Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

شرح نهج البلاغة
شرح نهج البلاغة
شرح نهج البلاغة
Ebook686 pages6 hours

شرح نهج البلاغة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

لقد تصدى لشرح نهج البلاغة كثيرون من العلماء والفضلاء ذكر العلامة الشيخ حسين جمعة العاملي أنها بلغت 210 شرحا ذكرها مفصلة في كتاب له سمّاه ((شروح نهج البلاغة)) لعل أعظم هذه الشروح وأطولها وأشملها بالعلوم والآداب والمعارف ، هو شرح عز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد المدائني الذي ذكر في صدر كتابه أنه لم يسبقه أحد بشرح النهج سوى سعيد بن هبة الله بن الحسن الفقيه، المعروف بالراوندي
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateOct 17, 1901
ISBN9786457550855
شرح نهج البلاغة

Related to شرح نهج البلاغة

Related ebooks

Reviews for شرح نهج البلاغة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد

    الغلاف

    شرح نهج البلاغة

    الجزء 7

    ابن أبي الحديد

    656

    لقد تصدى لشرح نهج البلاغة كثيرون من العلماء والفضلاء ذكر العلامة الشيخ حسين جمعة العاملي أنها بلغت 210 شرحا ذكرها مفصلة في كتاب له سمّاه ((شروح نهج البلاغة)) لعل أعظم هذه الشروح وأطولها وأشملها بالعلوم والآداب والمعارف ، هو شرح عز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد المدائني الذي ذكر في صدر كتابه أنه لم يسبقه أحد بشرح النهج سوى سعيد بن هبة الله بن الحسن الفقيه، المعروف بالراوندي

    خروج عائشة ومسيرها إلى القتال

    وروى أبو مخنف، قال: حدثنا إسماعيل بن خالد، عن قيس بن أبي حازم. وروى الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس. وروى جرير بن يزيد، عن عامر الشعبي، وروى محمد بن إسحاق، عن حبيب بن عمير، قالوا جميعاً: لما خرجت عائشة وطلحة والزبير من مكة إلى البصرة، طرقت ماء الحوأب - وهو ماء لبني عامر بن صعصعة - فنبحتهم الكلاب، فنفرت صعاب إبلهم، فقال قائل منهم: لعن الله الحوأب فما أكثر كلابها! فلما سمعت عائشة ذكر الحوأب، قالت: أهذا ماء الحوأب ؟قالوا: نعم، فقالت: ردوني ردوني فسألوها ما شأنها ؟ما بدا لها ؟فقالت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: 'كأني بكلاب ماء يدعى الحوأب، قد نبحت بعض نسائي'، ثم قال لي: 'إياك يا حميراء أن تكونيها' فقال لها الزبير: مهلاً يرحمك الله، فإنا قد جزنا ماء الحوأب بفراسخٍ كثيرة، فقالت: أعندك من يشهد بأن هذه الكلاب النابحة ليست على ماء الحوأب ؟فلفق لها الزبير وطلحة خمسين أعرابياً جعلا لهم جعلاً، فحلفوا لها، وشهدوا أن هذا الماء ليس بماء الحوأب، فكانت هذه أول شهادة زور في الإسلام .فسارت عائشة لوجهها .قال أبو مخنف: وحدثنا عصام بن قدامة، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لنسائه، وهن عنده جميعاً: 'ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، تنبحها كلاب الحوأب، يقتل عن يمينها وشمالها قتلى كثيرة، كلهم في النار وتنجو بعد ما كادت'قلت: وأصحابنا المعتزلة رحمهم الله، يحملون قوله رضي الله عنه: 'وتنجو' على نجاتها من النار، والإمامية يحملون ذلك على نجاتها، من القتل، ومحملنا أرجح، لأن لفظة 'في النار' أقرب إليه من لفظة 'القتلى'، والقرب معتبر في هذا الباب، ألا ترى أن نحاة البصريين أعملوا أقرب العاملين، نظراً إلى القرب !قال أبو مخنف: وحدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، أن الزبير وطلحة أغذا السير بعائشة، حتى انتهوا إلى حفر أبي موسى الأشعري، وهو قريب من البصرة، وكتبا إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، وهو عامل علي رضي الله عنه على البصرة: أن أخل لنا دار الإمارة، فلما وصل كتابهما إليه بعث الأحنف بن قيس، فقال له: إن هؤلاء القوم قدموا علينا ومعهم زوجة رسول الله، والناس إليها سراع كما ترى فقال الأحنف: إنهم جاؤوك بها للطلب بدم عثمان وهم الذين ألبوا على عثمان الناس، وسفكوا دمه وأراهم والله لا يزايلون حتى يلقوا العداوة بيننا، ويسفكوا دماءنا، وأظنهم والله سيركبون منك خاصة ما لا قبل لك به إن لم تتأهب لهم بالنهوض إليهم فيمن معك من أهل البصرة، فإنك اليوم الوالي عليهم وأنت فيهم مطاع فسر إليهم بالناس وبادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة، فيكون الناس لهم أطوع منهم لك ؟فقال عثمان بن حنيف: الرأي ما رأيت لكنني أكره الشر وأن أبدأهم به وأرجو العافية والسلامة إلى أن يأتيني كتاب أمير المؤمنين ورأيه فأعمل به. ثم أتاه بعد الأحنف حكيم بن جبلة العبدي من بني عمرو بن وديعة، فأقرأه كتاب طلحة والزبير، فقال له مثل قول الأحنف، وأجابه عثمان بمثل جوابه للأحنف، فقال له حكيم: فأذن لي حتى أسير إليهم بالناس، فإن دخلوا في طاعة أمير المؤمنين وإلا نابذتهم على سواء .فقال عثمان: لو كان ذلك رأيي لسرت إليهم بنفسي، قال حكيم: أما والله إن دخلوا عليك هذا المصر لينتقلن قلوب كثير من الناس إليهم، وليزيلنك عن مجلسك هذا، وأنت أعلم. فأبى عليه عثمان .قال: وكتب علي إلى عثمان لما بلغه مشارفة القوم البصرة، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف، أما بعد :فإن البغاة عاهدوا الله ثم نكثوا، وتوجهوا إلى مصرك، وساقهم الشيطان لطلب ما لا يرضى الله به. والله أشد بأساً، وأشد تنكيلاً، فإذا قدموا عليك فادعهم إلى الطاعة والرجوع إلى الوفاء بالعهد والميثاق الذي فارقونا عليه، فإن أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا عندك، وإن أبوا إلا التمسك بحبل النكث والخلاف، فناجزهم القتال حتى يحكم الله بينك وبينهم وهو خير الحاكمين وكتبت كتابي هذا إليك من الربذة، وأنا معجل المسير إليك إن شاء الله، وكتبه عبيد الله بن أبي رافع في سنة ست وثلاثين .قال: فلما وصل كتاب علي رضي الله عنه إلى عثمان، أرسل إلى أبي الأسود الدؤلي وعمران بن الحصين الخزاعي، فأمرهما أن يسيرا حتى يأتياه بعلم القوم، وما الذي أقدمهم! فانطلقا حتى إذا أتيا حفر أبي موسى، وبه معسكر القوم، فدخلا على عائشة، فنالاها ووعظاها، وأذكراها وناشداها الله، فقالت لهما: القيا طلحة والزبير. فقاما من عندها، ولقيا الزبير فكلماه، فقال لهما: إنا جئنا للطلب بدم عثمان، وندعو الناس إلى أن يردوا أمر الخلافة شورى، ليختار الناس لأنفسهم. فقالا له: إن عثمان لم يقتل بالبصرة ليطلب دمه فيها، وأنت تعلم قتلة عثمان من هم، وأين هم! وإنك وصاحبك وعائشة كنتم أشد الناس عليه، وأعظمهم إغراء بدمه، فأقيدوا من أنفسكم. وأما إعادة أمر الخلافة شورى، فكيف وقد بايعتم علياً طائعين غير مكرهين! وأنت يا أبا عبد الله لم يبعد العهد بقيامك دون هذا الرجل يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت آخذ قائم سيفك، تقول: ما أحذ أحق بالخلافة منه ولا أولى بها منه! وامتنعت من بيعة أبي بكر. فأين ذلك الفعل من هذا القول !فقال لهما: اذهبا فالقيا طلحة، فقاما إلى طلحة فوجداه أخشن الملمس، شديد العريكة، قوي العزم في إثارة الفتنة وإضرام نار الحرب، فانصرفا إلى عثمان بن حنيف، فأخبراه وقال له أبو الأسود :

    يابن حنيف قد أتيت فانفر ........ وطاعن القوم وجالد واصبر

    وابرز لها مستلئماً وشمر

    فقال ابن حنيف: إي والحرمين لأفعلن. وأمر مناديه فنادى في الناس: السلاح السلاح! فاجتمعوا إليه، وقال أبو الأسود:

    أتينا الزبير فدانى الكلام ........ وطلحة كالنجم أو أبعد

    وأحسن قوليهما فادح ........ يضيق به الخطب مستنكد

    وقد أوعدونا بجهد الوعيد ........ فأهون علينا بما أوعدوا

    فقلنا ركضتم ولم ترملوا ........ وأصدرتم قبل أن توردوا

    فإن تلقحوا الحرب بين الرجال ........ فملقحها حده الأنكد

    وإن عليا

    لكم مصحر ........ ألا إنه الأسد الأسود

    أما إنه ثالث العابدين ........ بمكة والله لا يعبد

    فرخوا الخناق ولاتعجلوا ........ فإن غداً لكم موعد

    قال: وأقبل القوم، فلما انتهوا إلى المربد، قام رجل من بني جشم فقال: أيها الناس، أنا فلان الجشمي، وقد أتاكم هؤلاء القوم، فإن كانوا أتوكم خائفين، لقد أتوكم من المكان الذي يأمن فيه الطير والوحش والسباع، وإن كانوا إنما أتوكم بطلب دم عثمان، فغيرنا ولي قتله. فأطيعوني أيها الناس وردوهم من حيث أقبلوا فإنكم إن لم تفعلوا لم تسلموا من الحرب الضروس والفتنة الصماء التي لا تبقي ولا تذر .قال: فحصبه ناس من أهل البصرة، فأمسك .قال: واجتمع أهل البصرة إلى المربد حتى ملأوه مشاة وركباناً، فقام طلحة فأشار إلى الناس بالسكون ليخطب، فسكتوا بعد جهد. فقال: أما بعد، فإن عثمان بن عفان كان من أهل السابقة والفضيلة، ومن المهاجرين الأولين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ونزل القرآن ناطقاً بفضلهم، وأحد أئمة المسلمين الوالين عليكم بعد أبي بكر وعمر صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان أحدث أحداثاً نقمناها عليه، فأتيناه فاستعتبناه فأعتبنا، فعدا عليه امرؤ ابتز هذه الأمة أمرها غصباً بغير رضاً منها ولا مشورة فقتله وساعده على ذلك قوم غير أتقياء ولا أبرار، فقتل محرما بريئاً تائباً. وقد جئناكم أيها الناس نطلب بدم عثمان، وندعوكم إلى الطلب بدمه فإن نحن أمكننا الله من قتلته قتلناهم به، وجعلنا هذا الأمر شورى بين المسلمين، وكانت خلافة رحمة للأمة جميعاً، فإن كل من أخذ الأمر من غير رضاً من العامة ولا مشورة منها ابتزازاً، كان ملكه ملكاً عضوضاً وحدثاً كثيراً. ثم قام الزبير، فتكلم بمثل كلام طلحة .فقام إليهما ناس من أهل البصرة، فقالوا لهما: ألم تبايعا علياً فيمن بايعه ؟ففيم بايعتما ثم نكثتما! فقالا: ما بايعنا، وما لأحد في أعناقنا بيعة وإنما استكرهنا على بيعة. فقال ناس: قد صدقا وأحسنا القول، وقطعا بالثواب. وقال ناس: ما صدقا ولا أصابا في القول حتى ارتفعت الأصوات .قال: ثم أقبلت عائشة على جملها، فنادت بصوت مرتفع: أيها الناس، أقلوا الكلام واسكتوا، فأسكت الناس لها، فقالت :إن أمير المؤمنين عثمان قد كان غير وبدل، ثم لم يزل يغسل ذلك بالتوبة حتى قتل مظلوماً تائباً، وإنما نقموا عليه ضربه بالسوط، وتأميره الشبان، وحمايته موضع الغمامة، فقتلوه محرماً في حرمة الشهر وحرمة البلد ذبحاً كما يذبح الجمل. ألا وإن قريشاً رمت غرضها بنبالها، وأدمت أفواهها بأيديها، وما نالت بقتلها إياه شيئاً، ولا سلكت به سبيلاً قاصداً، أما والله ليرونها بلايا عقيمة تنبه النائم، وتقيم الجالس، وليسلطن عليهم قوم لا يرحمونهم وسيومونهم سوء العذاب .أيها الناس، إنه ما بلغ من ذنب عثمان ما يستحل به دمه! مصتموه كما يماص الثوب الرخيص، ثم عدوتم عليه فقتلتموه بعد توبته وخروجه من ذنبه، وبايعتم ابن أبي طالب بغير مشورة من الجماعة، ابتزازاً وغصباً. تراني أغضب لكم من سوط عثمان ولسانه، ولا أغضب لعثمان من سيوفكم! ألا إن عثمان قتل مظلوماً فاطلبوا قتلته، فإذا ظفرتم بهم فاقتلوهم، ثم اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الذين اختارهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ولا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان .قال: فماج الناس واختلطوا، فمن قائل: القول ما قالت، ومن قائل يقول: وما هي وهذا الأمر، إنما هي امرأة مأمورة بلزوم بيتها! وارتفعت الأصوات، وكثر اللغط حتى تضاربوا بالنعال، وتراموا بالحصى .ثم إن الناس تمايزوا فصاروا فريقين: فريق مع عثمان بن حنيف، وفريق مع عائشة وأصحابها .قال: وحدثنا الأشعث بن سوار، عن محمد بن سيرين، عن أبي الخليل، قال: لما نزل طلحة والزبير المربد، أتيتهما فوجدتهما مجتمعين، فقلت لهما: ناشدتكما الله وصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما الذي أقدمكما أرضنا هذه ؟فلم يتكلما، فأعدت عليهما، فقالا: بلغنا أن بأرضكم هذه دنيا، فجئنا نطلبها .قال: وقد روى محمد بن سيرين، عن الأحنف بن قيس أنه لقيهما، فقالا له مثل مقالتهما الأولى: إنما جئنا لطلب الدنيا .وقد روى المدائني أيضاً نحواً مما روى أبو مخنف، قال: بعث علي رضي الله عنه ابن عباس يوم الجمل إلى الزبير قبل الحرب، فقال له: إن أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام، ويقول لكم: ألم تبايعني طائعاً غير مكره، فما الذي رابك مني، فاستحللت به قتالي ؟قال: فلم يكن له جواب إلا أنه قال لي: إنا مع الخوف الشديد لنطمع، لم يقل غير ذلك .قال أبو إسحاق: فسألت محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم: ما تراه يعني بقوله هذا ؟فقال: أما والله ما تركت ابن عباس حتى سألته عن هذا، فقال: يقول: إنا مع الخوف الشديد مما نحن عليه، نطمع أن نلي مثل الذي وليتم .وقال محمد بن إسحاق: حدثني جعفر بن محمد رضي الله عنه، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: بعثني علي رضي الله عنه يوم الجمل إلى طلحة والزبير، وبعث معي بمصحف منشور، وإن الريح لتصفق ورقه، فقال لي: قل لهما: هذا كتاب الله بيننا وبينكم، فما تريدان ؟فلم يكن لهما جواب إلا أن قالا: نريد ما أراد، كأنهما يقولان: الملك .فرجعت إلى علي فأخبرته .وقد روى قاضي القضاة رحمه الله في كتاب المغني عن وهب بن جرير، قال: قال رجل من أهل البصرة لطلحة والزبير: إن لكما فضلاً وصحبة فأخبراني عن مسيركما هذا وقتالكما أشيء أمركما له رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم رأي رأيتماه ؟فأما طلحة فسكت وجعل ينكت في الأرض، وأما الزبير، فقال: ويحك! حدثنا أن هاهنا دراهم كثيرة، فجئنا لنأخذ منها .وجعل قاضي القضاة هذا الخبر حجة في أن طلحة تاب، وأن الزبير لم يكن مصراً على الحرب. والاحتجاج بهذا الخبر على هذا المعنى ضعيف، وإن صح هو وما قبله إنه لدليل على حمق شديد، وضعف عظيم، ونقص ظاهر. وليت شعري ما الذي أحوجهما إلى هذا القول! وإذا كان هذا في أنفسهما، فهلا كتماه !ثم نعود إلى خبرهما: قال أبو مخنف: فلما أقبل طلحة والزبير من المربد يريدان عثمان بن حنيف، فوجداه وأصحابه قد أخذوا بأفواه السكك، فمضوا حتى انتهوا إلى موضع الدباغين، فاستقبلهم أصحاب ابن حنيف فشجرهم طلحة والزبير وأصحابهما بالرماح، فحمل عليهم حكيم بن جبلة، فلم يزل هو وأصحابه يقاتلونهم حتى أخرجوهم من جميع السكك، ورماهم النساء من فوق البيوت بالحجارة، فأخذوا إلى مقبرة بني مازن، فوقفوا بها ملياً حتى ثابت إليهم خيلهم، ثم أخذوا على مسناة البصرة حتى انتهوا إلى الرابوقة ثم أتوا سبخة دار الرزق، فنزلوها .قال: وأتاهما عبد الله بن حكيم التميمي لما نزلا السبخة بكتب كانا كتباها إليه، فقال لطلحة: يا أبا محمد، أما هذا كتبك إلينا ؟قال: بلى، قال: فكتبت أمس تدعونا إلى خلع عثمان وقتله حتى إذا قتلته أتيتنا ثائراً بدمه! فلعمري ما هذا رأيك لا تريد إلا هذه الدنيا. مهلاً! إذا كان هذا رأيك فلم قبلت من علي ما عرض عليك من البيعة، فبايعته طائعاً راضياً، ثم نكثت بيعتك، ثم جئت لتدخلنا في فتنتك! فقال: إن علياً دعاني إلى بيعته بعد ما بايع الناس، فعلمت لو لم أقبل ما عرضه علي لم يتم لي، ثم يغري بي من معه .قال: ثم أصبحا من غدٍ فصفا للحرب، وخرج عثمان بن حنيف إليهما في أصحابه، فناشدهما الله والإسلام، وأذكرهما بيعتهما علياً منمه، فقالا: نطلب بدم عثمان، فقال لهما: وما أنتما وذاك أين بنوه ؟أين بنو عمه الذين هم أحق به منكم! كلا والله ولكنكما حسدتماه حيث اجتمع الناس عليه، وكنتما ترجوان هذا الأمر، وتعملان له! وهل كان أحد أشد على عثمان قولاً منكما! فشتماه شتماً قبيحاً، وذكرا أمه، فقال للزبير: أما والله لولا صفية ومكانها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها أدنتك إلى الظل، وأن الأمر بيني وبينك - يا بن الصعبة - يعني طلحة - أعظم من القول، لأعلمتكما من أمركما ما يسوءكما. اللهم إني قد أعذرت إلى هذين الرجلين! ثم حمل عليهم، واقتتل الناس قتالاً شديداً، ثم تحاجزوا واصطلحوا على أن يكتب بينهم كتاب صلح فكتب: هذا ما اصطلح عليه عثمان بن حنيف الأنصاري ومن معه من المؤمنين من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وطلحة والزبير ومن معهما من المؤمنين والمسلمين من شيعتهما، أن لعثمان بن حنيف دار الإمارة والرحبة والمسجد وبيت المال والمنبر، وأن لطلحة والزبير ومن معهما أن ينزلوا حيث شاؤوا من البصرة، ولا يضار بعضهم بعضاً في طريق ولا فرضة ولا سوق ولا شرعة ولا مرفق، حتى يقدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فإن أحبوا دخلوا فيما دخلت فيه أمة، وإن أحبوا لحق كل قوم بهواهم وما أحبوا من قتال أو سلم أو خروج أو إقامة، وعلى الفريقين بما كتبوا عهد الله وميثاقه، وأشد ما أخذه على نبي من أنبيائه من عهد وختم الكتاب، ورجع عثمان بن حنيف حتى دخل دار الإمارة وقال لأصحابه: ألحقوا رحمكم الله بأهلكم، وضعوا سلاحكم، وداووا جرحاكم. فمكثوا كذلك أياماً .ثم إن طلحة والزبير قالا: إن قدم علي ونحن على هذه الحال من القلة والضعف ليأخذن بأعناقنا، فأجمعا على مراسلة القبائل واستمالة العرب، فأرسلا إلى وجوه الناس وأهل الرياسة والشرف، يدعوانهم إلى الطلب بدم عثمان وخلع علي وإخراج ابن حنيف من البصرة. فبايعهم على ذلك الأزد وضبة وقيس بن عيلان كلها إلا الرجل والرجلين من القبيلة، كرهوا أمرهم فتواروا عنهم، وأرسلوا إلى هلال بن وكيع التميمي فلم يأتهم فجاءه طلحة والزبير إلى داره، فتوارى عنهما، فقالت له أمه: ما رأيت مثلك! أتاك شيخاً قريش فتواريت عنهما! فلم تزل به حتى ظهر لهما، وبايعهما ومعه بنو عمرو بن تميم كلهم وبنو حنظلة إلا بني يربوع فإن عامتهم كانوا شيعة لعلي رضي الله عنه، وبايعهم بنو دارم كلهم إلا نفراً من بني مجاشع ذوي دين وفضل .فلما استوسق لطلحة والزبير أمرهما خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح ومطر ومعهما أصحابهما قد ألبسوهم الدروع، وظاهروا فوقها بالثياب، فانتهوا إلى المسجد وقت صلاة الفجر، وقد سبقهم عثمان بن حنيف إليه، وأقيمت الصلاة، فتقدم عثمان ليصلي بهم، فأخره أصحاب طلحة والزبير، وقدموا الزبير فجاءت السبابجة - وهم الشرط حرس بيت المال - فأخرجوا الزبير، وقدموا عثمان، فغلبهم أصحاب الزبير، فقدموا الزبير وأخروا عثمان، فلم يزالوا كذلك حتى كادت الشمس تطلع، وصاح بهم أهل المسجد: ألا تتقون أصحاب محمد وقد طلعت الشمس! فغلب الزبير فصلى بالناس، فلما انصرف من صلاته، صاح بأصحابه المستسلحين: أن خذوا عثمان بن حنيف، فأخذوه بعد أن تضارب هو ومروان بن الحكم بسيفيهما، فلما أسر ضرب ضرب الموت، ونتف حاجباه وأشفار عينيه، وكل شعرة في رأسه ووجهه، وأخذوا السبابجة وهم سبعون رجلاً فانطلقوا بهم وبعثمان بن حنيف إلى عائشة، فقالت لأبان بن عثمان: أخرج إليه فاضرب عنقه، فإن الأنصار قتلت أباك، وأعانت على قتله. فنادى عثمان: يا عائشة، ويا طلحة، ويا زبير إن أخي سهل بن حنيف خليفة علي بن أبي طالب على المدينة وأقسم بالله إن قتلتموني ليضعن السيف في بني أبيكم وأهليكم ورهطكم فلا يبقي أحداً منكم. فكفوا عنه وخافوا أن يقع سهل بن حنيف بعيالاتهم وأهلهم بالمدينة، فتركوه .وأرسلت عائشة إلى الزبير أن اقتل السبابجة، فإنه قد بلغني الذي صنعوا بك. قال: فذبحهم والله الزبير كما يذبح الغنم، ولي ذلك منهم عبد الله ابنه، وهم سبعون رجلاً، وبقيت منهم طائفة مستمسكين ببيت المال !. قالوا: لا ندفعه إليكم حتى يقدم أمير المؤمنين فسار إليهم الزبير في جيش ليلاً فأوقع بهم وأخذ منهم خمسين أسيراً فقتلهم صبراً .قال أبو مخنف: فحدثنا الصقعب بن زهير، قال: كانت السبابجة القتلى يومئذ أربعمائة رجل، قال: فكان غدر طلحة والزبير بعثمان بن حنيف أول غدر كان في الإسلام، وكان السبابجة أول قوم ضربت أعناقهم من المسلمين صبراً. قال: وخيروا عثمان بن حنيف بين أن يقيم أو يلحق بعلي، فاختار الرحيل فخلوا سبيله، فلحق بعلي رضي الله عنه، فلما رآه بكى وقال له: فارقتك شيخاً وجئتك أمرد، فقال علي: إنا لله وإنا إليه راجعون! قالها ثلاثاً .قلت: السبابجة لفظة معربة، قد ذكرها الجوهري في كتاب الصحاح قال: هم قوم من السند، كانوا بالبصرة جلاوزة وحراس السجن، والهاء للعجمة والنسب، قال يزيد بن مفرغ الحميري:

    وطماطيم من سبابيج خزرٍ ........ يلبسوني مع الصباح القيودا

    قال: فلما بلغ حكيم بن جبلة ما صنع القوم بعثمان بن حنيف، خرج في ثلاثمائة من عبد القيس مخالفاً لهم ومنابذاً فخرجوا إليه، وحملوا عائشة على جمل فسمي ذلك اليوم يوم الجمل الأصغر، ويوم علي يوم الجمل الأكبر .وتجالد الفريقان بالسيوف فشد رجل من الأزد من عسكر عائشة على حكيم بن جبلة فضرب رجله فقطعها ووقع الأزدي عن فرسه فجثا حكيم فأخذ رجله فرمى بها الأزدي فصرعه، ثم دب إليه فقتله متكئاً عليه خانقاً له حتى زهقت نفسه، فمر بحكيم إنسان وهو يجود بنفسه، فقال: من فعل بك ؟قال: وسادي، فنظر فإذا الأزدي تحته، وكان حكيم شجاعاً مذكوراً. قال: وقتل مع حكيم إخوة له ثلاثة، وقتل أصحابه كلهم، وهم ثلاثمائة من عبد القيس، والقليل منهم من بكر بن وائل، فلما صفت البصرة لطلحة والزبير بعد قتل حكيم وأصحابه وطرد ابن حنيف عنهما اختلفا في الصلاة، وأراد كل منهما أن يؤم بالناس، وخاف أن تكون صلاته خلف صاحبه تسليماً له ورضاً بتقدمه فأصلحت بينهما عائشة، بأن جعلت عبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة يصليان بالناس، هذا يوماً وهذا يوماً .قال أبو مخنف: ثم دخلا بيت المال بالبصرة، فلما رأوا ما فيه من الأموال، قال الزبير: 'وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه'، فنحن أحق بها من أهل البصرة، فأخذا ذلك المال كله، فلما غلب علي عقله رد تلك الأموال إلى بيت المال، وقسمها في المسلمين .وقد ذكرنا فيما تقدم كيفية الوقعة، ومقتل الزبير فاراً عن الحرب خوفاً أو توبةً - ونحن نقول: إنها توبة - وذكرنا مقتل طلحة والاستيلاء على أم المؤمنين وإحسان علي رضي الله عنه إليها وإلى من أسر في الحرب، أو ظفر به بعدها.

    منافرة بين ولدي علي عليه السلام وطلحة

    كان القاسم بن محمد بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي - يلقب أبا بعرة ، ولي شرطة الكوفة لعيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس - كلم إسماعيل بن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه بكلام خرجا فيه إلى المنافرة ، فقال القاسم بن محمد : لم يزل فضلنا وإحساننا سابغاً عليكم يا بني هاشم وعلى بني عبد مناف كافة ، فقال إسماعيل : أي فضل وإحسان أسديتموه إلى بني عبد مناف ؟ أغضب أبوك جدي بقوله : ليموتن محمد ولنجولن بين خلاخيل نسائه كما جال بين خلاخيل نسائنا . فأنزل الله تعالى مراغمة لأبيك : 'وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً' ومنع ابن عمك أمي حقها من فدك وغيرها من ميراث أبيها وأجلب أبوك على عثمان وحصره حتى قتل ، ونكث بيعة علي وشام السيف في وجهه ، وأفسد قلوب المسلمين عليه ، فإن كان لبني عبد مناف قوم غير هؤلاء أسديتم إليهم إحساناً فعرفني من هم جعلت فداك !

    منافرة بين ابن الزبير وابن عباس

    وتزوج عبد الله بن الزبير أم عمرو ابنة منظور بن زبان الفزارية، فلما دخل بها قال لها تلك الليلة: أتدرين من معك في حجلتك ؟قالت: نعم، عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى .قال: ليس غير هذا! قالت: فما الذي تريد ؟قال: معك من أصبح في قريش بمنزلة الرأس من الجسد، لا بل بمنزلة العينين من الرأس. قالت: أما والله لو أن بعض بني عبد مناف حضرك لقال لك خلاف قولك. فغضب، وقال: الطعام والشراب علي حرام حتى أحضرك الهاشميين وغيرهم من بني عبد مناف، فلا يستطيعون لذلك إنكاراً. قالت: إن أطعتني لم تفعل، وأنت أعلم وشأنك .فخرج إلى المسجد فرأى حلقة فيها قوم من قريش، منهم عبد الله بن العباس وعبد الله بن الحصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف، فقال لهم ابن الزبير: احب أن تنطلقوا معي إلى منزلي، فقام القوم بأجمعهم حتى وقفوا على باب بيته فقال ابن الزبير: يا هذه اطرحي عليك سترك، فلما أخذوا مجالسهم دعا بالمائدة، فتغدى القوم، فلما فرغوا قال لهم: إنما جمعتكم لحديث ردته علي صاحبة الستر، وزعمت أنه لو كان بعض بني عبد مناف حضرني لما أقر لي بما قلت، وقد حضرتم جميعاً. وأنت يا بن عباس، ما تقول ؟إني أخبرتها أن معها في خدرها من أصبح في قريش بمنزلة الرأس من الجسد، لا بل بمنزلة العينين من الرأس! فردت علي مقالتي، فقال ابن عباس: أراك قصدت قصدي، فإن شئت أن أقول قلت، وإن شئت أن أكف كففت، قال: بل قل، وما عسى أن تقول! ألست تعلم أني ابن الزبير حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أمي أسماء بنت أبي بكر الصديق ذات النطاقين، وأن عمتي خديجة سيدة نساء العالمين، وأن صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم جدتي، وأن عائشة أم المؤمنين خالتي! فهل تستطيع لهذا إنكاراً !قال ابن عباس: لقد ذكرت شرفاً شريفاً، وفخراً فاخراً، غير أنك تفاخر من بفخره فخرت، وبفضله سموت. قال: وكيف ذلك ؟قال: لأنك لم تذكر فخراً إلا برسول اللة صلى الله عليه وسلم، وأنا أولى بالفخر له منك. قال ابن الزبير: لو شئت لفخرت عليك بما كان قبل النبوة، قال ابن عباس: قد انصف القارة من راماهانشدتكم الله أيها الحاضرون! أعبد المطلب أشرف أم خويلد في قريش ؟قالوا: عبد المطلب، قال: أفهاشم كان أشرف فيها أم أسد ؟قالوا: بل هاشم، قال: أفعبد مناف أشرف أم عبد العزى ؟قالوا: عبد مناف، فقال ابن عباس :

    تنافرني يابن الزبير وقد قضى ........ عليك رسول الله لا قول هازل

    ولو غيرنا يابن الزبير فخرته ........ ولكنما ساميت شمس الأصائل

    قضى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفضل في قوله: 'ما افترقت فرقتان إلا كنت في خيرهما'، فقد فارقناك من بعد قصي بن كلاب، أفنحن في فرقة الخير أم لا ؟إن قلت: نعم خصمت، وإن قلت: لا كفرت !فضحك بعض القوم، فقال ابن الزبير: أما والله لولا تحرمك بطعامنا يا بن عباس لأعرقت جبينك قبل أن تقوم من مجلسك، قال أبن عباس: ولم ؟أبباطل فالباطل لا يغلب الحق، أم بحق ؟فالحق لا يخشى من الباطل !فقالت المرأة من وراء الستر: إني والله لقد نهيته عن هذا المجلس، فأبى إلا ما ترون .فقال ابن عباس: مه أيتها المرأة! اقنعي ببعلك، فما أعظم الخطر، وما أكرم الخبر! فأخذ القوم بيد ابن عباس - وكان قد عمي - فقالوا: انهض أيها الرجل فقد أفحمته غير مرة، فنهض وقال:

    ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا ........ فلو ترك القطا لغفا وناما

    فقال ابن الزبير: يا صاحب القطا، أقبل علي، فما كنت لتدعني حتى أقول، وايم الله لقد عرف الأقوام أفي سابق غير مسبوق، وابن حواري وصديق، متبجح في الشرف الأنيق، خير من طليق .فقال ابن عباس: دسعت بجرتك فلم تبق شيئاً ؟هذا الكلام مردود، من امرئ حسود، فإن كنت سابقاً فإلى من سبقت ؟وإن كنت فاخراً فبمن فخرت ؟فإن كنت أدركت هذا الفخر بأسرتك دون أسرتنا، فالفخر لك علينا، وإن كنت إنما أدركته بأسرتنا فالفخر لنا عليك، والكثكث في فمك ويديك. وأما ما ذكرت من الطليق، فواللة لقد ابتلي فصبر، وأنعم عليه فشكر وإن كان والله لوفياً كريماً غير ناقض بيعةً بعد توكيدها، ولا مسلم كتيبةً بعد التآمر عليها .فقال ابن الزبير: أتعير الزبير بالجبن، والله إنك لتعلم منه خلاف ذلك !قال ابن عباس: والله إني لا أعلم إلا أنه فر وما كر، وحارب فما صبر، وبايع فما تمم، وقطع الرحم، وأنكر الفضل، ورام ما ليس له بأهل.

    وأدرك منها بعض ما كان يرتجي ........ وقمر عن جري الكرام وبلدا

    وما كان إلا كالهجين أمامه ........ عناق فجاراه العناق فأجهدا

    فقال ابن الزبير: لم يبق يا بني هاشم غير المشاتمة والمضاربة .فقال عبد الله بن الحصين بن الحارث: أقمناه عنك يا بن الزبير، وتأبى إلا منازعته! والله لو نازعته من ساعتك إلى انقضاء عمرك ما كنت إلا كالسغب الظمآن، يفتح فاه يستزيد من الريح، فلا يشبع من سغب، ولا يروى من عطش فقل إن شئت، أو فدع، وانصرف القوم.

    ومن خطبة له في الرسول ومن أجدر بالخلافة بعده

    الأصل : أمين وحيه ، وخاتم رسله ، وبشير رحمته ، ونذير نقمته .أيها الناس ، إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه ، وأعلمهم بأمر الله فيه ، فإن شغب شاغب أستعتب ، فإن أبى قوتل ، ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس ما إلى ذلك سبيل ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها ثم ليس للشاهد أن يرجع ، ولا للغائب أن يختار .ألا وإني أقاتل رجلين : رجلاً ادعى ما ليس له ، وآخر منع الذي عليه .الشرح : صدر الكلام في ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويتلوه فصول :أولها : أن أحق الناس بالإمامة أقواهم عليها ، وأعلمهم بحكم الله فيها ، وهذا لا ينافي مذهب أصحابنا البغداديين في صحة إمامة المفضول ، لأنه ما قال : إن إمامة غير الأقوى فاسدة ، ولكنه قال : إن الأقوى أحق وأصحابنا لا ينكرون أنه رضي الله عنه أحق ممن تقدمه بالإمامة مع قولهم بصحة إمامة المتقدمين لأنه لا منافاة بين كونه أحق ، وبين صحة إمامة غيره .فإن قلت : أي فرق بين أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه ؟ قلت : أقواهم أحسنهم سياسة ، وأعلمهم بأمر الله أكثرهم علماً وإجراء للتدبير بمقتفى العلم ، وبين الأمرين فرق واضح ، فقد يكون سائساً حاذقاً ، ولا يكون عالماً بالفقه ، وقد يكون سائساً فقيهاً ، ولا يجري التدبير على مقتضى علمه وفقهه .وثانيها : أن الإمامة لا يشترط في صحة انعقادها أن يحضرها الناسق كافة ، لأنه لو كان ذلك مشترطاً لأدى إلى ألا تنعقد إمامة أبداً لتعذر اجتماع المسلمين من أطراف الأرض ، ولكنها تنعقد بعقد العلماء وأهل الحل والعقد الحاضرين ، ثم لا يجوز بعد عقدها لحاضريها أن يرجعوا من غير سبب يقتضي رجوعهم ، ولا يجوز لمن غاب عنها أن يختار غير من عقد له ، بل يكون محجوجاً بعقد الحاضرين مكلفاً طاعة الإمام المعقود له ، وعلى هذا جرت الحال في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، وانعقد إجماع المسلمين عليه ، وهذا الكلام تصريح بصحة مذهب أصحابنا في أن الاختيار طريق إلى الإمامة ، ومبطل لما تقوله الإمامية من دعوى النص عليه ومن قولهم : لا طريق إلى الإمامة سوى النص أو المعجز .وثالثها : أن الخارج على الإمام يستعتب أولاً بالكلام والمراسلة ، فإن أبى قوتل وهذا هو نص الكتاب العزيز : 'وإن طائفتان من المؤمنين أقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله' .ورابعها : أنه يقاتل أحد رجلين : إما رجلاً ادعى ما ليس له نحو أن يخرج على الإمام من يدعي الخلافة لنفسه ، وإما رجلاً منع ما عليه ، نحو أن يخرج على الإمام رجل لا يدعي الخلافة ولكنه يمتنع من الطاعة فقط .فإن قلت : الخارج على الإمام مدعٍ الخلافة لنفسه ، مانع ما عليه أيضاً لأنه قد امتنع من الطاعة ، فقد دخل أحد القسمين في الآخر !قلت : لما كان مدعي الخلافة قد اجتمع له أمران : إيجابي وسلبي ، فالإيجابي دعواه الخلافة ، والسلبي امتناعه من الطاعة ، كان متميزاً ممن لم يحصل له إلا القسم السلبي فقط ، وهو مانع الطاعة لا غير ، فكان الأحسن في فن علم البيان أن يشتمل اللفظ على التقسيم الحاصر للإيجاب والسلب ، فلذلك قال : 'إما مدعياً ما ليس له ، أو مانعاً ما هو عليه الأصل : أوصيكم - عباد الله - بتقوى الله فإنها خير ما تواصى العباد به وخير عواقب الأمور عند الله وقد فتح باب الحرب بينكم وبين أهل القبلة ، ولا يحمل هذا العلم إلا أهل البصر والصبر والعلم بمواقع الحق ، فامضوا لما تؤمرون به ، وقفوا عند ما تنهون عنه ، ولا تعجلوا في أمر حتى تتبينوا ، فإن لنا مع كل أمر تنكرونه غيراً .ألا وإن هذه الدنيا التي أصبحتم تتمنونها ، وترغبون فيها ، وأصبحت تغضبكم وترضيكم ليست بداركم ولا منزلكم الذي خلقتم له ولا الذي دعيتم إليه .ألا وإنها ليست بباقية لكم ، ولا تبقون عليها ، وهي وإن غرتكم منها فقد حذرتكم شرها ، فدعوا غرورها لتحذيرها ، وأطماعها لتخويفها وسابقوا فيها إلى الدار التي دعيتم إليها ، وانصرفوا بقلوبكم عنها ولا يخنن أحدكم خنين الأمة على ما زوي عنه منها ، واستتموا نعمة الله عليكم بالصبر على طاعة الله ، والمحافظة على ما استحفظكم من كتابه .ألا وإنه لا يضركم تضييع شيء من دنياكم بعد حفظكم قائمة دينكم . ألا وإنه لا ينفعكم بعد تضييع دينكم شيء حافظتم عليه من أمر دنياكم .أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق ، وألهمنا وإياكم الصبر !الشرح : لم يكن المسلمون قبل حرب الجمل يعرفون كيفية قتال أهل القبلة ، وإنما تعلموا فقه ذلك من أمير المؤمنين رضي الله عنه .وقال الشافعي : لولا علي لما عرف شيء من أحكام أهل البغي .قوله رضي الله عنه : 'ولا يحمل هذا العلم إلا أهل البصر والصبر' ، وذلك لأن المسلمين عظم عندهم حرب أهل القبلة ، وأكبروه ، ومن أقدم عندهم عليه أقدم على خوف وحذر ، فقال رضي الله عنه : إن هذا العلم ليس يدركه كل أحد ، وإنما له قوم مخصوصون .ثم أمرهم بالمضي عندما يأمرهم به ، وبالانتهاء عما ينهاهم عنه . ونهاهم عن أن يعجلوا بالحكم على أمر ملتبس حتى يتبين ويتضح .ثم قال : إن عندنا تغييراً لكل ما تنكرونه من الأمور حتى يثبت أنه يجب إنكارها وتغييرها ، أي لست كعثمان أصر على ارتكاب ما أنهى عنه ، بل أغير كل ما ينكره المسلمون ، ويقتفي الحال والشرع تغييره .ثم ذكر أن الدنيا التي تغضب الناس وترضيهم ، وهي منتهى أمانيهم ورغبتهم ، ليست دراهم ، وإنما هي طريق إلى الدار الآخرة ، ومدة اللبث في ذلك الطريق يسيرة جداً .وقال : إنها وإن كانت غرارة فإنها منذرة ومحذرة لأبنائها بما رأوه من آثارها في سلفهم وإخوتهم وأحبائهم ، ومناداتها على نفسها بأنها فاعلة بهم ما فعلت بأولئك من الفناء ، وفراق المألوف .قال : فدعوا غرورها لتحذيرها ، وذلك لأن جانب تحذيرها أولى بأن يعمل عليه من جانب غرورها لأن غرورها إنما هو بأمر سريع مع التصرم والانقضاء ، وتحذيرها إنما هو لأمر جليل عظيم ، فإن الفناء المعجل محسوس ، وقد دل العقل والشرائع كافة على أن بعد ذلك الفناء سعادة وشقاوة ، فينبغي للعاقل أن يحذر من تلك الشقاوة ، ويرغب في تلك السعادة ، ولا سبيل إلى ذلك إلا برفض غرور الدنيا ، على أنه لو لم يكن ذلك لكان الواجب على أهل اللب والبصيرة رفضها ، لأن الموجود منها خيال ، فإنه أشبه شيء بأحلام المنام ، فالتمسك به والإخلاد إليه حمق .والخنين : صوت يخرج من الأنف عند البكاء ، وأضافه إلى الأمة ، لأن الإماء كثيراً ما يضربن فيبكين ، ويسمع الخنين منهن ، ولأن الحرة تأنف من البكاء والخنين

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1