Explore 1.5M+ audiobooks & ebooks free for days

From $11.99/month after trial. Cancel anytime.

كوربولا
كوربولا
كوربولا
Ebook756 pages4 hours

كوربولا

Rating: 5 out of 5 stars

5/5

()

Read preview

About this ebook

كوربولا

فيروس هجين... وعالم يحتضر. وحده شاب يحمل في دمه الأمل الأخير.

في إحدى قرى سيراليون، ينبعث كابوسٌ بيولوجي من أعماق الغابة. "كوربولا" ليس فيروسًا عاديًا. إنه هجين قاتل يجمع بين سرعة انتشار "كورونا" وشراسة "إيبولا"، فيفتك بالجسد والعقل والضمير.

بين صحارى أفريقيا ومخابر أوروبا، تبدأ رحلة "لانا" — الشاب الذي ينجو بالصدفة، حاملاً في دمه مفتاح النجاة. وفي تونس، تقود الطبيبة "مريم" والدكتور "أمير" سباقًا مع الزمن لإنقاذ من تبقّى، بينما يكشف "أسامة" عن مؤامرة مخيفة في كواليس صناعة اللقاحات.

رواية تجمع بين الخيال العلمي، الرعب الوبائي، والدراما الإنسانية. مستوحاة من أحداث حقيقية، لكنها تتجاوزها لتطرح سؤالًا:

ماذا لو كانت نهاية العالم تبدأ منّا؟

⚠️ لعشاق مايكل كرايتون، ستيفن كينغ، وكتّاب التشويق العلمي.

? "كوربولا" ليست مجرد رواية وباء.

  • إنها إنذارٌ مكتوب بالدم.
Languageالعربية
PublisherA-OUNI
Release dateJul 6, 2025
ISBN9798231964031
كوربولا
Author

Anouar Ouni

أنور العوني، كاتب تونسي وأستاذ رياضيات يهوى الغوص في عوالم الخيال العلمي والرعب النفسي، حيث تتقاطع الأسئلة الكبرى حول الإنسان، والمصير، والعلم، مع قصص نابضة بالحياة والوجع والأمل. صاحب سلسلتي "المرعب" و"الكابوس" تميّز بأسلوب يمزج بين الدقّة العلمية، والبُعد الإنساني العميق، والخيال المتجذّر في الواقع العربي. كوربولا هي أحدث أعماله، رواية تتجاوز حدود النوع الأدبي، لتطرح سؤالًا جوهريًا: هل يُمكن للعلم أن ينقذ ما أهمله الضمير؟ لأنور العوني، مجموعة من الأعمال التي تمزج بين الرعب، النفس، والخيال العلمي، والتي لاقت صدى لدى القراء الباحثين عن ما هو أبعد من الواقع. سلسلة المرعب: الجن العاشق : رحلة مخيفة في أعماق علاقة محرّمة بين فتاة وكيانٍ من العالم الآخر. أنهم معنا : عندما يصبح الظلّ أكثر قربًا من الروح، والبيت أكثر غربة من المقبرة. الرصد : عن علوم الرّقيا، الرعب، وما لا يُقال في علم الطاقة والعوالم السفلى. القرين : ما الذي يحدث عندما تنظر في المرآة… ولا ترى نفسك وحدك؟ سلسلة الكابوس : من يُعدم؟ : لعبة نفسية تدور في دهاليز العدل والجنون. هل كل قاتل مذنب؟ ثمن الثروة : رواية عن الجشع، المال، والمقايضة بين النجاح والروح. روايات منفصلة : مصانع الخلود : رواية علمية تخيّلية تكشف أسرار الأهرامات عبر رحلة عالم رياضيات يكتشف أن الحضارة القديمة استخدمت معمارها الخالد لتخزين الوعي… بحثًا عن الخلود.  

Read more from Anouar Ouni

Related to كوربولا

Related ebooks

Related categories

Reviews for كوربولا

Rating: 5 out of 5 stars
5/5

1 rating1 review

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

  • Rating: 5 out of 5 stars
    5/5

    Jul 13, 2025

    Corbola est un véritable chef-d'œuvre du roman de science-fiction et d’horreur psychologique.
    L’intrigue est passionnante du début à la fin, avec des personnages profonds et une atmosphère unique.
    J’ai été transporté dans un monde à la fois terrifiant et captivant, et j’ai ressenti chaque émotion des protagonistes.

    Un grand merci à l’auteur pour cette expérience littéraire exceptionnelle !
    Je recommande vivement ce livre à tous les amateurs de suspense et de romans post-apocalyptiques.

Book preview

كوربولا - Anouar Ouni

الإهــداء

إلى عائلتي...

نبضي الأول، ومرفأي الأخير.

إلى كل من آمن أن الخيال العلمي ليس هروبًا،

بل سؤال عميق في وجه الحقيقة.

إلى عشّاق الرعب...

أولئك الذين يعرفون أن الخوف ليس ضعفًا، بل يقظة.

وإلى أولئك التائهين في المنافي،

الذين ضاقت بهم الأرض في وطنهم،

فاختاروا الرحيل...

لا طلبًا للرفاه، بل فرارًا من الجوع، والقهر، والموت الصامت.

واجهوا البحر... والرصاص... والجدران الباردة... والعنصرية التي لا تُشبههم.

لكم، أنتم الذين تحلمون فقط بأن تعيشوا بكرامة،

وأن تستيقظوا في وطن لا يخيفكم...

هذه الرواية لكم.

أنتم لستم وحدكم.

حين تهمس اللعنة... وتبدأ الحكاية

كان الموت يتسلّل من بين الأشجار،

بلا صوت، بلا استئذان، لا يطرق بابًا ولا يُمهل أحدًا.

في قرية صغيرة منسية في عمق الأدغال،

انطلقت الشرارة.

لم يكن أحد يعلم أن خطى شابٍ يركض حافي القدمين، ستُغيّر مصير العالم.

اسمه لم يكن مدوّنًا في سجلات العظماء،

لكن دمه... كان يحمل لعنة لكل من عرفه.

هذه ليست رواية عن النهاية،

بل عن تلك اللحظة التي قرر فيها الإنسان أن يُقاتل،

لا من أجل المجد، بل من أجل البقاء.

لانا... ذاك الذي اعتبره البعض نذير الشؤم،

وعدّه آخرون الأمل الأخير.

هو اللعنة...

وربما، النجاة الوحيدة لعالم يحتضر.

النجاة لا تبدأ من المختبر...  بل من قلبٍ يؤمن أن الحياة تستحق.

أنورالعوني

الفصل الأول

رحلة الموت

الفصل الأول : رحلة الموت

المشهد 1

المكان: تنجيه - كينيما، شرق سيراليون

الزمان: الاحد 16  أوت 2026

لم تكن كينيما ، المدينة الواقعة في أعماق الشرق السيراليوني، سوى بقعة متواضعة وسط اتساع غابات السافانا الاستوائية، حيث يلتقي النهر بأشجار المانغروف وتتشابك الطرق الترابية الموحلة صيفًا والمغبرة شتاءً.

الجو في أوت كثيفٌ، خانقٌ، يضجُّ بالرطوبة الدافئة التي تخترق الجلد وتترك طبقة من العرق على كل شيء حي.

سحب ثقيلة تلوح في الأفق، وتحتها تنبعث أصوات الحشرات الليلية المتواصلة، كأن الطبيعة ذاتها تهمس بسر عتيق لا يدركه إلا أبناء الأرض.

رائحة الخشب الرطب، والدخان المتصاعد من مواقد الطهي البدائية، ممزوجة برائحة المطر المنتظر، تعطي للمدينة نكهتها الخاصة، حاضرة غائرة في قلب أفريقيا المنسية.

من بعيد، يمكن للمرء سماع نباح الكلاب ونداء المؤذن من المسجد الصغير، إلى جوار كنيسة قديمة مبنية من الطين الأحمر.

كينيما، مثل معظم مدن سيراليون، تحمل آثار الحروب الأهلية، الشوارع غير معبدة تمامًا، المباني متآكلة الطلاء، والأسواق الشعبية تعج بالباعة المتجولين، معظمهم يبيعون الفواكه الاستوائية والسمك المجفف، وأطفال حفاة يركضون بين العربات الخشبية بحثًا عن قروش معدنية.

في هذه البلاد التي تتعافى ببطء من جراح الماضي، يسود جو من القلق وعدم اليقين.

منذ سنوات انتهت الحرب الأهلية الدامية، لكن الفقر باقٍ، والفساد نبتة متغلغلة في جذور الدولة.

السلطة في يد نخبة سياسية تتحدث باسم الوحدة الوطنية لكن الشارع يعرف أن الانتماءات القبلية تظل حاكمة، وأنَّ لغة الكريو لهجة الكريول الإنجليزية المشوبة بالكلمات الإفريقية ،هي الوسيلة الحقيقية للتواصل بين الجميع، جنبًا إلى جنب مع لغات محلية مثل الميندي، والتمني، والليمنبا.

الناس هنا اعتادوا أن يبتسموا رغم الصعاب، أن يغنوا في مواكب الجنائز كما يغنون في الأعراس، وأن يؤمنوا أن الغد قد يحمل معجزة... أو كارثة جديدة.

وسط هذا المشهد، و في قرية تنجيه تبعد 5 كيلومتر عن كينيما، يتحرك لانا بخطوات ثابتة على الطريق الطينية المؤدية إلى تخوم القرية.

شاب في الخامسة والعشرين من العمر، قوي البنية، طويل القامة بالنسبة لجيله، بشرته داكنة تميل للون الشوكولاتة العميقة، كتفاه عريضان، وعضلات ذراعيه واضحة تحت القميص المهترئ. وجهه محفور بملامح إفريقية نقية: فكان عريضين، أنف أفطس، عينان سوداوان تبرقان بالحياة والحذر في آنٍ واحد، وشفتان غليظتان غالبًا ما تغطيان أسنانًا بيضاء قوية.

يحمل بين أصابعه مسبحة من الخرز الخشبي، إرث جدته الراحلة، وعيناه تجولان في الأفق كمن يحمل عبء العالم على كتفيه.

لانا  لم يكن يومًا مجرد شاب من أبناء كينيما، بل كان رياضيًا في مدرسته، يركض أسرع من أقرانه في مضمار البلدة. لكنه اليوم، يشبه طائرًا جريحًا يتلمس طريقه وسط الغابة، يحمل همًا لم يعرفه في حياته من قبل: خوف لم يُسمّه بعد، لكنه بدأ يزحف بهدوء في دمائه.

حين وصل لانا  إلى أطراف قريته، كان الغروب يهبط ببطء فوق الأشجار العالية، فتغدو الألوان رمادية زرقاء، ويخفت صوت الطيور لتحل محله همسات الريح وسط أوراق المانغروف والنخيل. القرية، وإن بدت هادئة للعين الغريبة، تحمل في أعماقها اضطرابًا مكتومًا. الأكواخ الطينية متراصة حول مساحة مستطيلة جرداء يتجمع فيها الأطفال عصراً للعب، لكن اليوم خلت الساحة إلا من صبية يراقبون المارة في صمت، وأمهات يتبادلن النظرات بقلقٍ لم يعد بإمكانهن إخفاؤه.

على جانب الطريق الضيق المؤدي إلى منزل أسرته، كان بإمكانه شم رائحة اليام المسلوق والفلفل الحار، ممزوجة برائحة العرق والتراب الرطب ودخان الحطب.

أصوات نساء يتجادلن بصوت منخفض تتسلل من خلف جدران الأكواخ، تتداخل مع بكاء رضيع وحفيف أجنحة الخفافيش التي بدأت رحلتها الليلية.

في كل زاوية، كانت هناك علامة على أن شيئًا غير مألوف يجثم بثقله على أرواح الناس: عجوز تغسل يديها بالماء والصابون بتوتر متكرر، فتى يمسح أنفه بكم قميصه ويبدو عليه الإرهاق، وامرأة تهمس لجارتها وهي تراقب بيتًا مغلق الباب.

عندما دخل لانا كوخه، لم يكن بحاجة إلى سؤال أي أحد ليعرف أن حالة أمه ازدادت سوءًا.

الغرفة ضيقة، سقفها من القش وجدرانها من الطين، لا يوجد فيها سوى سرير خشبي منخفض عليه حصير باهت اللون. كانت أمه مستلقية على جانبها، جسدها النحيل يلتف حول نفسه كمن يبحث عن الدفء أو الخلاص.

وجهها فقد نضارته الداكنة وصار شاحبًا مائلًا للصفرة، وشفاهها جافة متشققة. قطرات عرق بارد تبلل جبينها، وعيناها تفتحان بصعوبة بين الحين والآخر، تراقب حركة ابنها كأنها تطمئن فقط لوجوده.

يدها اليمنى ترتجف قليلًا كلما حاولت رفعها إلى فمها، وأنفاسها قصيرة متقطعة، يقطعها أحيانًا سعلة خافتة.

منذ يومين، بدأت عليها تلك الأعراض: صداع قوي يتجلى في تكشيرة الألم على وجهها، حمى لا تنخفض مهما حاول لانا ترطيب جبينها أو مناولتها جرعات الماء.

أوجاع شديدة في عضلات الظهر والأطراف كأن سُمًّا قد سرى في عروقها.

اليوم فقط لاحظ خطوطًا دقيقة حمراء تتوزع على ذراعيها، وبقعة دم ظهرت عند طرف فمها.

رغم معاناتها، لم تشتكِ أو تطلب طبيبًا؛ فقط كانت تحدق في ابنها محاولة أن تبتسم كلما اقترب منها.

جلس لانا إلى جانبها، يمسك بكفها الباردة بين يديه القويتين. هوى عليه شعور عميق بالعجز، وكان في نظراته سؤال لم يجد له جوابًا:

لماذا يحدث هذا الآن؟

في الخارج، كان الليل يزحف ببطء، وفي قلب الكوخ كان الخوف يزداد ثقلًا مع كل نفس يصدر عن أمه.

حين ضاق صدره  بحرارة الكوخ وروائح المرض والعرق، خرج ببطء إلى فناء البيت.

الهواء في الخارج أثقل مما في الداخل، لكنه كان بحاجة إلى مساحة يتنفس فيها بعيدًا عن أنين أمه وصورتها المتعبة.

وقف للحظة عند الباب، يغالب دمعة ساخنة لم يشأ أن يراها أحد. إحساس عميق بالعجز يعتصره ، هو الذي كان يظن نفسه قويًا وقادرًا على حماية عائلته مهما اشتدت الأيام. الآن، لم يجد ما يمكن فعله؛ فالمستشفى الحكومي في المدينة لا يبعد كثيرًا، لكنه يدرك أن الفقر سد كل الأبواب: لا مال لديه، ولا وسيلة نقل، والمشفى ذاته غالبًا ما يخلو من الأدوية والأطباء.

الحرب الأهلية التي مرت من هنا قبل عقد تركت خلفها أنقاضًا في كل شيء ، في البيوت، في الطرق، وفي القلوب.

أما الأمل في المساعدة الحكومية فكان أضغاث أحلام، والناس في مثل هذه الحالات يلجؤون للجوجو  مشعوذ القرية، الرجل الذي يدعي القدرة على طرد الأرواح الشريرة وتلاوة التعاويذ على المياه الملوثة، لكن لأنا  لطالما شعر أن كل ذلك هروب من الواقع أكثر منه علاجًا.

ألقى نظرة حزينة على الأشجار القريبة، حيث بدأت الخفافيش الكبيرة تخرج من تجاويف الأشجار مع حلول الغسق.

كانت تحلق فوق الأكواخ في دوائر هادئة، أجسادها السوداء تلمع للحظة عند اصطدامها بضوء الفوانيس المتناثر في الظلام.

اعتاد الناس هنا منظر  النغولو الخفافيش كل ليلة؛ يهمسون أحيانًا أنها جالبة للأمراض، لكنها كانت جزءًا من نسيج القرية مثلها مثل الدخان المتصاعد من مواقد الطهي.

سمع لانا  وقع خطوات ثقيلة تقترب من ناحية الزقاق. التفت ليجد جوزاف، جاره وصديقه، يقترب منه. جوزاف في السادسة والعشرين، شاب طويل القامة نحيل، يرتدي قميصًا باهت اللون وسروالاً قديمًا يكاد يتمزق.

كان وجه جوزاف شاحبًا، تظهر عليه علامات السهر والإرهاق، وعيناه غائرتان كمن لم يعرف النوم منذ أيام. توقف بالقرب من  لانا ، وتنهد بعمق قبل أن يقول بصوت منخفض:

أمي لا تتحسن، أبي وأخي ظهرت عليهما نفس الأعراض... حمى، آلام شديدة، نزيف خفيف من اللثة... لا أحد يعرف ما الذي يجري.

هز لأنا  رأسه بصمت. لم تكن لديه كلمات يواسي بها صديقه، ولا حلول يقترحها. في ذلك المساء، بدت القرية كلها معلقة بين رجاء خافت، وخوف يتسلل ببطء كظل الخفافيش على الجدران.

جلس الشابان على جذع شجرة قديم خلف كوخ لانا ، حيث الهواء أصفى قليلًا والظلام أقل وطأة من الداخل.

للحظة، ساد بينهما صمت ثقيل، فقط أصوات الخفافيش والحشرات تملأ الأجواء.

كان لانا  يحدق في الأفق المظلم، بينما جوزاف يمسك بركبتيه، عيناه تائهتان كمن يبحث عن شيء لم يعد موجودًا.

قال جوزاف أولاً، بنبرة أنهكها التعب:

" في قريتنا كل شيء صار مستحيلًا. لا عمل، لا أمل، حتى الماء النظيف أصبح نادرًا.

أحيانًا أفكر... ماذا فعلنا حتى نستحق كل هذا؟ "

أجاب  لانا  بصوت خفيض:

" لسنا وحدنا. كل القرى هنا هكذا، حتى في كينيما المدينة الناس يعانون. عندما ذهب عمي للعمل هناك عاد كما ذهب... لا شغل، ولا مال.

أطلق جوزاف ضحكة قصيرة حزينة:

الحكومة تقول إن البلاد تتعافى، وأنهم يبنون المدارس والمستشفيات. هل رأيت شيئًا من هذا؟ المدرسة الوحيدة هنا جدرانها متصدعة، المعلم لم يأخذ راتبه منذ شهور. المشفى أقرب إلى مقبرة... كل يوم يموت فيه الناس بسبب الملاريا أو الإسهال" أو أمراض غريبة مثل التي أصابت أمي وأبي.

تدري يا لانا ، سمعتُ مرة في الراديو أن سيراليون من أغنى بلاد أفريقيا بالماس والذهب... لكننا نحن الفقراء لا نرى شيئًا من ذلك."

رد لانا  بمرارة:

رأيت ذات يوم شاحنة حكومية تمر من هنا، تحمل أكياس الأرز والزيت. لم يصل إلينا إلا القليل، أما الباقي... أخذه زعيم القرية وباعه في السوق. كل شيء يُسرق، حتى أحلامنا الصغيرة.

هز جوزاف رأسه في حزن:

وأنت تعلم أن الشباب يهاجرون يوميًا... بعضهم مات في البحر. أحيانًا أفكر أني سأموت هنا مثل أبي وأخي، لا طبيب ولا دواء ولا فرصة لحياة كريمة. كلما أسمع عن الانتخابات في الراديو أضحك... نفس الوجوه، نفس الوعود، ولا شيء يتغير.

تنهد لانا ، وغاصت عيناه في العتمة:

أيام الحرب كان الجميع يخاف من البنادق، الآن نخاف من الجوع والمرض. الحكومة مشغولة بنفسها... الوزراء يسافرون إلى أوروبا للعلاج، ونحن نموت هنا دون حتى أن يسأل عنا أحد.

تابع جوزاف بحسرة:

في بلدان أخرى، الناس إذا مرضوا يجدون مستشفيات وأطباء وأدوية، ونحن حتى الإسبرين أصبح رفاهية. لو كنت أملك مالاً لأخذت أمي وأبي للعاصمة، لكن لا شيء لدينا. أحيانًا أظن أن الفقر مرض وراثي لا شفاء منه.

ظل الصمت يخيّم للحظات، ثم قال  لانا وهو يشد على كتف صديقه:

ربما يأتي يوم أفضل... هكذا يقولون.  لكننا تعبنا من انتظار المعجزات.

ارتفعت أصوات الكلاب من بعيد، وانعكست ظلال الخفافيش على الأرض بينما الليل يغمر القرية أكثر فأكثر. في تلك اللحظة، شعر الاثنان أن الكلام قد صار عبئًا إضافيًا فوق كاهليهما، ولم يبق سوى الانتظار...

وانتظار ما سيحمله الغد من مجهول.

المشهد 2

المكان: صفاقس، جنوب تونس

الزمان:  الاحد 16 أوت 2026

تستيقظ صفاقس مع أولى خيوط الشمس التي تلامس البحر، فتنعكس فوق الميناء القديم وتعانق نخلات الشوارع العريضة. المدينة، ثاني أكبر مدن تونس وأكثرها حيوية في الجنوب، تمتد بمحاذاة الساحل، وتحيطها حقول الزيتون الواسعة من الجهات الأربع.

يبدأ النهار بدفء معتاد في هذا الشهر، حيث ترتفع درجات الحرارة مع تقدم الساعات لتتجاوز الثلاثين غالباً، بينما تتسلل الرطوبة البحرية إلى الأزقة والأسواق.

في وسط المدينة، تنتشر المقاهي التقليدية على الأرصفة، وروائح القهوة والخبز الطازج تختلط بأصوات الباعة المتجولين.

في قلب المدينة العتيقة، الأزقة مرصوفة بالحجر، تظللها عقود قديمة، وتخترقها نسمات البحر. الأسواق تزدحم منذ الصباح بالحركة؛ الخضار والفواكه الموسمية معروضة فوق عربات خشبية، وأصوات الباعة تتعالى بدعواتهم اليومية.

على أطراف المدينة، تتوالى المنازل البيضاء ذات النوافذ الزرقاء، وتنتشر الحدائق الصغيرة حيث شجر الزيتون والرمان. من بعيد، يمكن رؤية مآذن المساجد الشامخة تتوزع بين الأحياء، بينما قطارات الضواحي تمر بهدوء إلى خارج المدينة.

يتميز الجو في صفاقس خلال شهر  أوت بأنه حار نهاراً، غالباً ما يكون نسيم البحر ملاذًا من الحرارة في المساء، حيث تكتسب الشوارع طابعًا هادئًا مع غروب الشمس، ويخرج الأهالي إلى الشرفات أو إلى حدائق البيوت بحثًا عن نسمة عليلة.

وفي الصباحات الباكرة، تعود الحياة لتنبض بين أصوات المقاهي والمعامل والأسواق، ويتجدد النشاط في هذه المدينة التي تعرف بالعمل الدؤوب وروحها التجارية.

في حي طينة ، أحد أحياء صفاقس الراقية والممتدة جنوب المدينة، تصطف الفيلات البيضاء خلف حدائق مشذبة وطرقات هادئة مفروشة بأشجار الزيتون والليمون. واجهات البيوت أنيقة، تعلوها شرفات واسعة بأعمدة مزخرفة، ونوافذ زجاجية تعكس ضوء الصباح اللامع. في هذا الحي، تختلط رائحة الياسمين المنبعثة من الحدائق الخاصة بنسمات البحر القادمة من الشرق، وتتناثر على الأرصفة سيارات حديثة مركونة في نظام، فيما تتوزع محلات المخبوزات والمقاهي الصغيرة عند الزوايا.

صوت العصافير يملأ الجو مع أول ضوء، والهواء يحمل خفة الصيف التونسي: دافئ ولطيف في الصباح الباكر، منعش بنسمات البحر، قبل أن تبدأ الحرارة بالتصاعد مع النهار.

في إحدى تلك الفيلات ذات الباب الأزرق المزخرف، تقع دار عائلة كريم.

المنزل من طابقين، تحيط به حديقة صغيرة تعج بأشجار الليمون وشجيرات الريحان، وزهور الجيرانيوم ذات الألوان الحمراء الزاهية. شرفة واسعة تطل على الشارع، مفروشة بسجاد مغاربي تقليدي وطاولة مستديرة للفطور الصيفي.

داخل البيت، كانت العائلة تستعد ليوم مختلف.

أسامة، شاب في الثانية والعشرين، يضحك مع شقيقته ياسمين ذات التسعة عشر ربيعًا وهما يتشاجران ودياً حول من سيختار الموسيقى في السيارة.

كريم، الأب، يطل من باب المطبخ، وصوته يحمل ذلك المزيج بين الجدية والدعابة:

يلزمنا نمشوا بكري للبحر قبل ما يكثر الزحام!

صابرين، الأم، تحمل سلة القش المليئة بالفواكه والمناشف وترد بابتسامة واسعة:

أهم شيء ما تنساوش واقي الشمس يا ولادي، البحر اليوم مشمس على الآخر.

كان الجو مشحوناً ببهجة الصيف التونسي: ضحكات خفيفة، لهجة صفاقسية دافئة تمتلئ بالمفردات المحلية المحببة، وتبادل مزاح بين أفراد العائلة حول من سيصل إلى الماء أولاً.

نافذة غرفة الجلوس مفتوحة، يدخل منها نسيم البحر ممزوج برائحة الليمون والنعناع، يضفي على الصباح طابعاً من الانتعاش والتفاؤل.

في تلك اللحظات، لم يكن هناك سوى الفرح والبساطة: عائلة متحابة تستعد ليوم صيفي جميل على شاطئ صفاقس، تملأ بيتها الموسيقى والدفء والضحكات الصافية.

في بهو البيت الواسع المغمور بضوء الصباح، كان أسامة يسرع في ارتداء قميص قطني ويضع مفاتيح السيارة في جيبه.

شاب في الثانية والعشرين، قوي البنية، بشعر أسود كثيف وعينين فيهما ذكاء وصبر. كان يضحك وهو يحاول التهرب من نصائح أمه، مستعدًا ليوم جديد في متجر والده حيث يعمل خلال العطلة الصيفية، كما اعتاد كثير من شباب صفاقس.

على الأريكة قرب النافذة جلست ياسمين، أخت أسامة الصغرى، ذات التسعة عشر عامًا. ملامحها هادئة، بشرتها قمحية وشعرها البني الطويل تجمعه على شكل ذيل حصان. كانت تراجع بعض الملخصات الطبية على جهازها اللوحي، فالصيف بالنسبة لها ليس فقط عطلة، بل فرصة للاستعداد لدراسة الطب في تونس العاصمة بعدما تفوقت في الباكالوريا.

أسامة يمازحها قائلاً:

اليوم نهار بحر، وأنتِ غاطسة في القراية! الطبيب يلزم يتفرهد شوية .

تبتسم ياسمين وترد بثقة:

حتى الأطباء يلزمهم يقراو في الصيف! أما البحر اليوم ماهوش هاربو هاني ماشية معاكم.

في المطبخ، كانت صابرين، الأم، منشغلة بتحضير السندويتشات وسلة الفواكه. ربة بيت بكل ما تعنيه الكلمة من حنان واهتمام، عيناها لا تتوقفان عن مراقبة تفاصيل التحضيرات.

تعدّد على الجميع نصائحها اليومية:

حطوا واقي الشمس في الساك، والماء البارد ما تنساوهوش وتفكروا تاخذوا الخبز في الثنية!

أسامة يرد مبتسمًا:

يا أمي أنتِ دايمًا خايفة علينا كأننا صغار.

تضحك صابرين وتعدل قبعة أسامة برفق.

كريم، الأب، يدخل من الحديقة وهو يحمل منشفة كبيرة وقبعة قش.

تاجر معروف في الحي، في منتصف الأربعينات من عمره، جاد في عمله لكنه يحمل في عينيه دفء الأبوة وسعة الصدر.

ينادي أسرته بحزم مرح:

يلا يا جماعة، نهار صيف وما فيش أجمل من يوم على البحر بعد شغل الأسبوع!

يمسك أسامة بحقيبة التبريد ويخرج إلى السيارة، بينما تلحقه ياسمين بابتسامتها الراضية، وصابرين تغلق باب البيت وتطمئن على كل شيء قبل المغادرة.

الجو يملأه الفرح والضحك ولهجة صفاقسية أصيلة، تملأ المنزل نكهة الألفة وروح الصيف التونسي: عائلة متحابة تتقاسم تفاصيل يوم عادي، ببساطته وجماله.

غادرت العائلة حيّهم الراقي في سيارة العائلة الصغيرة، متجهة نحو الشاطئ الشمالي. الطريق يمر بين صفوف طويلة من أشجار الزيتون وبيوت منخفضة ذات أسوار مطلية بالجير الأبيض.

مع كل كيلومتر يقتربون فيه من البحر، تزداد نسمات الهواء انتعاشًا ويخفت صخب المدينة تدريجيًا، لتحل مكانه رائحة الملح وزبد البحر.

كان الطريق يعج بالحياة: دراجات نارية تمر بسرعة، باعة متجولون يجرون عربات الشاي والمرطبات، وعائلات أخرى محمّلة بالمظلات وألعاب الشاطئ. من بعيد، يلمع البحر الفيروزي تحت شمس أوت الساطعة.

داخل السيارة، دار الحديث كما في كل صباح صفاقسي صيفي:

قالت صابرين وهي تراقب المشهد من النافذة:

"والله يا بابا، كثرة الأفارقة في صفاقس أصبحت ملفتة للنظر.

كل يوم نراهم أكثر، بعضهم يسكن في الحومة، والبعض يتسول في الطريق... حتى في الأسواق تلقاهم يخدموا بأسوام أقل من شبابنا."

أسامة، هز كتفيه وقال:

صحيح، برشة منهم جايين عبر الحدود، والبلاد تعبات بيهم، ما يفلتوش حتى  خدمة، و يخدمو باي أجر... حتى صحابي يقولولي ولى صعيب يلقاو صنعة في الصيف.

تدخلت ياسمين، بنبرة هادئة، وهي تنظر إلى أخيها في المرآة:

"أما في الأخير، هم ناس جايين هاربين من الحرب والفقر...

ما عندهمش اختيار، وزيد ساعات يخدموا خدمة شاقة ما يقبلها حتى شاب تونسي."

قال كريم وهو يصلح قبعته تحت الشمس:

"المشكل يا بنتي أن الشباب التونسي يقعد بلا خدمة، والبطالة تزيد.

كي يدخل واحد يخدم بنصف أجر، أصحاب العمل يفرحوا. في الأخير، صفاقس ما هيش قادرة تحتمل كل العدد هذا."

ترد صابرين وقد بدا عليها القلق:

حتى في الحومة، صارت مشاكل برشة: سرقة، شجار، وتحرش. معاش نأمن حتى نبعث ياسمين وحدها للدكان.

ياسمين دافعت عن رأيها بإصرار:

أكيد ثمّة مشاكل، أما ما نجموش نعمّموا. فيهم عائلات محترمة، وجيتهم كانت غصبا عليهم. وصدقني يا بابا، حتى الصفاقسية زمان وقت هاجروا لفرنسا وأوروبا تعرّضوا لنفس الكلام.

أسامة ابتسم وهو ينظر إلى أخته عبر المرآة وقال:

أنت ديما القلب الكبير يا ياسمين، أما الواقع صعيب... نحب نشوف شباب صفاقس يخدم، ويعيش بكرامة. المنافسة ولات قوية، والعيشة زادت غلات.

ابتسم كريم وألقى نظرة إلى البحر الذي اقتربوا منه، وختم النقاش بهدوء:

المهم كل واحد يحافظ على روحه، ونبقاو ديما متحابين ونعاونوا بعضنا... البلاد تمرض لكن ما تموتش.

في تلك اللحظة، ظهر الشاطئ أخيرًا أمامهم، وارتفعت ضحكات العائلة من جديد، فانسابت نسمات البحر لتذيب ثقل النقاش في هواء الصيف المنعش.

اختارت العائلة شاطئ  شط القراقنة ، أحد أشهر الشواطئ في صفاقس، والمفضل لدى العائلات بفضل مياهه الصافية ورماله الذهبية الممتدة.

على امتداد الشاطئ، تنتشر مظلات القش وكراسي البحر الملونة، وأطفال يركضون حفاة فوق الرمل المبلل بينما يعلو صوت الأمواج المتكسرة على الشاطئ.

أشجار النخيل القليلة تتمايل على استحياء، والبحر يعكس زرقة صافية تحت شمس أوت اللاهبة، مع نسيم خفيف يخفف من حرارة الجو ويجلب رائحة ملح البحر وزهر الليمون من الحدائق القريبة.

خلعت ياسمين فستانها الصيفي الخفيف عند المظلة، فظهرت في لباس سباحة محافظ بلون أزرق داكن يبرز قوامها الممشوق: طويلة، رشيقة، كتفاها معتدلان، خصرها دقيق، وسيقانها منسقة كراقصة محترفة. ابتسامتها الواسعة تضفي عليها جاذبية خاصة، وعيناها البنيتان تلمعان تحت أشعة الشمس، تحملان ذكاءً وبهجة الشباب.

تقدمت نحو البحر بخطوات واثقة، تداعب الماء بأناملها ثم ترش أسامة بقليل من الماء، فيضحك ويرد عليها بالمثل.

كريم جلس تحت المظلة يراقب أبناءه ويبتسم، وصابرين بدأت تفرش مائدة الفطور فوق حصيرة القش: خبز عربي، جبن، زيت زيتون، تمر، وفواكه الصيف من بطيخ وتين.

دوى ضحك العائلة على الشاطئ: أسامة يحاول السباحة أسرع من أخته، ياسمين ترد عليه بحركات رشيقة وسريعة.

فيما بعد، اجتمعوا جميعاً تحت الظل، وتناولت ياسمين قطعة بطيخ بيدها الرقيقة، تضحك من قلبها وهي تستمع إلى مزاح والدها وحديث والدتها عن وصفات صفاقسية تقليدية للغداء.

كان البحر يشهد على لحظة صفاء نادرة: عائلة متحابة، نهار صيفي، نسيم عليل، وذكريات تُصنع تحت شمس صفاقس الهادئة.

بينما كانت ياسمين تضحك وتلعب قرب الماء مع أسامة، مرّ بجوارهم مجموعة من الشباب الأفارقة، بدا عليهم المرح والضجيج، يتحدثون بصوت مرتفع بلغتهم الأصلية.

اقترب أحدهم وراح يطلق بعض العبارات المعاكسة، بنظرات لا تخلو من وقاحة. حاول أسامة في البداية تجاهلهم، لكن عندما تمادى أحدهم واقترب أكثر من ياسمين، تدخل أسامة بحزم، طالبًا منهم الابتعاد عنها واحترام المكان.

لم تمر لحظات حتى تصاعد التوتر، وتبادل أسامة وأحدهم كلمات غاضبة، ثم باغته الشاب بلكمة مباغتة في كتفه جعلته يتراجع خطوتين إلى الوراء.

في تلك اللحظة، تدخل رجال الأمن المتواجدون على الشاطئ بسرعة، اقتربوا وهم يطلبون من المجموعة الانسحاب فورًا.

بمجرد رؤية رجال الأمن، تفرق الشباب الأفارقة وابتعدوا بسرعة، تاركين خلفهم أجواء من القلق.

اقتربت صابرين من ابنتها وابنها لتطمئن عليهما، بينما بدا على كريم الغضب والضيق مما حصل. قررت العائلة، وقد تعكر صفو اليوم، أن تجمع أغراضها وتعود إلى البيت في صمت.

غادروا الشاطئ بهدوء، كل واحد منهم غارق في أفكاره، تحمل خطواتهم فوق الرمال طعم الخيبة من حادث عابر كسر لحظة فرحٍ صيفية.

في طريق العودة إلى المنزل، خيّم الصمت الثقيل على السيارة. جلست ياسمين بجوار النافذة، تضم ذراعيها إلى صدرها وقد بدا عليها التأثر مما حدث، بينما كان أسامة ينظر إلى يده التي تلقّت الضربة، يخفي ألمًا خفيفًا وشيئًا من الانزعاج.

قطع كريم الصمت بصوته الهادئ، لكن نبرته حملت شيئًا من المرارة:

قلت لكم، الدنيا تغيّرت... حتى البحر ما عادش فيه راحة.

أجابته صابرين وهي تضع يدها بحنان على كتف ابنتها:

"الحمد لله أننا جئنا في الوقت المناسب، وما حصل شيء خطير. يلزمنا ديما نكونوا حذرين.

قال أسامة، محاولًا طمأنة الجميع:

ما تخافوش، أنا بخير... أحيانًا الواحد لازم ياخذ موقف. لا أحب أن يزعج أحد أختي.

ابتسمت ياسمين ابتسامة باهتة ونظرت إلى أخيها:

شكراً يا خويا... لكن صراحة، لم أعد أحب الذهاب إلى البحر وحدي.

تنهد كريم وهو يركز على الطريق أمامه وقال:

ربي يصلح الأحوال... المهم سلامتكم، والعائلة دائماً بخير.

واصلوا طريقهم في هدوء حتى وصلوا إلى البيت، وكل فرد منهم غارق في أفكاره، يستشعر في أعماقه أن تفاصيل الحياة اليومية صارت تتطلب حذرًا أكبر، وأن الزمن تغيّر بالفعل.

المشهد 3

المكان: تونس العاصمة

الزمان: الإثنين 17 أوت 2026

في قلب العاصمة تونس، كان الدكتور  أمير بن شعبان يتجه بخطوات سريعة إلى عمله في الطابق الخامس من مستشفى شارل نيكول ، أحد أقدم وأكبر مستشفيات البلاد، والمركز المرجعي الأول للأمراض المعدية والفيروسات في تونس.

أمير، في الثانية والثلاثين من عمره، حاصل على شهادة الدكتوراه في علم الفيروسات الطبية (Virologie Médicale)، واختصاص فرعي في الأمراض المعدية الناشئة (Maladies Infectieuses Emergentes). تلقى تدريبه في كلية الطب بجامعة تونس المنار، ثم أجرى أبحاثاً إضافية في: مركز باستور العريق بالعاصمة.

يعمل أمير كـباحث إكلينيكي (Chercheur Clinique) ومتخصص في الفيروسات ضمن فريق مختبر علم الفيروسات (Laboratoire de Virologie Clinique) في المستشفى، حيث تجرى التحاليل الجزيئية المعقدة للعينات القادمة من مختلف أنحاء الجمهورية.

المختبر مجهز بأحدث أجهزة PCR وتقنيات التسلسل الجيني، ويُعد خط الدفاع الأول ضد أي مرض فيروسي غامض قد يظهر في البلاد.

مهمته اليومية تشمل تحليل العينات، تتبع الطفرات الجينية للفيروسات، الإشراف على دراسات ميدانية حول انتشار الأوبئة، والمشاركة في حملات التوعية مع الطاقم الطبي.

كان الجو في المستشفى مشحونًا بالحركة: أطباء وممرضون يتنقلون بين الأقسام، مرضى ينتظرون دورهم في قاعات الانتظار، وروائح المطهرات تختلط برائحة القهوة القادمة من كافتيريا صغيرة في البهو الرئيسي.

أمير يرتدي معطفه الأبيض ونظارته الطبية، يحمل ملفات تحاليل ودفتر ملاحظات إلكتروني. في نظرته مزيج من التركيز والقلق، فهو معتاد على التعامل مع حالات الطوارئ الفيروسية، لكنه يدرك أن أخطر الفيروسات غالباً ما تبدأ بأعراض بسيطة... وقصة جديدة قد تكون في الأفق.

يدخل الدكتور أمير معمل الفيروسات في مستشفى شارل نيكول عند الثامنة صباحًا، كعادته. يسبق الجميع غالبًا، محبًّا للهدوء في الساعات الأولى.

طوله متوسط، بنيته رشيقة، بشرته قمحية تميل إلى السُمرة بفعل ساعات العمل الطويلة تحت إضاءة المختبر. يرتدي دائمًا معطفه الأبيض بعناية، ويمشط شعره الأسود القصير إلى الخلف، بينما تعكس عيناه الداكنتان انتباهًا حادًا وروح بحث لا تهدأ.

في كل صباح، يبدأ بتشغيل أجهزة التحليل الجزيئي، يراجع جداول عمل اليوم على الحاسوب، ويعد قائمة العينات التي ستُفحص.

يدوّن الملاحظات على دفتره الإلكتروني، ثم ينضم إليه زملاؤه تباعًا.

أولهم الدكتورة  مريم بن عاشور ، في التاسعة والعشرين من عمرها، خبيرة في التحاليل المناعية الفيروسية (Sérologie Virale)، معروفة بدقتها وهدوئها. شعرها البني يلتف في ضفيرة، ونظارتها الطبية تضفي عليها مظهر الباحثة الجادة.

هناك أيضاً الدكتور  نزار السالمي، مختص في الكيمياء الحيوية الطبية (Biochimie Médicale)، رجل في منتصف الثلاثينات ذو حس فكاهي، يحرص دائمًا على خفة الدم أثناء تبديل معدات الوقاية أو مراقبة نتائج الأجهزة.

بين الفريق شابة متدربة اسمها ريم ، طالبة دكتوراه في علوم الحياة، تتابع بشغف تعليمات أمير ومريم، وتدوّن كل تفاصيل العمل على لوحها الرقمي.

يمتد الروتين اليومي من استقبال العينات من الأقسام المختلفة: دم، لعاب، مسحات ، إلى تحضيرها ضمن ظروف معقمة في غرفة الضغط السلبي، وبدء التحاليل عبر أجهزة PCR ومعدات الفحص المناعي.

بين التحاليل، يتبادل الفريق الأحاديث القصيرة عن الأخبار العلمية أو خططهم للعطلة الصيفية، مع ارتشاف القهوة التونسية القوية التي يحضرها نزار في زاوية صغيرة من المعمل.

كل فرد من الفريق يعرف مكانته بدقة: أمير يدير العمل ويوجه البحوث، مريم تتابع النتائج النهائية وتدقق البيانات، نزار يراقب ضبط الأجهزة الكيميائية، وريم تلتقط المهارات بصبر الباحثة المبتدئة.

ورغم الروتين، يظل في المختبر شعور خفي بالانضباط والعمل الجماعي ، كل شخص هنا يدرك أن التفاصيل الصغيرة في التحليل قد تصنع الفارق، وأن الدقة والأمانة هما سر النجاح في علوم الفيروسات.

عند منتصف النهار، طرق أحد أعوان نقل العينات باب المختبر. سلّم لأمير صندوقًا محكم الغلق، عليه ملصق يحمل شعار

معهد باستور تونس وتحذير باللون الأحمر: عينة بيولوجية مستعجلة  : يُفتح من قبل مختص فقط.

فتح أمير الصندوق بعناية مرتدياً قفازيه و قناعه، ليجد أنبوب اختبار صغير وملفًا يحمل بيانات الطفل:

الاسم: فارس بن صالح ، العمر: سبع سنوات، من إحدى ضواحي تونس العاصمة، أُحيل إلى المستشفى بعد تعرضه لعضة كلب سائب قبل أسبوع.

تصف التقارير أن الطفل

Enjoying the preview?
Page 1 of 1