Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

في رحاب النبوة: الأنصار (أنشودة العطاء والإيثار)
في رحاب النبوة: الأنصار (أنشودة العطاء والإيثار)
في رحاب النبوة: الأنصار (أنشودة العطاء والإيثار)
Ebook869 pages6 hours

في رحاب النبوة: الأنصار (أنشودة العطاء والإيثار)

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

يتناول الكاتب في هذا الكتاب حياة الأنصار وعطاءهم وإيثارهم ومؤازرتهم للإسام والعمل تحت رايته منكرين ذواتهم ، تاركين حظوظ النفس، واهبين أنفسهم لهذا الدين وللدعوة إليه . كما يوضح هذا العمل كيف عاش الأنصار مع المهاجرين إخوة متحابين.. مستعرضًا منهج حياة الصحابة في تلك الفترة وكيف عايشوا النبي صلى الله عليه وسلم وتعايش معهم وكيف كان عطاؤهم بلا حدود .. في محاولة للاستفادة من تجارب وخبرات وأفعال تلك الفترة المهمة من عمر الأمة.
Languageالعربية
PublisherNahdet Misr
Release dateJan 1, 2015
ISBN9789771452096
في رحاب النبوة: الأنصار (أنشودة العطاء والإيثار)

Related to في رحاب النبوة

Related ebooks

Reviews for في رحاب النبوة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    في رحاب النبوة - رجائي عطية

    تأليف: رجائي عطية

    %20%d8%a7%d8%b3%d9%88%d8%af%20%d9%81%d9%8a%20%d8%b1%d8%ad%d8%a7%d8%a8%20%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%a8%d9%88%d8%a9%20%d8%b9%d9%86%d9%88%d8%a7%d9%86%20%d8%a7%d9%84%d8%b8%d9%87%d8%b1-1.psd

    إشـــراف عـــــام: داليـــــــــا محمــــــــد إبراهيـــــــم

    جميع الحقوق محفوظة © لدار نهضة مصر للنشر

    يحظـــــر طـبــــــع أو نـشـــــر أو تصــويــــر أو تخـزيــــن

    أي جــزء مــن هــذا الكتــاب بأيــة وسيلــة إلكترونية أو ميكانيكية

    أو بالتصويـــر أو خــلاف ذلك إلا بإذن كتابي صريــح من الناشـــر.

    الترقيم الدولي: 978-977-14-5209-6

    رقـــم الإيـــــداع: 83632 / 4102

    الطبعــــة الأولـــى: يناير 2015

    Arabic%20DNM%20Logo_Colour%20Established%20Black.epsArabic%20DNM%20Logo_Colour%20Established%20Black.eps

    21 شارع أحمد عرابي - المهندسين - الجيزة

    تليفـــــــون: 33466434 - 33472864 02

    فاكـــــــــس: 33462576 02

    خدمة العملاء: 16766

    Website: www.nahdetmisr.com

    E-mail: publishing@nahdetmisr.com

    تقديم

    هالني بشدة صنيع من ظنُّوا أن الدنيا لا تستقيم بغير ولاية حكم مآله في النهاية - مهما طال - إلى زوال.. وأمضَّني أن يكون خسران الحكم سبيلًا إلى خسران الدين.. حينذاك لمعت في ذهني أنشودة وفضيلة الأنصار الذين وهبوا أنفسهم لله وللإسلام، فأجزلوا في رحابه العطاء بغير ضنٍّ.. كانوا جديرين بولاية الأمر يوم لحق المصطفى ﷺ بالرفيق الأعلى، ولكن غضبهم لانصراف الولاية عنهم، وما جرت به بعض الألفاظ يوم سقيفة بني ساعدة، لم يمس إخلاصهم للدين الذي آمنوا به وافتدوه بأرواحهم وأنفسهم وأموالهم، ولم يذهب عقولهم، أو يطش صوابهم، أو يصرفهم عن إيثارهم، فبقي عطاؤهم في باحة الإسلام مثالًا على مرِّ الزمان للإيثار وإنكار الذات.. فقد انتصروا للإسلام لا لذواتهم، وكان هذا هو انتصارهم الأعظم، فظلوا على نصرهم في جهادهم تحت راية ولاة الأمور من بعدهم.

    على أن بيان أنشودة الأنصار في العطاء والإيثار لا يعني إغفال عراضة عطاء المهاجرين وإيثارهم، فقد أعطوا وجاهدوا في الله حق جهاده، ويتبدى ذلك في ذات السطور التي استقصت عطاء الأنصار، وتبدى ذلك في جهادهم وتحملهم صنوف الإيذاء والتعذيب والحصار والملاحقة في مكة، مثلما تجلى في مفارقتهم الديار والأموال في هجرتهم إلى الله، وفي جهادهم العظيم إلى جوار الأنصار منذ هاجروا إلى دار الهجرة.

    عن العطاء والإيثار، جرى القلم بهذه السطور، أردت بها أن نستحضر قِيم الإسلام النبيلة؛ لنتقدم بها إلى الإسلام.

    رجائي عطية

    حصار الإسلام والمسلمين

    والمكابدة في مكة!(1)

    تتغيَّا هذه السطور كما أبديت في التقديم، بيان سيرة الأنصار وعطائهم الكبير المقترن بالإيثار للإسلام، وهي صفحات لا يمكن أن توزن وزنها الصحيح، ما لم نتبين ما لاقته الدعوة الإسلامية في مكة قبل الهجرة من حصار وتضييق ومعاندة وإعنات، وما كابده المسلمون الأوائل من ملاحقة وإيذاء وتعذيب منذ تسرب إلى قريش خبر الدعوة وما يتنزل على محمد ﷺ من قرآن، وبدايات انتشار هذه الدعوة شيئًا فشيئًا بين السادة والعبيد في مكة، وطرقها بعض بيوتات قريش.

    لقد بدأ تنزل الوحي على رسول الله ﷺ بالآيات الخمس الأولى من سورة العلق.. أول ما تنزل من القرآن المجيد.. ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)﴾.. يومها لم يتحدث محمد ﷺ بما نزل عليه إلا لزوجته خديجة رضي الله عنها، وتتابع نزول الوحي بآيات من سورة المزمل ثم سورة المدثر.. ليبدأ النبي المصطفى ﷺ رحلة طويلة من المعاناة والعذاب اعترضت دعوته التي اضطلع بعبئها ومضى فيها مهتديًا هاديًا، برغم كل ما قابله من صعاب.. بدأها وحيدًا لم يلاقه ويؤمن به في البداية سوى الصبي علي بن أبي طالب، والصدِّيق أبي بكر.. وتلاهما ما لا يجاوز أصابع اليدين.. يجتمعون سرًّا في دار الأرقم بن أبي الأرقم.. فما يكاد أشراف قريش يستريبون في الأمر، حتى شنفوا للنبي ﷺ واجتمعوا عليه.. منهم من يقول مجنون، ومنهم من يقول كاهن، ومنهم من يقول شاعر.. فتنزلت سورة القلم ترد على استهزائهم.. ومع نزول سورة الشمس، بدأ النبي المصطفى ﷺ في دعوة عشيرته الأقربين، فلم يلب أحد منهم دعوته، بينما توعده أبو لهب وجعل يحرض بني هاشم أن يأخذوا على يديه.. واعترضه اعتراضًا غليظًا حين ذهب ﷺ يدعو قريشًا على الصفا، وجعل يحرض عليه القرشيين ليذهبوا بنذيرهم وتهديدهم إلى عمه أبي طالب.. يدعونه أن يكف محمدًا عنهم، فلما بلغ محمدًا ﷺ ما يطالبون به، قال لعمه: «يا عم.. والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته».. فلا ييئس طواغيت قريش، ويعاودون الذهاب إلى أبي طالب مقايضين في هذه المرة، يعرضون عليه أن يعطوه عمارة بن الوليد ويسلم لهم محمدًا.. فلما أبى عليهم ما أرادوه، انتدبوا عتبة بن ربيعة ليحادث محمدًا ويغريه بالمال والمكانة والجاه والسيادة، فلا يصادف منه - عليه الصلاة والسلام - إلا إصرارًا على المضي في دعوته، وطفق ﷺ يتلو عليه آيات من القرآن.. جعل عتبة ينصت إليها مبهورًا مأخوذًا، ويعود إلى من أرسلوه بغير الوجه الذي ذهب به، فلا تكاد مهمته تفشل، حتى تسعى قريش إلى تحريض الوليد بن المغيرة لمعاودة الكرة، فلا تبلغ قريش بسعيها واستعانتها به شيئًا مما تريد!!

    لا تكف قريش عن المحاولة، فتسعى إلى إعنات محمد ﷺ بأن يسيِّر الجبال عن بلادهم، أو يجعل لهم قصورًا من ذهب، أو يسقط عليهم كِسَفًا من السماء حتى يصدقوه.. فيتنزل عليه الروح الأمين بآيات من سورة الإسراء، تقول في ختامها: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً﴾ [سورة الإسراء، الآية: 93].

    أنشودة الصبر في ملاحقة المستضعفين:

    وحين يئست قريش من التأثير على محمد ﷺ، أمسكت بتلابيب المستضعفين ممن لبوا دعوته، فشهدت بطحاء مكة من صور التعذيب ألوانًا.. أمية بن خلف على رأس رهط من قريش يهدد ويتوعد عبده الأسود بلال بن رباح ليرجع عن الإسلام، فلما أخفق وعيده، انفجر غضبه، وجعل ورجاله يتفننون في تعذيبه في مشهد فظيع.. رأى فيه المكيُّون بلالًا مسجى في بطحاء مكة، وقت الظهيرة، تحت لهيب الشمس الحارقة.. منزوع الثياب إلا ما يستره.. يضربه الطواغيت ويعذبونه ويجلدونه بالسياط، ويضعون صخرة عظيمة على صدره، وأميَّة يشرف عليهم في غيظ وضيق، بينما لا تخرج من بلال مع الأنات والحشرجات سوى كلمة واحدة، ولكنها تبلغ عنان السماء: أحد..أحد.. أحد!!

    تخبُّط قريش وملاحقتها أبناء الأشراف:

    تتابعت بغير انقطاع مشاهد الملاحقة والإعنات والتعذيب.. رءوس الشرك من قريش عاجزون عن إدراك حقيقة ما أتى به محمد - عليه الصلاة والسلام - فهذه أول مرة تصادفهم لغة غير لغة البطش والاستعلاء التي يعرفونها.. يغيظهم ويخيفهم أن الدعوة الهادية تزحف بخطًى حثيثة فتصل إلى الوجدان والعقول والقلوب.. يتساءل الطواغيت: ما بال محمد وصحبه من الفقراء والمستضعفين يجدون من قبول الناس ما عجزت عنه قريش بمكانتها ومالها ونفوذها وجبروتها وسؤددها؟!

    كلما تقدمت الدعوة الإسلامية، طاش صواب قريش وازداد سُعارها.. لم تكتف بتعقب من آمن من العبيد والمستضعفين بالعذاب والنكال.. فجعلت تلاحق مَن آمن مِن أبناء أشراف قريش.. تصانعهم بالحيلة والاسترضاء تارة، وبسلطة الآباء والكبار تارة، وبالجبروت تارات.. بالأمس اجتاحت أبا ذر الغِفَاري يوم اجترأ وأعلن إسلامه، وكادت تجهز عليه مرتين بالكعبة لولا أن نَجَدَه العباس بن عبد المطلب وحذرهم من أن قوافلهم تمر على غِفَار.. وها هي مكة تتحدث عن الحكم بن أبي العاص عم عثمان بن عفان الذي افتعل الأفاعيل للبطش بابن أخيه حتى يقلع عما هو فيه، ويرجع عن الإسلام، بيد أنه لا يبلغ منه شيئًا مما يريد، فلا يتراجع عثمان ولا يلين.. رغم القيود والحبس والارتهان والتجويع.. وها هي «حمنة» أم سعد بن أبي وقاص لا تترك شيئًا لإثناء ابنها عن إسلامه إلا وتطرقه، حتى لم تجد بدًّا من الامتناع حتى الموت عن الطعام والشراب لِتَفُتَّ في عضده، فيقول لها دون أن يفارقه برُّه بأمه: «تعلمين يا أمَّاه، لو كانت لك مائة نفسٍ، فخرجت نفسًا نفسًا، ما تركت ديني هذا لشيء».

    وها هو سعيد بن العاص، لا يطيق ما سمعه عن إسلام ابنه خالد، فيهجم عليه يضربه بالمقرعة حتى انكسرت على رأسه، فلا يزيد خالد على أن يقول لأبيه من تحت وقع الضربات: «قد صدق والله واتبعته.. إنه لصادق وإني به لمؤمن».. ولا يجدي معه الحبس والتجويع، ولا التهديد بأخذه لتعذيبه في رمضاء مكة.. وتتوالى مشاهد التعذيب، فيتحدث المكيون عن الفتى الموثق بيديه إلى عنقه، يدفعه البعض، ووراءه امرأة تدمدم وتسبه، بينما سفهاء صبيان الكفار يتابعونه بصياحهم وسخرياتهم.. إنه طلحة بن عبيد الله، لا تكف أمه الصعبة بنت الحضرمي ومن شايعوها عن إيذائه منذ أسلم، ولكنه صابر لا يلين.. وهو هو ما واجهه الزبير بن العوام، ابن الخمسة عشر عامًا، يتصدى له عمه، فيأخذ في تحريقه وخنقه بلهب ودخان النار ليكفر برب محمدِ؛ حتى يدرأ عن نفسه هذا العذاب، ولكن الزبير لا يجزع ولا يلين، ويقول لعمه في مضاء وتصميم: «والله لا أعود إلى الكفر أبدًا»!

    وبأحد بيوت مكة، مشهد آخر خرجت فيه الأم الجزعة: خناس بنت مالك، عن كل مشاعر الأمومة، حين بلغها أن ابنها مصعب بن عمير.. أنهد وأنعم فتيان قريش، قد صبأ وتابع محمدًا.. فلا يكاد يدخل عليها الدار وتتأكد من صدق الخبر، وإصراره عليه، حتى تتهمه بالعقوق، وتهدده بالحرمان من مالها ونعمتها إذا لم يعد إلى دين آبائه، وتمعن فتحبسه زمنًا لم تبلغ فيه ما أرادت، فتطلق إساره راغمة بعد أن تأكدت أنه لا سبيل لإثنائه عن الدين الذي آمن به!

    تعذيب قريش يعم جميع من أسلموا:

    وفي بيت أم أنمار بمكة، وهي امرأة من خزاعة، مشهد آخر لتعذيب العبيد والمستضعفين.. فهي كانت قد اشترت خَبَّاب بن الأَرَتِّ الذي خُطف وهو غلام من قبيلته بني سعد، وبيع في مكة، فاشترته.. وعاش في بيتها سنوات يخدمها ويعمل بالحدادة.. ولكن ها هي الأخبار تأتيها من قريش بأن عبدها خبابًا قد صبأ وتابع محمدًا وآمن به.. فتستشيط غضبًا، وتأمر غلمانها بربط خباب إلى عمود من أعمدة البيت.. وتأمر بالكور فتشعل فيه النيران، ويلقى فيه بالحديد حتى يحْمَر، ليبادروا به إلى ظهر خباب يكوونه بالحديد مرة بعد مرة، ويشتدون عليه بالعذاب.. يلصقون ظهره العاري بالرَّضف حتى ذهب لحمه.. ولا يدَعونه إلا إذا غاب عن الوعي، فإذا أفاق لاحقوه بالكي والعذاب مرة أخرى!! يوم رآه النبي ﷺ وقد تقرح جسده بما يشبه البرص من جراء التحريق، لم يملك وقد شنفت لهم قريش وتكاثرت عليهم، إلا أن يدعو صحابته إلى الصبر، ويرفع يديه إلى السماء داعيًا لخباب: «اللهم انصر خبابًا».

    في مشهد آخر، بجانب البيت العتيق، لا يبالي عبد الله بن مسعود بأنه بلا قبيلة ولا عزوة ولا نصير له في مكة، فيصنع ما صنعه أبو ذر الغفاري يوم جاهر بإسلامه بالكعبة، لم يخفه ما تعرض له أبو ذر يومئذ من تكالب قريش عليه حتى كادت تفتك به.. فيحزم ابن مسعود أمره على الجهر بتلاوة القرآن بين ظهراني قريش بالبيت الحرام، فيخرج عليهم بالكعبة صادحًا بتلاوة القرآن.. لم تطق قريش صبرًا على ما تسمعه، فانفجر غضب الطواغيت، كيف يجرؤ ابن أم عبد على أن يصدح ويتلو أمامهم ما جاء به محمد، فيتكالبون عليه يوسعونه ضربًا وركلًا حتى يُدْموه، ثم يلقوه خارج الكعبة.. بيد أنه ما إن يُفيق حتى يعاود بإصرار تلاوة ما كان يتلوه من آيات القرآن.

    انتقال التعذيب إلى القتل:

    وسط مشاهد العذاب التي كانت جارية بمكة لرد المسلمين عن دينهم، وإجبارهم على الرجوع إلى الكفر، برز مشهد تعذيب عمار بن ياسر وآله كصورة صارخة للطغيان والجبروت.. فقريش في ثورتها وتخبطها، اندفعت اندفاعًا محمومًا لمطاردة المستضعفين من المسلمين، تنزل بهم من العذاب ألوانًا.. ويبذل الصديق أبو بكر من ماله لعتق المعذبين من العبيد كما فعل لعتق بلال.. وتتحدث مكة عن حكاية امرأة قُتِلَتْ تعذيبًا لأنها رفضت أن ترجع عن الإسلام.. ولم يَسلم النبي ذاته ﷺ من أذى قريش، فكانت أم جميل زوجة أبي لهب تلقي النجس أمام بيته، فيكتفي عليه الصلاة والسلام بأن يزيله، وكان أبو جهل يلقي عليه أثناء صلاته أمعاء الذبائح فيحمل الأذى ويذهب به إلى فاطمة لتزيله عنه وهي تغالب عبراتها على ما يلقاه أبوها.. وتختار قريش لممارسة بطشها آل عمَّار.. الأب ياسر بن عمَّار وزوجته سميَّة وابنهما عمَّارًا.. يذهب أبوجهل على رأس نفر من السفهاء فيحرِّقون دارهم تحريقًا ويخربونها، ولا يكاد يمضي على ذلك يوم إلا ويحملونهم إلى رمضاء مكة تحت وهج الشمس الملتهبة.. يتناوبون ضربهم بالسياط، ويضعون الأحجار الثقيلة على صدورهم وبطونهم، وعلى أطرافهم جمرات النار.. لم يطرف لأحد من أبناء مكة جفن وهم يرون أفراد هذه الأسرة مجردين من ملابسهم، وقد ألقوا تحت الشمس المحرقة، ترتفع أنَّاتهم مع ضربات السياط وهم يرددون مع الحشرجات: أحد.. أحد.. أحد.. أحد.. يمُر النبي ﷺ ومعه عثمان بن عفان، فيفجعهما ما يريان، ولا يملك ﷺ إلا أن يدعو ربه: «يا نار.. كوني بردًا وسلامًا على عمَّار، كما كنتِ على إبراهيم».. ويلتفت ﷺ إلى المعذبين فيدعوهم إلى الصبر ويدعو لهم: «اللهم اغفر لآل ياسر.. صبرًا آل ياسر، إن موعدكم الجنة».

    بيد أن أبا جهل لا يهدأ، ويصدمه أن أم عمَّار لم تبال بتهديداته، ويزداد هياجه فيسدد إليها بحربته طعنة قاتلة تخرج معها روحها إلى بارئها.. بينما تتزايد على زوجها وابنها ضربات السياط وقذائف الأحجار، فما يزيد ياسر وعمَّار على ندائهما الأثير: أحد.. أحد.. أحد.. أحد.. فينقض أبو جهل على ياسر ضاربًا إياه ضربات غاشمة حتى شهق شهقة هائلة لحقت بعدها روحه بروح زوجته سميَّة!

    دعوة المعذبين إلى التفرق في الأرض :

    إزاء هذا الطغيان، وبطشات قريش، وفي دار الأرقم بن أبي الأرقم، جعل النبي ﷺ يسمع إلى شكايات أصحابه: الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، ومصعب بن عمير.. وغيرهم.. مما يلاقونه ويلاقىه المستضعفون من طغيان قريش.. فينظر ﷺ إلى صحابته حانيًا رفيقًا وقد انفطر قلبه على ما يلاقونه من هول ومن عذاب شديد في الله.. ويقول لهم في عطف رحيم: «تفرقوا في الأرض.. فسيجمعكم الله تعالى».. وحين يسألونه: إلى أين ؟يقول لهم: «الحبشة.. فإن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه»!

    الهجرة الأولى ومطاردة المهاجرين بالحبشة:

    هاجر من هاجر من المسلمين إلى الحبشة فرارًا من طغيان وجبروت وبطش قريش التي أقامت خطًّا من التعاون مع اليهود بالمدينة للتآمر على الإسلام ورسوله، بيد أن قريشًا لم يرضها أن يهاجر من هاجر من المسلمين إلى الحبشة، ولا أرضاها أن الأنباء تناهت إليها بأنهم يلقون معاملة حسنة في الحبشة النصرانية، فاجتمع الملأ من قريش على انتداب من يسافرون إلى الحبشة لتسقط الأخبار هناك وإفساد الأمور على المسلمين، وتختار قريش لهذه المهمة عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة اللذين لم يألوا جهدًا لأداء مهمتهما، فاجتمعا ببطارقة الحبشة لتأليبهم على المسلمين، وتوسلا بهم إلى مقابلة النجاشي لتحريضه على المهاجرين بقالة إنهم من السفهاء الذين فارقوا دين قومهم، وأن ما يدينون به يخالف النصرانية وما تراه في المسيح - عليه السلام، بيد أن النجاشي يأبى أن يستجيب إلى طلبهم إبعاد هؤلاء إلا بعد أن يدعوهم ويسألهم، فلما فعل، واستمع إلى ما أبداه جعفر بن أبي طالب من توضيح، تأثر النجاشي بما سمع، وبكى حتى اخضلت لحيته، وقال لمن حوله: «إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة».. ثم ينهر عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، ويردهما عن بلاده دون أن يجيبهما إلى ما أرادا به الكيد للمسلمين!

    قريش يطيش صوابها بإسلام حمزة وعمر :

    لم تهدأ قريش، بل زاد سعارها بعد أن أسلم عمر بن الخطاب بعد إسلام حمزة بن عبد المطلب.. فجعل تعرضهم لمحمد ﷺ يزداد، وأخذوا يتفننون في إيذائه والتعرض له والتحرش به، وأزمع بعضهم أن يعتدوا عليه بالمسجد أثناء صلاته.. وأخذت قريش تتميز غيظًا، ويطيش ما بقي من عقلها.. لا تدري ما تفعل لمحاصرة هذه الدعوى التي أقَضَّت مضاجعها وتنتشر يومًا بعد يوم.. ورغم كل شيء.. يتساءلون: ما سر هذا الإسلام الذي فعل ويفعل بهم الأفاعيل؟! هو إذن محمد، ولا نجاة لقريش، ولا وأد للإسلام، ما لم يحاصروا محمدًا وبني هاشم أجمعين.

    حصار بني هاشم في شعاب مكة:

    يجتمع رءوس الكفر في منتدى قريش، تحضره جميع بطون وأفخاذ القبيلة، يجترون ما سلف من إخفاقهم وخذلانهم، ويلومون أنفسهم على أنهم لم يقتلوا محمدًا، وكيف طاشت محاولاتهم محاصرة دعوته حتى أسلم حمزة ثم عمر.. فلا بد إذن من الحصر والحصار، وأجمع الحاضرون على منابذة بني هاشم وإخراجهم جميعًا من مكة إلى الشِّعب.. وأجمعوا على «صحيفة» كتبوها وعلقوها في جوف الكعبة.. تعاقدوا وتعاهدوا فيها على ألا يُنكحوا بني هاشم ولا ينكحوا إليهم ولا يبيعوهم شيئًا ولا يبتاعوا منهم، ولا يقبلوا منهم صلحًا، ولا تأخذهم بهم رحمة ولا شفقة ولا رأفة حتى يسلِّموا إليهم الرسول ﷺ ليقتلوه!!!

    * * *

    مرت ثلاث سنوات والرسول ﷺ، هو وبنو هاشم، محصورون في شعاب مكة، لا يزارون ولا يزورون، ولا يباع إليهم ولا يبتاعون، ولا يتزوج منهم أحد، ولا تسمح قريش لهم بأن يصهروا إلى أحد منها.. والحياة المحصورة في الشِّعْب لا شيء فيها من أسباب الحياة.. لا كلأ ولا مرعى ولا سبيل إلى الماء إلا بشق الأنفس!! وكلما مضت الأيام اشتد الحصار الذي أملت به قريش أن تفسد ما بين النبي ﷺ وبين بني هاشم، فينقلبوا عليه ويحاربوا فيه «السبب» المعزو إليه ما حاق ويحيق بهم.. ولكن طواغيت قريش لم يبلغوا شيئًا مما يريدون.. بل ولم يفت ما يفعلونه في عضد الرسول ﷺ، فكان ﷺ يغتنم الأشهر الحرم التي درجت مكة على احترامها وكف الأذى فيها عن الناس؛ لينزل ﷺ من الشِّعْب ليلاقي بمكة العرب الحاجين إلى البيت الحرام حسبما اعتادوا في الجاهلية، فيتحدث

    إليهم ويدعوهم إلى دين الله ويبشرهم وينذرهم، غير مبالٍ بما يناله من أذى قريش، صابرًا على ما يصادفه من إيذاء في سبيل القيام برسالته!

    ومع طول المقاطعة القرشية لبني هاشم وحصارهم والرسول ﷺ، جعل بعض الناس يخجلون مما يعانيه بنو هاشم من الجوع وشظف العيش في جبال الشِّعْب، وبدأ الموقف في التفجر حين اعترض أبو جهل سبيل حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، بأحد أزقة مكة؛ لأن معه غلامًا يحمل قمحًا لتسريبه إلى عمته خديجة زوج الرسول ﷺ، واحتدم الشجار بينهما، وتصادف مرور أبي البَخْتريِّ بن هشام بن الحارث، ومع أنه كان من كبار كفَّار مكة، إلا أنه لم يرضه مغالاة أبي جهل وتعسفه، فاشتبك وإياه ووطئه حتى شجه، وأخلى الطريق لحكيم بن حزام وغلامه ليذهبا بالقمح إلى عمته.. وجعل آخرون يحتالون لتسريب الطعام للجائعين في الشِّعْب، فجعل هشام بن عمرو يحمل بعيرًا من وقت لآخر بما يستطيع تحميله من الطعام ويتجه به ليلًا إلى الشِّعْب، حيث يخلع هناك حبل البعير ويدفعه ليتلقاه المحاصَرون هناك بما يحمله من طعام لنجدة المحاصرين المحصورين!!

    نبأ الصحيفة القرشية المعلقة بجدران الكعبة:

    وفي الوقت الذي بدأ آخرون ينضمون شيئًا فشيئًا إلى المتعاطفين مع بني هاشم، ويحزمون أمرهم على الجهر بالاعتراض على هذا الإسراف الشديد في القطيعة والحصار والقسوة، وفي نيتهم شق الصحيفة المعلقة بجدران الكعبة، تصدى لهم أبو جهل ومن يشايعونه، وعلا الصخب بين الفريقين، ليفاجأ الجميع بأبي طالب وقد حضر ليخبرهم أن ابن أخيه محمدًا ﷺ قد أخبره بأن صحيفتهم قد هلكت إلا اسم الله المكتوب فيها.. لم يصدق السامعون إلا حين اندفعوا إلى داخل الكعبة ليفاجئوا بأن صحيفتهم قد هلكت فعلًا، ولم يبق منها إلا اسم الجلالة.

    شتاء الأحزان برحيل أبي طالب وخديجة:

    ما إن يرفع الحصار - بهلاك الصحيفة وقد ارتبكت قريش وطاش صوابها- إلا ويزحف عام الأحزان الذي امتحن فيه المصطفى ﷺ امتحانًا شديدًا صعبًا برحيل أعز الأحباب الذين كانوا سندًا له على هذه الشدائد التي لاقاها ويلاقىها منذ بدأ في الجهر بدعوته.. مرض عمه وسنده أبو طالب، ولم يلبث أيامًا حتى فارق الحياة، وفي اليوم الثالث لدفنه مرضت خديجة عليها الرضوان مرضًا شديدًا، والنبي ﷺ قائم مع بناتها على رعايتها.... تتحرك أشجانه، وتطوف بصفحة وجدانه أطياف متتابعة من الذكريات.. إنه ليذكر كيف كانت خديجة طوال هذه السنوات قبسًا مضىئًا من الحب الصادق والإخلاص العميق.. كيف كانت السند والعطاء والمشورة والأمان.. وإنه ليذكر كيف أفرخت روعه يوم أتاه الوحي.. دثَّرته وزمَّلته.. تقول له: أبشر يا ابن عم واثْبت.. فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة.. إنك لتصل الرحم وتحمل الكَلَّ وتكسب المعدوم وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق، ولن يخزيك الله أبدًا.. تبادر إلى ورقة بن نوفل، تحكي وتستفسر، وتعود إليه حانية مُطَمْئِنة، تقول له: إنك لنبي هذه الأمة.. وإن محمدًا ﷺ في إشفاقه هذا وطوفان الذكريات التي ألمت بخاطره، ليذكر كيف كانت خديجة رفيقة ناصحة أمينة تشد من أزره، وتتحمل معه سفاهات قريش وإعناتها واضطهادها وأذاها.. مثال الزوجة الحانية الحصيفة راجحة العقل والفكر، صافية الرؤية.. نصرته حين خذله الناس، ومنحته من الحنو والسند ما أعانه على احتمال شطط وشطحات قريش وما لقي من كفارها من الإيذاء والإعنات.. هي ملاك الحب والبر والطهارة.. قاسمته الأيام، وسرت عنه حين فقدا معًا ما فقداه من ذرية الذكور.. هي التي أعقبت له من عاش لهما من إناث هن قرَّة عينه.. زينب ورقيَّة وأم كلثوم وفاطمة.. أترى الخطوب قد اجتمعت وألمت؟!.. بالأمس فقد أبا طالب، أفسيفقد خديجة أيضًا؟!! ينظر ﷺ إليها مشفقًا يغالب قلقه وحزنه.. وقد أدرك أن ساعة الرحيل قد حانت.. تمتلئ نفسه إشفاقًا.. وهو يرى عبراتها قد سالت وهي تقول: ما أشق الفراق! فيواسيها ﷺ قائلًا: سيكون لقاء في الجنة إن شاء الله! وهي تكرر من ورائه في إيمان عميق: إن شاء الله، وتفيض روحها إلى بارئها والنبي ﷺ إلى جوارها يتشهد ويسبل عينيها في تسليم.

    تتابع الخطوب وإيذاء النبي:

    وتتتابع الخطوب، وتمضي قريش في إعناتها للرسول ﷺ فيعترضه أحد السفهاء وهو راجع من دفن خديجة 108972.jpg ، فيحثو التراب على رأسه الشريف، ثم يبادر بالفرار.. فلا يكاد ﷺ يصل إلى داره، حتى تستقبله فاطمة جزعة مما تراه على هامته الشريفة، وتنهض تغسل التراب عنه وهي تبكي.. لا تستطيع أن تغالب عبراتها.. تهمي عيناها بدمع غزير إشفاقًا على ما أصاب أباها!! فيقول لها حانيًا واثقًا وهو يربت عليها: «لا تبكي يا بنية! فإن الله مانع أباك»!

    والغريب المدهش أن أبا لهب، الذي لم يهده نور الإسلام، دفعته النعرة القبلىة لاصطناع مناصرة الرسول ﷺ بعد موت عمه أبي طالب، فيذهب إليه في داره مبديًا اعتراضه على ما أزمعته قريش للتنكيل به والكيد له، واعدًا أن يبذل في مساندته ما كان يبذله أخوه أبو طالب، مقسمًا باللات والعزى إنه لن يصل أحد إلى محمد بما يكرهه ما دام أبو لهب حيًّا! ولكن أبا لهب لا يلبث أن يرتد عن وعده حين تسخر منه قريش وتعايره بأن محمدًا يخوض في أبيه عبد المطلب، فلما سألهم: كيف ؟ قالوا: لأن الدين الذي أتى به محمد يجعل مثواه النار، فيرتد أبو لهب عما وعد به بدافع النعرة القبلىة، ويعود إلى موقعه وسط رءوس الكفر المتربصين بالرسول ﷺ!

    ولا يكاد يمضي يوم أو يومان، إلا وينتهز الطواغيت فرصة خلو النبي ﷺ إلى صلاته في حِجْر الكعبة، فيتهجم عليه السفهاء وهو في صلاته.. هذا يَجَؤُه، وهذا يدفعه بعنف، ويقولون له ساخرين: أنت الذي جعلت الآلهة إلهًا واحدًا؟!.. ويتقدمهم عقبة بن أبي مُعَيْط، فيضع ثوبه على عنقه الشريف، ويأخذ في خنقه خنقًا شديدًا.. ويتصادف مرور أبي بكر رضي الله عنه، فيرى هذا المشهد المفزع، فلا يكاد يلمحه حتى يطير طيرانًا إلى رسول الله ﷺ، يدفع عنه هؤلاء السفهاء، ويأخذ بمنكبي عقبة بن أبي معيط ويدفعه دفعًا شديدًا عن رسول الله وهو ينادى في القرشيين منتهرًا: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟!

    بيد أن قريشًا لا تخجل ولا تتورع عن كل صغيرة.. يخرج النبي ﷺ من داره، فيجد السفهاء قد ألقوا أمام بابه بسقط الذبائح وجلودها وأمعائها.. فلا يزيد ﷺ وهو يرفع الفضلات من أمام الباب على أن ينادي فيهم: «يا معشر قريش..يا بني عبد مناف.. أي جوار هذا؟!».

    وفي صحن الكعبة، انبرى أبو جهل للنبي ﷺ وهو قائم يصلي، فحرض عليه رءوس الكفر، وأتى إليهم بدهن جزور مذبوح بأمس وسألهم: مَنْ يأخذه فيضعه على كتف محمد إذا سجد؟ فيرحب عقبة بن أبي معيط بالقيام بهذه المهمة المقيتة، وينطلق إلى حيث يحمل بقايا الجزور المنحور، ويراقب محمدًا، حتى إذا سجد، قذف بما يحمله على ظهر النبي ﷺ، ولكنه ﷺ لا يصرفه شيء عن صلاته، ويستمر في سجوده، ولكن فاطمة الزهراء تظهر في الأفق، فترى ما على كتفي أبيها المصطفى وهو ﷺ ماض في صلاته، فتقترب وتطرح عن ظهره الشريف ما ألقوه عليه، حتى إذا ما فرغ ﷺ من صلاته، لم يفعل سوى الدعاء إلى ربه: «اللهم عليك بالملأ من قريش.. اللهم عليك بأبي جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط».

    وفي طريق عودته إلى داره، يصادفه ﷺ أبو البختري بن هشام، فيرى ما هو عليه من حزن، فلا يتركه إلا بعد أن يخبره بما كان، وما يكاد أبو البختري يسمع حتى يطير غاضبًا إلى أبي جهل فيعلوه بالسوط حتى يفرق القرشيون بينهما!

    إلى الطائف رغم كل شيء:

    لا يكاد يمضي يوم إلا وتتابع قريش تآمرها ونكاياتها وأذاها، وتحرض الجهلاء والسفهاء على ملاحقة النبي ﷺ بالإيذاء والسخرية والاستهزاء.. وهو ﷺ صابر على ما تنوء به الجبال الرواسي.. لا يجزع ولا يخاف، ويصبر ويحتسب.. بل هو في معاناته الشديدة، لا يألو جهدًا في سبيل الاستمرار في هدايته ودعوته لتبلىغ رسالة ربه.. طفق ﷺ يرنو ببصره إلى الطائف عله بالغ مع أهلها ما يفرج ما يلاقىه والمسلمون من كربات من طواغيت قريش وكفار مكة.. إن أهلها ألين جانبًا بطيب العيش والمناخ فيه.. وفي ليلة من ليالي شوال السنة العاشرة للمبعث ينهض الرسول ﷺ ويغادر بيته مترجلًا مستترًا عن عيون قريش بظلام الليل البهيم.. لا مطية ولا راحلة، وحيدًا بلا رفيق إلا إيمانه بالله عز وجل وبالرسالة التي بعث لتبلىغها.. على قدميه الشريفتين يبدأ رحلته الطويلة الشاقة.. يسير ليلًا اتقاء العيون وقيظ الصحراء اللافح!! ويأوي إلى أي ظل ينام تحته نهارًا.. تمضي الأيام وهو إلى مقصده بالطائف يمضي.. يومًا وراء يوم.. عبر الصحراء القاحلة، فؤاده مشدود إلى الله، وغايته إلى الله.

    إيذاء الهادي البشير في الطائف:

    بعد أيام من خروج المصطفى ﷺ من مكة، وصل إلى مشارف الطائف، تطل منها الحدائق والرياض الخضر.. يتلمس النبي ﷺ أحدًا من ثقيف يتحدث إليه.. يقصد دار أبناء عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف: عبد ياليل، ومسعود، وحبيب.. وكان أحدهم قد تزوج امرأة من قريش من بني جُمح.. يتحدث إليهم النبي ﷺ فيما جاء له.. ويمضي في بيان دعوته إلى الله تعالى ونبذ عبادة الأصنام.. وما كان من قريش وطغيانها وإعناتها وصدودها!!

    لم يسمع - عليه الصلاة والسلام - من هؤلاء إلا السخرية والاستهزاء، فيتنطع عبد ياليل ويقول للنبي ساخرًا: «لأقطِّعن وأهتكن ثياب الكعبة إن كان الله قد أرسلك»!.. ويقفي مسعود مستهزئًا: «أما وجد الله أحدًا يرسله غيرك؟!».. بينما يقول حبيب: «واللات لا أكلمك أبدًا.. لئن كنت رسولًا من الله كما تقول لأنت أعظم حقًّا من أن أكلمك، ولئن كنت تكذب على الله لأنت شر من أن أكلمك»!

    يقابل الرسول ﷺ سخريتهم بثبات لا يتزعزع، وينصرف حزينًا آسيًا دون أن يعلق على ترهاتهم بشيء، ويمضي ﷺ ماشيًا في أزقة الطائف لتبلىغ رسالته التي أتى من أجلها، ولكن السفهاء لا يدَعونه وحاله.. فقد تآمر الثلاثة الذين لاقاهم من ثقيف، وأفشوا إلى قومهم ما يراجعونه ويصدونه ويعنتون به.. أقعدوا له في طريقه صفَّين من الرجال المتأهبين بكل الأدوات للإيذاء.. وأغروا به السفهاء والغلمان والعبيد يسبونه ويصيحون به أن اخرج من بلدنا، وظلوا في صياحهم ونكيرهم حتى اجتمع عليه الناس وسدوا أمامه الطريق.. والنبي ﷺ يحاول المرور بينهم، فما كان منهم إلا أن جعلوا يقذفونه بالأحجار.. لا يرفع ﷺ رِجْلًا ولا يضع رِجْلًا إلا رضخوها بالأحجار، حتى دميت رجلاه وقدماه وتخضبت نعلاه بالدماء.. كلما أذلقته الحجارة، قعد ﷺ إلى الأرض، فيأخذون بعضديه ويقيمونه، فإذا مشى يرجمونه وهم يتضاحكون مستهزئين.. والنبي ﷺ لا يستطيع أن يستخلص نفسه منهم إلا بعناءٍ شديدٍ ومشقةٍ بالغة.. يلمح بعد طول معاناة - حائطًا لبستان على مرمى البصر.. فيذهب إليه ويخلص إلى ظل نخلة وكرمة عنب وهو مكروب موجع مخضب القدمين والساقين بالدماء.. لا يكاد يكفكف بعض ما أصابه حتى يكتشف أن الحائط والبستان لعتبة بن ربيعة وشقيقه شيبة.. لقد سلف ورأى منهما ما عاناه بمكة من عداوتهما وتظاهرهما مع قريش على النكير والكيد له وإيذائه.. وها هي الأيام ترميه بهما في طريقه بالطائف حيث التمس بها الخروج من حصار وأذى قريش له في مكة، فما زادوا عليه بالطائف إلا المزيد من النكير والإعنات والإيذاء!!

    وبداخل البستان، جعل عتبة وشيبة يتناجيان وهما يشاهدان ما ألمَّ بالنبي ﷺ، ليقول شيبة لأخيه: لعله يلتمس النصرة من ثقيف ليمنعوه من قومه! فيجيبه عتبة بأنه لا يرى إلا أن ثقيفًا قد شنفت له هي الأخرى، وأنه لا يراه إلا هالكًا وقد أوسعوه رشقًا ورضخًا بالحجارة!

    دعاء النبي إلى ربه:

    إلى جدار البستان، استند النبي ﷺ في ظل الكرمة وقد نزفت جراحه نزفًا شديدًا وبلغ به الإعياء والتعب كل مبلغ.. تهتاج مشاعره من الضيم الذي يلاقىه، والأذى الذي يلاحقه، والعذاب الذي يتحمله وتنوء به الجبال الرواسي.. فتسيل عبراته، وهو يتجه إلى السماء داعيًا: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلَّة حيلتي، وهواني على الناس.. يا أرحم الراحمين.. أنت رب المستضعفين وأنت ربي.. إلى من تكلني؟! إلى بعيد يتجهمنى، أو إلى عدو ملَّكته أمري؟!!. إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي.. ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، مِن أن تنزل بي غضبك أو تحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك »!

    في طريق العودة من الطائف إلى مكة:

    في طريقه الشاق الطويل عائدًا فريدًا وحيدًا إلى مكة، بعد أن لاقى ما لاقاه من عنت ثقيف وتعديات واستهزاء غلمان الطائف وسفهائها.. طفق - عليه الصلاة والسلام - يسائل نفسه مشفقًا كيف سيستقبله طواغيت قريش وقد علموا ما لا بد قد تناهى إليهم من أمر ما فعلته ثقيف وسفهاء الطائف به؟ وإنه عليه الصلاة والسلام لفي طريق عودته حزينًا مهمومًا من أفاعيل من أراد لهم الهداية بإبلاغهم رسالة ربه فقابلوه بالصد والنكير والإعنات والعدوان والاستهزاء.. يلم به هاتف من الوحي أنه إن شاء فإن الله يطبق على قومه الأخشبين - الأخشب من الجبال الخشن غليظ الحجارة - ويخسف بهم الأرض.. ولكنه ﷺ لا يملك بفيض رفقه وكرمه وحلمه ورحمته، إلا أن يقول لجبريل - عليه السلام: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله عزَّ وجل ولا يشرك به شيئًا».

    ملاحقة قريش وإيذاؤها لأبي بكر:

    لم تغفر قريش لأبي بكر أنه اشترى ثم أعتق من العبيد - من استهدفتهم قريش بالتعذيب ممن اتبعوا ما جاء به محمد - عليه الصلاة والسلام - فجعل هؤلاء الكفار يتربصون به لإيذائه.. واجترأ بعضهم على ضربه بالبيت العتيق ضربًا شديدًا شارك فيه عتبة بن ربيعة.. حيث جعلوا يضربونه على وجهه بنعلين مخصوفتين فأصابوه بإصابات بالغة، حتى جاء بنو تميم يتعادون، فأجلوا هؤلاء المشركين عن أبي بكر، وحملوه في ثوب إلى منزله وهم يخشون موته، وأقسموا لئن مات ليقتلن به عتبة بن ربيعة!

    فكر أبو بكر وقد ضاقت عليهم مكة بما رحبت، وكثر أذى المشركين للرسول - عليه الصلاة والسلام - له وللمسلمين، فكر فيما أمرهم به الرسول من الهجرة والتفرق في الأرض حتى يقضي الله أمره.. وإنه لفي طريقه بمكة تراوده فكرة الهجرة، التقاه ابن الدغنة سيد الأحباش، فقطع عليه الطريق يسأله: إلى أين ؟ فيجيبه أبو بكر: «أخرجني قومي، وآذوني، وضيقوا عليَّ».. فيجيبه ابن الدغنة: «ولم؟!.. فوالله إنك لتزين العشيرة، وتعين على النوائب، وتفعل المعروف، وتكسب المعدم.. ارجع، وأنت في جواري أحميك وأذود عنك».

    فما يكاد طواغيت قريش يعلمون بجوار ابن الدغنة لأبي بكر، حتى ينبري له عقبة بن أبي معيط محذرًا ومراجعًا أنه من غير المقبول أن يجير هذا الرجل ليؤذيهم.. ويقول له محرضًا على أبي بكر: «إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرق ويبكي، وله هيئة ونحو، ونحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفتنا أن يفتنهم، فإنهم ليقفون عليه عند باب داره، يعجبون لما يرون من هيئته وقراءته، فمره أن يدخل بيته فليصنع فيه ما يشاء»!

    أبو بكر يردُّ جوار ابن الدغنة:

    ولكن ما إن يُشير ابن الدغنة لأبي بكر، بأن قومه يتأذون منه، ويطلب إليه أن يدخل بيته ليصنع فيه ما يحب، حتى يجيبه أبو بكر في هدوء وثقة: «أوأرد عليك جوارك، وأرضى بجوار الله؟».. ولا يلبث أبو بكر أن يرد عليه جواره، ويرضى بجوار ربه، غير حافل بنكير وكيد ونكال وإيذاء المشركين!

    الإسراء والمعراج وما لاقاه النبي من إيذاء:

    وفي فجر أحد أيام رمضان قبيل الهجرة إلى يثرب بقرابة عامين، ينهض النبي ﷺ من الفراش في دار أم هانئ بنت أبي طالب في حالٍ غريبة.. يكاد لا يدري أكان نائمًا أم يقظًا. الفراش يوري بأنه كان نائمًا، بيد أن ما رآه وسمعه، وأحسه ولمسه، يؤكد أنه كان يقظًا.. يبادر - عليه الصلاة والسلام - فيتوضأ، ويصلي الفجر بأهل الدار.. وما يكاد يفرغ من الصلاة حتى يلتفت إلى بنت عمه أم هانئ وأهل الدار، فيقول: «يا أم هانئ، لقد صلىت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصلىت فيه، ثم قد صلىت معكم صلاة الغداة الآن كما ترين»!

    وقفت أم هانئ مدهوشة وهي تقول لنبي الله: «أجل».. ولكنها لم تحتمل أن يخرج إلى الناس مخافة أن يخبرهم بما سمعته، فتمسك بأطراف ردائه لتقول له مشفقة: «بأبي أنت وأمي.. أوستنبئ قريشًا يا رسول الله؟!» . فلما أجابها باقتضاب: «سأفعل»، عاودت تقول له متوسلة في إشفاق: «إني أذكرك الله يا بن عمي أن تأتي قومًا يكذبون رسالتك، وينكرون مقالتك.. فأخاف أن يسطوا بك!! بالله لا تحدث الناس بهذا الحديث فيكذبوك ويؤذوك!!».

    بيد أن نبي الله ﷺ يجيبها في تصميم: «والله لأحدثنهم»! وينطلق خارجًا إلى قريش وابنة عمه أم هانئ ممسكة متعلقة بأطراف ردائه تحاول أن تثنيه عن الخروج إشفاقًا من رءوس الشرك وسفهاء قريش.. ولكنها لا تفلح، ويتخلص منها رسول الله ﷺ في رفق، وينطلق خارجًا من الدار ليلقي بلاغه إلى الناس.

    وبمقربة من منتدى قريش بظاهر الكعبة، يصادفه أبو جهل، فيسأله ساخرًا: «هل كان من شيءٍ ؟» فيجيبه - عليه الصلاة والسلام-: «نعم. قد أسري بي الليلة!». فيراجعه أبو جهل في استهزاء: «إلى أين؟!» - فما إن أجابه ﷺ بأنه أُسري به إلى بيت المقدس، حتى تابع أبو جهل مستهزئًا مستدرجًا: «ثم أصبحت بين ظهرانينا!». فلما أجابه ﷺ بنعم، قال له أبو جهل وهو لا يستطيع أن يخفي فرحه بما أيقن أنه وقع به على فرصة كبيرة للنكاية والسخرية: «أرأيت إن دعوت قومك تحدثهم بما حدثتني؟!». فلمَّا أن سمع رد الرسول عليه الصلاة السلام بالإيجاب، انطلق أبو جهل يصيح مناديًا قريشًا في فرح لا يخفيه: «يا معشر قريش.. يا معشر بني كعب بن لؤي.. هلمُّوا إليَّ.. هلمُّوا معي إلى محمد، فقد سمعت منه الآن قولًا عجبًا.. هلمُّوا لتسمعوا منه ما سمعت!!».

    * * *

    بمنتدى قريش بظاهر الكعبة، وقد التف جمع كبير من القرشيين على رأسهم زعماؤها وطواغيت الكفر، وقد انضم إلى جمعهم نفر من المسلمين.. ينظرون في ترقب إلى نبي الله - عليه الصلاة والسلام- الواقف في ثبات ينتظر التئام الجمع .

    بيد أن أبا جهل لم يستطع صبرًا من فرط فرحه بما اعتقد أنها فرصة للطعن في رسول الله - عليه الصلاة والسلام- فقال له واجفًا مستعجلًا: «هلا حدثت قومك يا محمد بما حدثتني؟!».

    في هدوء وثقة، طفق المصطفى ﷺ يروي للجمع كيف أُسري به في ليلته إلى بيت المقدس، وصلى به، ثم رجع إلى مكة.. والقرشيون لا يستطيعون إخفاء ما ألمَّ بهم من دهشة ممزوجة بالفرح بأنهم سقطوا على غنيمة يستطيعون بها الإمعان في السخرية والاستهزاء بمحمد - عليه الصلاة والسلام- يقول بعضهم لبعض هازئًا مستنكرًا : «هذا واللات والعزَّى - الأمر البين.. واللات إن العير لتطرد شهرًا من مكة إلى الشام مدبرة، وشهرًا مقبلة.. أيذهب محمد ويرجع في ليلة واحدة؟!».. بعضهم يصفق عجبًا، وتعلو همهمات الإنكار والاستهزاء، بينما لا يغالب قليل ممن حضروا من المسلمين أنفسهم، فتأخذ بعضهم الدهشة، وربما الاسترابة، وفكر البعض القليل منهم في أن يرتد عن إسلامه.. وبينما اللغط يعلو والهرج يزداد.. يذهب البعض بحثًا عن أبي بكر ليخبروه بالخبر.. فيصادفوه خارجًا من داره، فيقول له أحد القرشيين في استهزاء وشماتة لا يخفيها: «هل لك يا أبا بكر في صاحبك؟! يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس، وصلى فيه، ثم رجع إلى مكة.. وها هو ذاك بجوار الكعبة يحدث به الناس، فاقدم، واسمع».

    إيمان الصدِّيق:

    بيد أن أبا بكر على غير ما توقعوه، يقول لهم: «والله لئن كان قد قاله لقد صدق». فلما راجعوه مستنكرين، أضاف يقول مؤكدًا: «أجل، والله لئن كان قال لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك؟! فوالله، إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض، في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه!».

    شق أبو بكر طريقه وسط الزحام إلى رسول الله ﷺ فسأله وقد كثر اللغط من حوله: «بأبي أنت وأمي يا نبي الله، أحدثت هؤلاء القوم أنك أتيت بيت المقدس هذه الليلة ؟». فلمَّا أجابه - عليه الصلاة والسلام - بنعم، قال أبو بكر: «يا نبي الله.. فصفه لي، فإني قد جئته».

    شرع رسول الله ﷺ والجميع يرقبون ويتابعون ما بين الواجف والمتعجب والمترقب والمندهش والمستطلع.. شرع ﷺ في وصف بيت المقدس وكأنه أمامه.. وكلما وصف منه شيئًا، يقول أبو بكر: «صدقت.. أشهد أنك رسول الله».. حتى قال له عليه الصلاة والسلام: «إنك الصدِّيق» .

    لجاجة كفار قريش:

    لم يطق القرشيون صبرًا، فانبرى أحدهم يطلب من نبي الله أن يقدم إليهم آية على صدق ما يقول، فأجاب - عليه الصلاة والسلام - في ثقة وطمأنينة: «آية ذلك أنني مررت بعير في الوادي، فأنفرهم حس الدابة، فَنَدَّ لهم بعير، فدللتهم عليه وأنا موجه إلى بيت المقدس، ثم أقبلت حتى إذا كنت بضجنان، مررت بعير القوم، ووجدت القوم نيامًا، ولهم إناء فيه ماء، وقد غطوا عليه بشيء، فكشفت غطاءه وشربت مما فيه، ثم غطيت عليه كما كان.. وآية ذلك أن عيرهم تصوب الآن من ثنية التنعيم البيضاء، يتقدمها جمل أورق، عليه غرارتان إحداهما سوداء، والأخرى برقاء».

    ظهور الحق ولجاج المكذبين

    وبينما علت همهمات الدهشة والاستنكار والاستغراب، انطلق أحد القرشيين إلى كثيب، جعل يطل منه على «ثنية التنعيم»، ففوجئ بمشاهدة عير قادمة، يتقدمها جمل أورق، فرجع القرشي إلى الجمع ليقول لهم وهو لا يستطيع أن يخفي غيظه: «عجبًا لهذا الرجل، لا بد أنه ساحر!!.. نعم ساحر!! قد واللات ابتدرت إلى الثنية، فوجدت العير كما ذكر ويتقدمها جمل أورق كما أخبر..لا بد أن هذا الرجل ساحر!!».

    همهم بعض القوم، وركب الوجوم آخرين، واستمر في الاستهزاء آخرون، وبدا التصديق بمحمد على آخرين ممن عرفوا صدق الوصف الذي وصفه لبيت المقدس، حتى خاف رءوس الشرك أن يصبأ الناس عن دين آبائهم ويتابعوا محمدًا، فانطلق أبو جهل يقول: «لا عليكم معشر قريش، فما أهون أن يأتيه أحد بنبأ العير!». ولكن واحدًا من ملئه قال

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1