أقل القليل من المعلومات حول هذا الموضوع. فبدأت ما تحول إلى دراسة ممتدة عبر عمرها. وعلى حد قولها:  بدأ الأمر كمشروع بريء صغير لم يلبث أن استولى على جزء ضخم من حياتي المهنية.

    في عام 2006 أصدرت مرجعها الهام الجلد: تاريخ طبيعي وبعد ستة أعوام تلته بـاللون الحي: المعنى البيولوجي والاجتماعي للون البشرة

    اتضح من الناحية العلمية أن لون البشرة أكثر تعقيدا مما كنا نتصور، تقول جابونسكي هناك أكثر من مائة وعشرين جينا ينخرط في أصباغ الثدييات، لذا فمن الصعب تلخيصها جميعا.

    ما يمكننا قوله هو أن لون البشرة ينتج عن مجموعة من الأصباغ، من بينها فإن الأهم على الإطلاق مادة كانت تسمى سابقا بالايوميلانين ولكن تعرف عالمياً الآن بالميلانين. وهي واحدة من أقدم المواد في الأحياء، وتوجد عبر كل أحياء العالم. ليس فقط في لون البشرة ولكن أيضا في لون ريش الطيور، وسواد الحبر الذي يفرزه الحبار، بل إنها مرتبطة بتحول لون الفواكه إلى البني. أما بالنسبة لنا فهي تلون الشعر وحين يتناقص إنتاجها بحدة مع تقدمنا في العمر يتحول شعرنا إلى اللون الرمادي.

    تقول جابونسكي الميلانين هو واق من الشمس، فعال وطبيعي. تنتجه خلايا تسمى بالميلانوسايت. جميعنا أيا كان عرقه يحمل نفس العدد من الميلانوسايتات والفارق هو كمية الميلانين الذي تنتجه

    يستجيب الميلانين للضوء بطريقة  غير متساوية مما يتسبب في ظهور النمش أو كما نسميه علميا بالايفيلايدس.

    لون البشرة هو مثال واضح لما يعرف بالتكيف المتقارب. أي نتائج متشابهة تطورت في مكانين أو أكثر بصورة منفصلة. فسكان سريلانكا وبولينزيا كلاهما اكتسب بشرة بنية فاتحة بدون ارتباط جيني بينهما ولكن لأن كل شعب بصورة مستقلة تكيف ليتعامل مع الظروف التي يحياها. كان من المعتقد أن تفتح البشرة ظهر في زمن بين عشرة آلاف إلى عشرين ألف سنة مضت لكن الآن بعد تطور علم الجينوم نعرف أنه حدث بصورة أسرع ربما من ألفين أو ثلاثة آلاف عام. نعرف أيضا أنه حدث أكثر من مرة، البشرة ذات الدرجات الفاتحة أو كما تسميها جابولنسكي البشرة غير المتصبغة نشأت على الأقل ثلاث مرات فوق الأرض. هذا التنوع الجميل الذي يتباهى به البشر هو عملية متغيرة باستمرار. على حد قول جابولنسكي نحن في منتصف تجربة جديدة للتطور البشري.

    يعتقد أن البشرة البيضاء هي نتيجة لهجرة البشر والاعتماد على الزراعة، الافتراض بني على أن الجمع والصيد غني بمصادر فيتامين د كالأسماك والطرائد، ولكن مع بدء الاعتماد على المحاصيل نقصت نسبة الفيتامين بحدة في الغذاء، خصوصا بين المهاجرين الذين استقروا في المناطق الشمالية. لذا أصبحت البشرة أفتح لونا كميزة تسمح بتصنيع كميات أكبر من فيتامين د في الجسم.

    فيتامين د حيوي للصحة، يساعد في تقوية العظام والأسنان ويقوي الجهاز المناعي ويحارب السرطان ويغذي القلب، فهو مادة عظيمة الفائدة نحصل عليها من مصدرين: إما عبر الغذاء الذي نتناوله أو باستخدام ضوء الشمس لتصنيعه. المشكلة تكمن في أن التعرض للآشعة فوق البنفسجية في ضوء الشمس بكميات أكثر من اللازم بتسبب في تدمير الحمض النووي وقد يسبب سرطان الجلد. والحصول على الكمية المناسبة يحتاج لتوازن صعب. تأقلم البشر مع هذا بتطوير مدى من ألوان البشرة يناسب قوة الشمس في مناطق مختلفة. حينما يتكيف الجسم البشري مع الظروف المتغيرة تسمى العملية بالتكيف النمطي الظاهري. فلون بشرتنا يتغير طوال الوقت. حين نكتسب السمرة أو نتعرض لحروق الشمس الساطعة أو نحمر خجلا.

    الاحمرار بعد لسعة الشمس ينتج من احتقان الأوعية الدموية الدقيقة بالدم فيكون ملمس الجلد ساخنا. الاسم العلمي للسعة الشمس هو الحمرة أو ايريثما.

    كذلك فالسيدات الحوامل تدكن لديهن مناطق الحلمات والهالة حولها، وأحيانا أجزاء أخرى من الجسم مثل البطن والوجه كنتيجة لزيادة إفراز الميلانين وهي عملية تسمى بالميلازما. لكن غرض حدوثها غير مفهوم حتى الآن.

    أما احتقان الوجه من الغضب فمربك بعض الشيء، فحينما يعد الجسد نفسه للمعركة، فهو يحول مسار الدماء إلى المناطق الأكثر احتياجا، العضلات في الأغلب. لذا فما الفائدة من إرسال الدماء إلى الوجه؟ لا توجد أي فائدة فسيولوجية من الأمر، لذا فمازال لغزاً. تقترح جابلونسكي بعض الاحتملات مثل أن هذا يساعد على التحكم في ضغط الدم أو كإشارة للخصم كي يتراجع أمام هذا الغضب الصارخ.

    على أي حال، فإن التطور البطيء لمختلف ألوان البشرة كان مناسبا حينما كان البشر يستقرون في مكان واحد أو يهاجرون ببطء. أما في أيامنا هذه فإن معدلات التنقل تعني أن الكثير من الناس يعيشون في أماكن لا تتناسب فيها حدة الشمس مع لون البشرة. فمناطق مثل شمال أوروبا وكندا لا يمكن الحصول فيها على كمية صحية من فيتامين د في شهور الشتاء بضوء الشمس الضعيف مهما كان لون البشرة شاحبا. لذا فلابد من الحصول على فيتامين د عبر الغذاء وهو أمر من المستبعد حدوثه، فلكي تحصل على احتياجاتك من الغذاء فقط تحتاج لاستهلاك خمس عشرة بيضة أو ستة ارطال (قرابة الثلاثة كيلوجرامات) من الجبن السويسري كل يوم. أو من الأيسر وإن كان ليس من الأشهى أن تبتلع نصف ملعقة طعام من زيت كبد الحوت. في أمريكا يدعم اللبن بفيتامين د لكنه يكفي فقط ثلث احتياجات الفرد البالغ والنتيجة أن قرابة خمسين بالمائة من سكان الأرض يعانون من نقص فيتامين د على الأقل بعض فصول السنة. في البلاد الشمالية ربما تصل إلى ٩٠%.

    ومع اكتساب الناس للبشرة الفاتحة ظهرت أيضا ألوان الشعر والعين في أزمنة أقرب كثيرا. تلك الألوان ظهرت أولا حول بحر البلطيق منذ ستة آلاف عام. ليس من الواضح السبب، ليس لألوان الشعر أو العين علاقة بتكوين فيتامين د أو بأي وظيفة فسيولوجية أخرى، لذا فلا يبدو لها فائدة ما ولكن يعتقد أنها اتخذت كعلامة قبلية أو أن الناس وجدتها أكثر جاذبية. امتلاكك لعين زرقاء أو خضراء ليس بسبب أن لديك المزيد من هذا اللون في قزحيتك وإنما لمجرد أن لديك نقصاً في الألوان الأخرى، فنقص الصبغات الأخرى هو ما يجعل العين تبدو خضراء أو زرقاء.

    تغير ألوان البشرة استغرق وقتا أطول، على الأقل ستين ألف سنة، لكنها كما تقول جابلونسكي لم تكن عملية متصلة في اتجاه واحد، بعض الناس تفقد لونها ثم بعضهم يكتسب صبغة أدكن. بعض الناس تغيرت بشرتهم كثيرا مع هجرتهم لأماكن جديدة بينما لم يتأثر البعض الآخر. مثلا في المجتمع الأصلي بأمريكا

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1