Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الفتنة الكبرى 2: (عثمان)
الفتنة الكبرى 2: (عثمان)
الفتنة الكبرى 2: (عثمان)
Ebook448 pages3 hours

الفتنة الكبرى 2: (عثمان)

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

لا يعد وصفها ﺑ "الفتنة الكبرى" ضرباً من التهويل، فقد كادت الفتنة التي بدأت في عهد الخليفة الراشد "عثمان" وامتدت إلى خلافة "عليّ وبنيه" أن تعصف بالدولة الإسلامية، وما زالت وتبعاتها محل دارسة؛ فقد تناولتها العديد من الأقلام محاولة الوصول إلى بئر الحقيقة. وكان من أبرز هؤلاء "طه حسين" الذي حاول بأسوبه الأدبي أن يناقش إحدى أخطر قضايا التاريخ الإسلامي وأكثرها حساسية. وقد سعى المؤلف إلى اتباع مذهب "الحياد التاريخي" بين الفريقين، والتجرد من كل هوى أو ميل؛ ساعياً إلى إبراز الأسباب الحقيقية وراء الفتنة التي أدت إلى مقتل عثمان، معتمداً على تحليلات لواقع المجتمع الإسلامي آنذاك. وكالعادة؛ فقد أثارت آراؤه موجة عنيفة من الانتقادات الممتدة حتى اليوم، بينما أثنى عليه فريق آخر ممن رأوا في منهجه واستنتاجاته إنصافاً وتلمساً للحق.
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateJan 1, 2022
ISBN9786426828688
الفتنة الكبرى 2: (عثمان)

Read more from طه حسين

Related to الفتنة الكبرى 2

Related ebooks

Related categories

Reviews for الفتنة الكبرى 2

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الفتنة الكبرى 2 - طه حسين

    الفصل الأول

    هذا حديث أريد أن أُخْلِصَهُ للحقِّ ما وسعني إخلاصه للحقِّ وحده، وأن أتحرَّى فيه الصواب ما استطعتُ إلى تحرِّي الصوابِ سبيلًا، وأن أَحْمِلَ نفسي فيه على الإنصاف لا أَحِيدُ عنه ولا أُمَالئ فيه حزبًا من أحزاب المسلمين على حزب، ولا أُشايع فيه فريقًا من الذين اختصموا في قضية عثمان دون فريق؛ فلستُ عثمانيَّ الهوى، ولستُ شيعةً لعلِيٍّ، ولستُ أفكر في هذه القضية كما كان يفكر فيها الذين عاصروا عثمان واحتملوا معه ثقلها وَجَنَوْا معه أو بعده نتائجها.

    وأنا أعلم أن الناس ما زالوا ينقسمون في أمر هذه القضية إلى الآن، كما كانوا ينقسمون فيها أيام عثمان رحمه الله؛ فمنهم العثمانيُّ الذي لا يَعْدِل بعثمان أحدًا من أصحاب النبي ﷺ بعد الشيخين، ومنهم الشيعيُّ الذي لا يَعْدِل بِعليٍّ رحمه الله بعد النبي أحدًا، لا يستثني الشيخين ولا يكاد يرجو لمكانهما وقارًا؛ ومنهم من يتردد بين هذا وذاك، يقتصد في عثمانيَّته شيئًا أو يقتصد في تشيُّعه لعلي شيئًا، فيعرف لأصحاب النبي كلهم مكانتهم، ويعرف لأصحاب السابقة منهم سابقتهم، ثم لا يُفضِّل بعد ذلك أحدًا منهم على الآخر، يرى أنهم جميعًا قد اجتهدوا ونصحوا لله ولرسوله وللإسلام والمسلمين، فأخطأ منهم من أخطأ وأصاب منهم من أصاب، ولأولئك وهؤلاء أَجْرُهم؛ لأنهم لم يتعمدوا خطيئة ولم يقصدوا إلى إساءة. وكل هؤلاء إنما يرون آراءهم هذه يستمسكون بها ويذودون عنها ويتفانون في سبيلها؛ لأنهم يفكرون في هذه القضية تفكيرًا دينيًّا، يصدرون فيه عن الإيمان، ويبتغون به ما يبتغي المؤمن من المحافظة على دينه والاستمساك بيقينه، وابتغاء رضوان الله بكل ما يعمل في ذلك أو يقول.

    وأنا أريد أن أنظر إلى هذه القضية نظرة خالصة مجردة، لا تصدر عن عاطفة ولا هوى، ولا تتأثر بالإيمان ولا بالدين، وإنما هي نظرة المؤرخ الذي يجرِّد نفسَه تجريدًا كاملًا من النزعات والعواطف والأهواء، مهما تختلف مظاهرها ومصادرها وغاياتها.

    وقد قضى جماعة من المسلمين، بل من خيار المسلمين، نَحْبَهم قبل أن تحدث هذه القضية وتُثار حولها الخصومة، فلم ينقص هذا من إيمانهم ولا من أقدارهم، وإنما عصمهم من الشبهة وجنبهم مواطن الزلل، فمضوا بخير ما كتب الله للمسلمين، ونجوا من شر ما كتب عليهم؛ وعاش قوم من أصحاب النبي حين حدثت هذه القضية وحين اختصم المسلمون حولها أعنف خصومة عرفها تاريخهم، فلم يشاركوا فيها ولم يحتملوا من أعبائها قليلًا ولا كثيرًا، وإنما اعتزلوا المختصمين وفروا بدينهم إلى الله؛ وقال قائلهم سعد بن أبي وقاص رحمه الله: لا أقاتل حتى تأتوني بسيف يعقل ويبصر وينطق فيقول: أصاب هذا وأخطأ ذاك!

    فأنا أريد أن أذهب مذهب سعد وأصحابه رحمهم الله، لا أجادل عن أولئك ولا عن هؤلاء، وإنما أحاول أن أتبين لنفسي وأُبين للناس الظروف التي دفعت أولئك وهؤلاء إلى الفتنة وما استتبعت من الخصومة العنيفة التي فرَّقتْهم وما زالتْ تفرِّقهم إلى الآن، وستظل تفرِّقهم في أكبر الظن إلى آخر الدهر. وسيرى الذين يقرءون هذا الحديث أن الأمر كان أجلَّ من عثمان وعليٍّ وممن شايعهما وقام من دونهما، وأن غير عثمان لو ولي خلافة المسلمين في تلك الظروف التي وليها فيها عثمان لتعرَّض لمثل ما تعرض له من ضروب المحن والفتن، ومن اختصام الناس حوله واقتتالهم بعد ذلك فيه.

    وأكاد أعتقد أن الخلافة الإسلامية، كما فهمها أبو بكر وعمر، إنما كانت تجربة جريئة توشك أن تكون مغامرة، ولكنها لم تنتهِ إلى غايتها، ولم يكن من الممكن أن تنتهي إلى غايتها؛ لأنها أُجريت في غير العصر الذي كان يمكن أن تُجرى فيه، سبق بها هذا العصر سبقًا عظيمًا.

    وما رأيك في أن الإنسانية لم تستطع إلى الآن، على ما جربت من تجارب وبلغت من رقي، وعلى ما بلغت من فنون الحكم وصور الحكومات، أن تنشئ نظامًا سياسيًّا يتحقق فيه العدل السياسي والاجتماعي بين الناس على النحو الذي كان أبو بكر وعمر يريدان أن يحققاه!

    وقد ذهبت الإنسانية في الحكم مذاهبها المختلفة؛ فكان فيها حكم الملوك الذين كانوا يرون أنفسهم آلهة، وكان فيها حكم الملوك الذين كانوا يرون أنفسهم ظلالًا للآلهة، ثم كان فيها حكم الملوك الذين كانوا يرون أنفسهم ظلالًا لإله واحد. وهؤلاء الملوك جميعًا كانوا يرون مخلِصين أو غير مخلِصين أن سلطانهم لا يأتيهم من الناس، وإنما يأتيهم من آبائهم الآلهة إن رأوا أنفسهم آلهة، ويأتيهم من الإله أو من الآلهة الذين اتخذوهم لأنفسهم ظلالًا واستخلفوهم على عبادهم من الناس؛ فكان هؤلاء الملوك يصدرون فيما يأمرون وما ينهون وفيما يأتون وما يدعون عن أنفسهم، لا يَعنيهم أن يرضى الناس أو يسخطوا، فليس للناس أن يرضوا أو يسخطوا، وإنما عليهم أن يُذعنوا، وليس من شأن رضاهم أو سخطهم أن يغير من سيرة ملوكهم شيئًا؛ فأنت تستطيع أن ترضى عن الشمس حين تضيء، وتسخط عليها حين تحتجب، فلن يغريها رضاك بالإشراق، ولن يمنعها سخطك عن الاحتجاب.

    عرفت الإنسانية حكم هؤلاء الملوك فسعدت به قليلًا وشقيت به كثيرًا، وحاولت أن تغيره فأتيح لها هذا التغيير في بعض الظروف؛ فعرفت حكم القلة الأرستقراطية التي تستأثر بالعدل فيما بينها من دون الناس، وعرفت حكم الطغاة الذين أقبلوا لينقذوا الشعب من ظلم هذه القلة واستئثارها، وليشيعوا العدل بين الناس جميعًا لا يفرقون بين الأقوياء والضعفاء، ولا بين الأغنياء والفقراء، ولا بين القادرين والعاجزين، فلم يُتَح لهم إلا أن يُشيعوا الظلم بين الناس جميعًا، وأن يُذلوا القلة مع الكثرة ويَرُدُّوها من الضعة والهوان، إلى مثل ما حاولت أن تخرج منه أو إلى شر مما حاولت أن تخرج منه.

    ثم عرفت الإنسانية بعد ذلك نظامًا من نظم الحكم، ظنت أنه من خير النظم وأرقاها وأقومها وأمثلها وأجدرها أن يحقق العدل السياسي والاجتماعي بين الناس، وهو هذا النظام الذي يرد إلى الشعب أمور الشعب يصرِّفها كما يشاء ويدبرها كما يحب. ولكن الإنسانية جربت هذا النظام فنالت به قسطًا من العدل، ولم تنل به العدل كله، بل لم تنل به من العدل إلا أيسره وأهونه شأنًا؛ فلم يُتَح للناس إلى الآن أن يتفقوا على رأي ولا أن يجتمعوا على هوى، ولا أن تتحد لهم كلمة أو يلتئم لهم شمل, وهم من أجل ذلك يرون أمر الشعب إلى الشعب في ظاهر الأمر، ثم لا يصنعون من ذلك شيئًا في حقيقة الأمر: يستفتون الشعب في أمره؛ فإذا كان الاختلاف — ولا بد من أن يكون الاختلاف — أنفذوا أمر الكثرة وأهدروا أمر القلة، وأتاحوا بذلك للأكثرين أن يستذلوا الأقلِّين، أو أن يحكموهم على غير ما يريدون؛ ولو قد ضمن للأكثرين أن يحكموا أنفسهم، وأن يحكموا الأقلِّين لكان هذا النظام مقاربًا للعدل مباعدًا للظلم المنكر إلى حد ما. ولكن الأكثرين لا يحكمون بأنفسهم ولا سبيل إلى أن يحكموا بأنفسهم، فهم يَكِلون أمر الحكم إلى ممثلين لهم يختارونهم لذلك اختيارًا، ويكلِّفونهم بذلك تكليفًا، وقد يخلص هذا الاختيار في نفسه من العنف والإغراء، ومن الرغب والرهب، أو لا يخلص؛ ولكن ليس من شك في أن هؤلاء الممثلين الذين تَكِلُ الكثرة إليهم أمور الحكم، ناس من الناس، فيهم القوة وفيهم الضعف، وفيهم الشدة وفيهم اللين، وفيهم القناعة وفيهم الطمع، وفيهم الإيثار وفيهم الأثرة؛ فهم معرضون لأن يجوروا عن القصد، وينحرفوا عن الطريق، ويحملوا أنفسهم ويحملوا الناس معهم على غير الجادة، ويتورطوا كما تورط الملوك المستبدون، وكما تورطت الأرستقراطية المستأثرة، وكما تورط الطغاة المستعلون في الظلم والجور.

    هذا كله ولم نتجاوز العدل السياسي، فكيف إذا قصدنا إلى العدل الاجتماعي الذي يراد منه ألا يجعل الناس سواء أمام الحاكم فحسب، وإنما يجعلهم سواء أمام الثمرات التي قُدِّرَ للناس أن يعيشوا عليها؛ فقد عجزت نظم الحكم التي عرفتها الإنسانية، على اختلاف العصور والبيئات والظروف، عن أن تحقق هذا العدل الاجتماعي تحقيقًا ينتهي بالناس إلى اطمئنان لا يشوبه قلق، ورضًا لا يشوبه سخط، وأمن لا يشوبه خوف. والإنسانية المعاصرة ترى من ذلك ما لا يحتاج إلى أن نطيل القول فيه؛ فالديمقراطية قد ضمنت للناس شيئًا من حرية وقليلًا من مساواة أمام القانون، ولكنها لم تَكَدْ تضمن لهم من العدل الاجتماعي شيئًا؛ والشيوعية قد ضمنت للناس قليلًا أو كثيرًا من العدل الاجتماعي، فألغت ما بينهم من الفروق، وأتاحت للعاملين منهم أن يعملوا وينتفعوا بثمرة أعمالهم، وأتاحت للعاجزين منهم أن يعيشوا غير مُعرَّضين لذلة أو ضعة أو هوان، ولكنها ضحَّت في سبيل ذلك بحريتهم كلها فلم تدع لهم منها شيئًا، أو لم تكد تدع لهم منها شيئًا؛ والفاشية قد ضحت بالحرية والعدل جميعًا، فاستذلت الناس لسلطان الدولة استذلالًا بعيد المدى، واستغلتهم لقوة الدولة أبشع استغلال وأشنعه، ثم لم تَرُدَّ عليهم من نتائج عملهم شيئًا، ولم تحفظ عليهم من حريتهم قليلًا ولا كثيرًا.

    سلكت الإنسانية في سبيل الحكم الصالح كل هذه الطرق، وجربت كل هذه النظم، فلم تنته إلى غاية، وما زالت تشكو الظلم والجور، وتضيق بالاستذلال والاستغلال، وتبحث عن النظام القويم الذي يضمن للناس الحرية والعدل جميعًا. وهذا النظام القويم هو الذي حاولت الخلافة الإسلامية لعهد أبي بكر وعمر أن تنشئه، فمات أبو بكر رحمه الله ولم يكد يبدأ التجربة، وقُتل عمر رحمه الله وقد خطا بالتجربة خطوات واسعة، ولكنه لم يرض عنها أولًا؛ فقد روي عنه أنه كان يقول في آخر خلافته: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء.» فقد رأى عمر إذن أنه لم يبلغ من تحقيق العدل الاجتماعي ما كان يريد، فكيف ولم يعرف المسلمون ولا غير المسلمين أميرًا حاول من العدل ما حاول عمر وحقق منه ما حقق عمر. ولم يرضَ الناس عن تجربة عمر في أيامه ثانيًا؛ فقد كانوا يهابونه ويشفقون من سلطانه، ويعطيه أكثرهم خوفًا ورهبًا؛ وكان أشدُّ الناس حبًّا لعمر وأشد الناس حبًّا إلى عمر يبتغون إليه الوسيلة ليرفق بنفسه وبهم وبعامة الناس فلا يبلغون منه شيئًا؛ لأنه كان يُؤْثر العدل على كل شيء، ثم لم يرض المغلوبون عن هذه التجربة آخر الأمر؛ فقد كانوا يرون أنهم يكلفون ما لا يحبون وفوق ما لا يطيقون، وكانوا يرون أنهم أصحاب سابقة في الحضارة، وأن العرب طارئون على هذه الحضارة، وأن مما يخالف أهواء نفوسهم أن يتسلط البادون على الحاضرين. وقد قُتل عمر رحمه الله نتيجة لهذا السخط؛ قتله أحد هؤلاء المغلوبين الذي شكا إليه شدة سيده المغيرة بن شعبة، فلما حقق شكاته لم يُعتبه، فكانت نتيجة ذلك أن طُعن وهو يستقبل الصلاة.

    على أن من الإسراف أن نقضي في هذه التجربة الجريئة بهذه السرعة السريعة، فمن حقها علينا أن نقف عندها وقفة فيها شيء من تمهل وأناة، لنرى أكان من الممكن أن تبقى، ولنرى أكان من الممكن أن تنجح وتبلغ غايتها؛ فقد نحقق بهذه الوقفة المتمهلة المستأنية ما أخذنا به أنفسنا من الإنصاف أولًا، وقد تعيننا هذه الوقفة المتمهلة المستأنية على أن نَفْقَه هذه المشكلات الكثيرة التي ثارت من نفسها، أو أثيرت أيام عثمان، لا لأن عثمان كان هو الخليفة، بل لأن الوقت كان قد آن ليثور بعض هذه المشكلات من تلقاء نفسه، وليُثير الناس بعضها الآخر.

    الفصل الثاني

    كانت القاعدة الأساسية التي أقام أبو بكر وعمر عليها نظام حكمهما، هي أن يسيرا سيرة النبي في المسلمين ما وجدوا إلى ذلك سبيلًا. وسيرة النبي في المسلمين معروفة إلى أبعد حد ممكن. وكان قوام هذه السيرة تحقيق العدل الخالص المطلق بين الناس، وما نحتاج فيما نظن أن نقيم على ذلك دليلًا، وحسبنا أن نُذكر من لا يذكر أن الإسلام إنما جاء قبل كل شيء بقضيتين اثنتين؛ أولاهما: التوحيد، وثانيتهما: المساواة بين الناس، والله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّنْ ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.

    وكان أغيظ ما غاظ قريشًا من النبي ودعوته أنه كان يدعو إلى هذا العدل وإلى هذه المساواة، ولم يكن يفرق بين السيد والمَسُود، ولا بين الحر والعبد، ولا بين القوي والضعيف، ولا بين الغني والفقير، وإنما كان يدعو إلى أن يكون الناس جميعًا سواء كأسنان المشط، لا يمتاز بعضهم من بعض، ولا يستعلي بعضهم على بعض. وقد يقال: إنه لم يلغ الرق، ولم يمنع الناس من أن يملك بعضهم بعضًا! ولكن الذين يفقهون الإسلام ويعرفونه حق معرفته لا يُنكرون أن هذه الخطوة الهائلة التي خطاها الإسلام حين سوَّى بين الحر والعبد أمام الله كانت وحدها حدثًا خطيرًا في تاريخ الناس، وحدثًا خطيرًا له ما بعده لو مضت أمور المسلمين على وجهها ولم يعترضها ما اعترضها من الفتن والمحن والخطوب؛ فالله قد فرض الصلاة على الأحرار والرقيق، كما فرض عليهم الصوم، وكما فرض عليهم أن يُخلصوا قلوبهم له؛ والله قد عصم دماء أولئك وهؤلاء على السواء؛ والله قد شرع دينه واحدًا لأولئك وهؤلاء، لم يشرع بعضه للأحرار وبعضه للعبيد. وهذا وحده خليق لو مضت الأمور على وجهها أن يمحو الرق محوًا ويحرِّمه تحريمًا؛ فكيف وقد جعل الله فكَّ الرقبة وإعتاق الرقيق من الأمور التي يتنافس فيها المسلمون، يدخرون بها الأجر من الله والمثوبة عنده، وكيف والله قد فتح في الدين أبوابًا كثيرة لا يكاد يلجها الرقيق حتى يعتق، والله قد مد في أسباب الإعتاق والتحرير لمن شاء أن يتصل بها، فجعل الإعتاق — كما قدمت آنفًا — من الأعمال الصالحات التي يقصد إليها المسلم، وجعل الإعتاق كفارة لبعض الخطايا، ولم يدع وسيلة تيسر الإعتاق وتغري به وتعين عليه وتفرضه على الناس فرضًا إلا دعا إليها ورغب فيها وشرعها للمسلمين.

    وقد سخطت قريش أشد السخط وأعنفه على النبي لِمَا أظهر من ذلك، حتى لأَكَادُ أعتقد أنه لو قد دعاها إلى التوحيد دون أن يعرض للنظام الاجتماعي والاقتصادي، ودون أن يسوي بين الحر والعبد وبين الغني والفقير وبين القوي والضعيف، ودون أن يلغي ما ألغى من الربا، ودون أن يأخذ من الأغنياء ليرد على الفقراء — أقول: لو قد دعاهم النبي إلى التوحيد وحده دون أن يمس نظامهم الاجتماعي والاقتصادي، لأجابته كثرتهم في غير مشقة ولا جهد؛ فما كانت قريش مؤمنة بأوثانها إيمانًا خالصًا، ولا كانت قريش حريصة على آلهتها حرصًا صادقًا، وما كانت قريش إلا شاكَّة ساخرة، تتخذ الأوثان وسيلة لا غاية، وسيلة إلى استهواء العرب واستغلالها — أو لأَجَابَهُ من قريش من أجاب، وامتنع عليه منها من امتنع، دون أن يلقى في ذلك مشقة أو عنتًا، إلا أن يكون حرص قريش على آلهتها نتيجة حرصها على مكانتها من العرب وانتفاعها بما كان يُجلب إليها من الثمرات. ومهما يكن من شيء فقد سخطت قريش على النبي لأنه عرض لنظامها الاجتماعي، وفرض عليها نوعًا من العدل لا يلائم منافع سادتها وكبرائها، أكثر مما سخطت عليه لأنه عاب آلهتها ودعاها إلى أن تلغي الواسطة بينها وبين الله.

    والناس جميعًا يعلمون أن النبي ﷺ ربما رفق ببعض السادة من قريش طمعًا في أن يستميله إلى الإسلام، فيكون ذلك قوة للدعوة الجديدة، وربما دعاه هذا الرفق إلى شيء من الإعراض عن بعض المستضعفين، فلامه الله في ذلك أشد اللوم وأعنفه، وأنزل الله في ذلك قرآنًا، وما زال الناس يقرءون ما أنزل الله في قصة ابن أم مكتوم من قوله عز وجل: عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ * وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ * وَهُوَ يَخْشَىٰ * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ.

    فالتسوية بين الناس إذن هي مظهر أحد الأساسين اللذين قام عليهما الإسلام، وهما التوحيد والعدل؛ وقد سار النبي في أصحابه بمكة ثم بالمدينة سيرة قوامها العدل في الجليل من أمرهم والخطير، حتى استقر في نفوس المسلمين أن العدل ركن أساسي من أركان الإسلام، وأن الانحراف عنه انحراف عن الإسلام، والإخلال به إخلال بالدين؛ ومن أجل ذلك لم يتردد بعض المسلمين في أن ينكر على النبي نفسه بعض ما رأى، ولم يفهم حين كان النبي يقسم الغنائم بعد حُنين، ويتألف بعض من كان يتألف من العرب فيعطيهم أكثر من حقهم في الغنيمة، فقال له: اعدلْ يا محمد فإنك لم تعدل. وقد أعرض النبي ﷺ عنه أول الأمر، ولكنه أعاد كلمته وأعادها، فظهر الغضب في وجه النبي وقال: «ويحك! فمن يعدل إذا لم أعدل؟!»

    وهمَّ بعض المسلمين أن يبطشوا بهذا الرجل، ولكن النبي كفَّهم عنه لأنه كان يحفظ لأصحابه حريتهم وحقهم في المشورة والاعتراض والنقد. والنبي مع ذلك لم يتألف من تألف من العرب إلا عن وحي من الله وإذن في القرآن؛ فالله قد أذن له في سورة «براءة» أن يتألف قلوب بعض الناس من أموال الصدقة، وجعل تألف بعض القلوب مصرفًا من مصارف الصدقة.

    فهو إذن لم يَجُرْ عن القصد حين أعطى من الغنيمة جماعة من هؤلاء الذين أذن الله له في أن يتألف قلوبهم؛ وليس أدل على أن النبي مضى في رعاية العدل إلى أبعد حد ممكن، من هذه السُّنَّة التي استنَّها في نفسه فأحب الخلفاء أن يسنُّوها بعده في الناس فلم يبلغوا من ذلك ما أرادوا؛ فقد أقص النبي من نفسه، وزعم عمر أثناء خلافته أن أي عامل آذى بعض رعيته بغير الحق فهو عرضة لهذا القصاص، ويقال إن بعض الرعية شكا إلى عمر في الموسم أن عامله قد ضربه بغير الحق، فلما استبان ظلم العامل لعمر قضى بأن يقتص منه شاكيه، وفزع العمال إلى عمر يطلبون إليه أن يُقِيل هذا العامل من هذا القصاص؛ لأنه يغض من هيبة السلطان، ويُطْمِع الرعية في أمرائها، فلم يقبل منهم عمر على كثرة ما ألحوا، ثم رضي آخر الأمر أن يعفي العامل من هذا القصاص إذا أرضى شاكيه، وقد استطاع هذا العامل أن يُرضي شاكيه فلم يتعرض لهذا القصاص؛ وكانت حجة عمر أن النبي قد أقصَّ من نفسه وهو خير أمته، فلا على غيره من الخلفاء والولاة أن يُقِصُّوا من أنفسهم عن رضًا أو أن يُقِصَّ منهم السلطان وهم كارهون. وقد احتج خصوم عثمان عليه بإقصاص النبي من نفسه، وبما أراد عمر من إقصاص الرعية من ولاتها، وطلبوا إليه أن يقص من نفسه، فلم يجبهم إلى ما أرادوا. والذين قرءوا سيرة النبي وسنته يعلمون أنه لم يكن يؤثر نفسه بخير دون أصحابه، إلا أن يؤثره الله بهذا الخير في أمر يوحيه إليه في القرآن؛ فهو كان يشاورهم وينزل عند مشورتهم، وهو كان يحارب معهم إذا حاربوا ويسالم معهم إذا سالموا، وهو كان يبني معهم المسجد ويحفر معهم الخندق ويتغنى معهم وهم يتغنون، يستعينون بالغناء على مشقة الحفر والبناء، وهو كان يحمل معهم الأحجار والتراب، يرى نفسه واحدًا منهم قد آثره الله بالوحي والنبوة، فلم يؤثر نفسه بأكثر مما آثره الله به، والسيرة والسنن تروي أنه حين مرض مرضه الذي خرج به من الدنيا سأل عن شيء من ذهب كان قد بقي عنده من مال المسلمين، فلما جيء به أخرجه إلى الناس ولم يُبقِ منه شيئًا، وتوفي وهو لا يملك من الدنيا بيضاء ولا صفراء. وقد اشتد على نفسه في ذلك، واشتد الله عليه فيه أيضًا، إذ كان لا ينطق عن الهوى، فلم يكتف بالارتفاع عن أن يؤثر نفسه بشيء من دون أصحابه، وإنما أبى إلا أن يسير في أهله سيرته في نفسه، فقال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركناه صدقة.» وقد جاءت فاطمة رحمها الله تطلب إلى أبي بكر ميراث أبيها: فَدَك، فلم يجبها إلى ما طلبت وروى لها هذا الحديث.

    فقد قامت سيرة النبي إذن على العدل بين الناس فيما يكون بينهم وبين أنفسهم، وعلى العدل بين الناس وبين نفسه، وعلى العدل بين الناس وبين أهله أيضًا. واجتهد صاحباه من بعده أن يذهبا مذهبه ويسيرا سيرته ما استطاعا إلى ذلك سبيلًا؛ بل همَّ أبو بكر أن يكلف نفسه فوق ما تطيق، فأراد أن يكون إمامًا للمسلمين ينظر في أمرهم ويقف عليهم وقته وجهده، وأن يسعى مع ذلك ليكسب قوته وقوت أهله، ورآه المسلمون ذات يوم يحمل بعض العروض يسعى بها إلى السوق ليبيع ويشتري كما كان يفعل قبل أن يُستخلف، وكما كان المسلمون يفعلون من حوله؛ ولكن المسلمين أشفقوا عليه من ذلك، أو أحس هو العجز عن أن يكون كاسبًا وخليفة في وقت واحد، على اختلاف في الروايات؛ فرزقه المسلمون من بيت المال؛ ولم ييسروا عليه في الرزق، وإنما أعطوه ما يقيم أَوَدَهُ وَأَوَدَ أهله.

    وقد سار أبو بكر سيرة النبي نفسه، فتحرج أن يموت وعنده من أموال المسلمين شيء، وأوصى آل أبي بكر أن يردوا على عمر هنات كانت عنده من أموال المسلمين، وقد ردت هذه الهنات على عمر فبكى وهمَّ أن يقبلها، فأنكر عليه عبد الرحمن بن عوف ذلك، ولكن عمر أبى إلا أن يتحرج في ذات صاحبه كما تحرَّج هو في ذات نفسه، وكره أن يلقى أبو بكر ربه فيسأله عما بقي عنده من هذه الهنات، وكره أن يقول أبو بكر لربه: ردها أهلي، وأبى عمر أن يقبلها.

    وكذلك بلغ حرص النبي وأبي بكر على العدل أن يتأثَّما مما لا إثم فيه، وأن يتحرَّجا مما لا تتحرج منه ضمائر الأتقياء. ولو قد طالت خلافة أبي بكر لرأينا منه في ذلك الأعاجيب، ولكن خلافة عمر جاوزت عشر سنين، فأرانا من ذلك ما لا تكاد تصدقه النفوس. ومن الناس من يزعم أن الرواة قد تكثَّروا على عمر، وأضافوا إليه من الشدة أكثر مما كان فيه، ولكن الذين يقرءون سيرة عمر في كتب السنن والطبقات والتاريخ يفرقون في غير مشقة بين ما يمكن أن يكون الرواة قد تكلفوه وبين ما يلائم سيرة عمر وطبعه ومزاجه من الأحداث والواقعات؛ فقد كان عمر شديدًا على الناس إلى أقصى حدود الشدة

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1