Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

تاريخ ابن خلدون
تاريخ ابن خلدون
تاريخ ابن خلدون
Ebook747 pages5 hours

تاريخ ابن خلدون

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

يتألف كتاب تاريخ ابن خلدون من سبعة أجزاء، والجزء الثامن مخصص للفهارس، ويعتبر هذا الكتاب أحد المحاولات الإسلاميّة القائمة على فهم التاريخ الإسلامي، وهو من أول الكتب التي اهتمت بعلم المجتمع، ولذلك تُرجم إلى العديد من اللغات، وهو نقطة ارتكاز لمكانة ابن خلدون وشهرته، وسعى هذا المؤلف في مقدمة الكتاب إلى وضع نفسه في فئة المؤرخين، وأن يخطو خطى المسعودي، ولكنّه حاول تصحيح بعض الأخطاء التي وقع فيها، ولكن كان من الصعب اعتباره مؤرخاً من قبل الراجع، وذلك لأنه استعان في مقدمته بطرف من كلِ علم، حيث تناول كل ما يرتبط بالإنسان ماديّاً ومعنويّاً.
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateMar 18, 1902
ISBN9786381126249
تاريخ ابن خلدون

Read more from ابن خلدون

Related to تاريخ ابن خلدون

Related ebooks

Reviews for تاريخ ابن خلدون

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون

    الغلاف

    تاريخ ابن خلدون

    الجزء 10

    ابن خلدون

    808

    يتألف كتاب تاريخ ابن خلدون من سبعة أجزاء، والجزء الثامن مخصص للفهارس، ويعتبر هذا الكتاب أحد المحاولات الإسلاميّة القائمة على فهم التاريخ الإسلامي، وهو من أول الكتب التي اهتمت بعلم المجتمع، ولذلك تُرجم إلى العديد من اللغات، وهو نقطة ارتكاز لمكانة ابن خلدون وشهرته، وسعى هذا المؤلف في مقدمة الكتاب إلى وضع نفسه في فئة المؤرخين، وأن يخطو خطى المسعودي، ولكنّه حاول تصحيح بعض الأخطاء التي وقع فيها، ولكن كان من الصعب اعتباره مؤرخاً من قبل الراجع، وذلك لأنه استعان في مقدمته بطرف من كلِ علم، حيث تناول كل ما يرتبط بالإنسان ماديّاً ومعنويّاً.

    غزوة صلاح الدين إلى الكرك

    كان البرنس أرناط صاحب الكرك من مردة الإفرنج وشياطينهم، وهو الذي اختط مدينة الكرك. وقلعتها، ولم تكن هنالك. واعتزم على غزو المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام. وسمع عز الدين فرخشاه بذلك وهو بدمشق فجمع وسار إلى الكرك سنة سبع وسبعين كل واكتسح نواحيه، وأقام ليشغله عن ذلك الغرض حتى انقطع أمله، وعاد إلى الكرك. فعاد فرخشاه إلى دمشق ؛والله تعالى أعلم بغيبه .

    مسير سيف الإسلام طغركين بن أيوب إلى اليمن والياً عليها

    قد كان تقدم لنا فتح شمس الدولة توران شاه لليمن، واستيلاؤه عليه سنة ثمان وستين. وأنه ولي على زبيد مبارك بن كامل بن منقذ من أمراء شيزر، وعلى عدن عز الدولة عثمان الزنجبيلي، واختط مدينة تعز في بلاد اليمن واتخذها. كرسياً لملكه. ثم عاد إلى أخيه سنة اثنتين وسبعين وأدركه منصرفاً من حصار حلب فولاه على دمشق، وسار إلى مصر. ثم ولاه أخوه صلاح الدين بعد ذلك مدينة الإسكندرية، وأقطعه إياها مضافة إلى أعمال اليمن. وكانت الأموال تحمل إليه من زبيد وعدن وسائر ولايات اليمن. ومع ذلك فكان عليه دين قريب من مائتي ألف دينار مصرية، وتوفي سنة ست وسبعين فقضاها عنه صلاح الدين. ولما بلغه خبر وفاته سار إلى مصر، واستخلف على دمشق عز الدين فرخشاه ابن شاهنشاه. وكان سيف الدين مبارك بن كامل بن منقذ الكناني نائبه بزبيد قد تغلب في ولايته وتحكم في الأموال فنزع إلى وطنه، واستأذن شمس الدولة قبل موته فأذن له في المجيء .واستأذن أخاه عطاف بن زبيد وأقام مع شمس الدولة حتى إذا مات بقي في خدمة صلاح الدين. وكان محشداً فسعى فيه عنده أنه احتجز أموال اليمن، ولم يعرض له فتحيل أعداؤه عليه. وكان ينزل بالعدوية قرب مصر، فصنع في بعض الأيام صنيعاً دعي أعيان الدولة، واختلف مواليه وخدامه إلى مصر في شراء حاجتهم فتحيلوا لصلاح الدين أنه هارب إلى اليمن. فتمت حيلتهم فقبض عليه. ثم ضاق عليه الحال وصابره على ثمانين ألف دينار مصرية سوى ما أعلى لأهل الدولة فأطلقه، وأعاده إلى منزلته فلما بلغ شمس الدين إلى اليمن اختلف نوابه بها حطان بن منقذ، وعثمان بن الزنجبيلي .وخشي صلاح الدين أن تخرج اليمن عن طاعته فجهز جماعة من أمرائه إلى اليمن مع صارم الدين قطلغ أبيه والي مصر من أمرائه. فساروا لذلك سنة سبع وسبعين، واستولى قطلغ أبيه على زبيد من حطان بن منقذ. ثم مات قريباً فعاد حطان إلى زبيد وأطاعه الناس، وقوي على عثمان الزنجبيلي فكتب عثمان إلى صلاح الدين أن يبعث فجهز صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طغركين، فسار إلى اليمن وخرج حطان بن منقذ من زبيد وتحصن في بعض القلاع ونزل سيف الإسلام زبيد، وبعث إلى حطان بالأمان فنزله إليه وأولاه الإحسان. ثم طلق اللحاق بالشام فمنعه. ثم ألح عليه فأذن له حتى إذا خرج واحتمل رواحله، وجاء ليودعه قبض عليه واستولى على ما معه. ثم حبسه في بعض القلاع فكان آخر العهد به. ويقال كان فيما أخذه سبعون حملاً من الذهب. ولما سمع عثمان الزنجبيلي خبر حطان خشي على نفسه، وحمل أمواله في البحر ولحق بالشام. وبقيت مراكبه مراكب لسيف الإسلام فاستولى عليها. ولم يخلض إلا بما كان معه في طريقه، وصفا اليمن لسيف الإسلام، والله تعالى أعلم.

    دخول قلعة البيرة في إيالة صلاح الدين وغزوة الإفرنج وفتح بعض حصونهم مثل الشقيف والغرر و بيروت

    كانت قلعة البيرة من قلاع العراق لشهاب الدين بن أرتق، وهو ابن عم قطب الدين الغازي بن أرتق صاحب ماردين، وكان في طاعة نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام. ثم مات وملك البيرة بعده ابنه. ومات نور الدين فصار إلى طاعة عز الدين مسعود الموصل ثم وقع بين صاحب ماردين وصاحب الموصل من المخالصة والاتفاق ما وقع، وطلب من عز الدين أن يأذن له في أخذ البيرة فأذن له، فسار قطب الدين في عسكره إلى قلعة سميساط وأقام بها وبعث العسكر إلى البيرة وحاصرها. وبعث صاحبها يستنجد صلاح الدين ويكون له كما كان أبوه لنور الدين فشفع صلاح الدين إلى قطب الدين صاحب ماردين ولم يشفعه، وشغل عنه بأمر الإفرنج .ورحلت عساكر قطب الدين عنها فرجع صاحبها إلى صلاح الدين وأعطاه طاعته، وعاد في إيالته. ثم خرج صلاح الدين من مصر في محرم سنة ثمان وسبعين قاصداً الشام ومر بإيله وجمع الإفرنج لاعتراضه فبعث أثقاله مع أخيه تاج الملوك إلى دمشق، ومال عن بلادهم فاكتسح نواحي الكرك والشوبك، وعاد إلى دمشق منتصف صفر. وكان الإفرنج لما اجتمعوا على الكرك دخلوا بلادهم من نواحي الشام فخالفهم عز الدين فرخشاه نائب دمشق إليها، واكتسح نواحيها وخرب قراها وأثخن فيهم قتلاً وسبياً وفتح الشقيف من حصونهم عنوة وكان له نكاية في المسلمين فبعث إلى صلاح الدين بفتحه فسر بذلك .ثم أراح صلاح بدمشق أياماً وسار في ربيع الأول من السنة، وقصد طبرية وخيم بالأردن. واجتمعت الإفرنج على طبرية فسير صلاح الدين فرخشاه ابن أخيه إلى بيسان فملكها عنوة واستباحها. وأغار على الغور فأثخن فيها قتلاً وسبياً. وسار الإفرنج من طبرية إلى جبل كوكب، وتقدم صلاح الدين إليهم بعساكره فتحصوا بالجبل فأمر ابني أخيه تقي الدين عمر وعز الدين فرخشاه ابني شاهنشاه فقاتلوا الإفرنج قتالاً شديداً. ثم تحاجزوا وعاد صلاح الدين إلى دمشق. ثم سار إلى بيروت فاكتسح نواحيها، وكان قد استدعى الأسطول من مصر لحصارها فوافاه بها وحاصرها أياماً. ثم بلغه أن البحر قد قذف بدمياط مركباً للإفرنج فيه جماعة منهم جاؤوا لزيارة القدس فألقتهم الريح بدمياط، وأسر منهم ألف وستمائة أسير، ثم ارتحل عن بيروت إلى الجزيرة كما نذكره إن شاء الله تعالى.

    مسير صلاح الدين إلى الجزيرة

    واستيلاؤه على حران والرها والرقة والخابور ونصيبين وسنجار وحصار الموصل

    كان مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كجك الذي كان أبوه نائب القلعة بالموصل مستولياً في دولة مودود وبنيه، وانتقل آخراً إلى إربل ومات بها. وأقطعه عز الدين صاحب الموصل ابنه مظفر الدين، وكان هواه مع صلاح الدين يؤمله ملكه بلاد الجزيرة فراسله وهو محاصر لبيروت، وأطمعه في البلاد، واستحثه للوصول فسار صلاح الدين عن بيروت مورياً بحلب، وقصد الفرات، ولقيه مظفر الدين وساروا إلى البيرة، وقد دخل طاعة عز الدين وكان عز الدين صاحب الموصل ومجاهد الدين لما بلغهما مسير صلاح الدين إلى الشام ظنوا أنه يريد حلب فساروا لمدافعته. فلما عبر الفرات عادوا إلى الموصل، وبعثوا حامية إلى الرها. وكاتب صلاح الدين ملوك الأطراف بديار بكر وغيرها والمقاربة .ووعد نور الدين محموداً صاحب كيفا أنه يملكه آمد. ووصل إليه فساروا إلى مدينة الرها فحاصروها، وبها يومئذ الأمير فخر الدين بن مسعود الزعفراني. واشتد عليه القتال فاستأمنإلى صلاح الدين وملكه المدينة، وحاصر معه القلعة حتى سلمها النائب الذي بها مال شرطه فأضافها صلاح الدين إلى مظفر الدين مع حران وساروا إلى الرقة، وبها نائبها قطب الدين نيال بن حسان المنبجي ففارقها إلى الموصل، وملكها صلاح الدين. ثم سار إلى قرقيسيا ومأسكين وعربان، وهي بلاد الخابور فاستولى على جميعها. وسار إلى نصيبين فملك المدينة لوقتها، وحاصر القلعة أياماً ثم ملكها وأقطعها للأمير أبي الهيجاء السمين. ثم رحل عنها ونور الدين صاحب كيفا معه معتزماً على قصد الموصل .وجاءه الخبر بأن الإفرنج أغاروا على نواحي دمشق، واكتسحوا قراها وأرادوا تخريب داريا قتوعدهم نائب دمشق بتخريب بيعهم وكنائسهم فتركوه فلم يثن ذلك من عزمه وقصد الموصل، وقد جمع صاحبها العساكر واستعد للحصار، وخلى نائبه في الإستعداد .وبعث إلى سنجار وإربل وجزيرة ابن عمر فشحنها بالإمداد من الرجال والسلاح والأموال، وأنزل صاحب الدار عساكره بقربها، وتقدم هو ومظفر الدين وابن شيركوه فهالهم استعداد البلد، وأيقنوا بامتناعه وعذل صاحبيه هذين فإنهما كانا أشارا بالبداءة بالموصل. ثم أصبح صلاح الدين من الغد في عسكره، ونزل عليه أول رجب على باب كندة، وأنزل صاحب الحصن باب الجسر وأخاه تاج الملوك بالباب العمادي، وقاتلهم فلم يظفر. وخرج بعض الرجال فنالوا منه. ونصب منجنيقاً فنصبوا عليه من البلد تسعة. ثم خرجوا إليه من البلد فأخذوه بعد قتال كثير. وخشي صلاح الدين من البيات فتأخر لأنه رآهم في بعض الليالي يخرجون من باب الجسر بالمشاعل ويرجعون .وكان صدر الدين شيخ الشيوخ ومشير الخادم وقد وصلا من عند الخليفة الناصر في الصلح. وترددت الرسل بينهم فطلب عز الدين من صلاح الدين رد ما أخذه من بلادهم فأجاب. على أن يمكنوه من حلب فامتنع، فرجع إلى ترك مظاهرة صاحبها فامتنع أيضاً. ثم وصلت أيضاً رسل صاحب أذربيجان ورسل شاهرين صاحب خلاط في الصلح فلم يتم، وسار أهل سنجار يعترضون من يقصده من عساكره وأصحابه فأفرج عن الموصل، وسار إليها، وبها شرف الدين أمير أميران هند وأخوه عز الدين صاحب الموصل في عسكر. وبعث إليه مجاهد الدين النائب بعسكر آخر مدداً وحاصرها صلاح الدين وضيق عليها، واستمال بعض أمراء الأكراد الذين بها من الزواوية فواعده من ناحيته .وطرقه صلاح الدين فملكه البرج الذي في ناحيته فاستأمن أمير أميران وخرج عسكره معه إلى الموصل. وملك صلاح الدين سنجار، وولي عليها سعد الدين بن معين الدين الذي كان أبوه عند كامل بن طغركين بدمشق. وصارت سنجار من سائر البلاد التي ملكها من الجزيرة. وسار صلاح الدين إلى نصيبين فشكا إليه أهلها من أبي الهيجاء السمين فعزله عنهم، واستصحبه معه، وسار إلى حران في ذي القعدة من سنة ثمان وسبعين. وفرق عساكره ليستريحوا وأقام في خواصه وكبار أصحابه، والله أعلم.

    مسير شاهرين صاحب خلاط لنجدة صاحب الموصل

    كان عز الدين قد أرسل إلى شاهرين يستنجده على صلاح الدين فبعث إليه عدة رسل شافعاً في أمره فلم يشفعه، وغالطه فبعث إليه مولاه آخراً سيف الدين بكتمر، وهو على سنجار يسأله في الإفراج عنها فلم يجبه إلى ذلك. وسوفه رجاء أن يفوتها فأبلغه بكتمر الوعيد عن مولاه، وفارقه مغاضباً ولم يقبل صلته، وأغراه بصلاح الدين فسار شاهرين من مخيمه بظاهر خلاط إلى ماردين، وصاحبها يومئذ ابن أخته وابن خال عز الدين وصهره على بنته، وهو قطب الدين نجم الدين. وسار إليهم أتابك عز الدين صاحب الموصل. وكان صلاح الدين في حران منصرفه من سنجار. وفرق عساكره فلما سمع باجتماعهم استدعى تقي الدين ابن أخيه شاهنشاه من حماة، ورحل إلى رأس عين فافترق القوم، وعاد كل إلى بلده. وقصد صلاح الدين ماردين فأقام عليها عدة أيام ورجع، والله تعالى ولي التوفيق بمنه وكرمه.

    واقعة الإفرنج في بحر السويس

    كان البرنس أرناط صاحب الكرك قد أنشأ أسطولاً مفصلاً، وحمل أجزاءه إلى صاحب أيلة وركبه على ما تقتضيه صناعة النشابة، وقذفه في السويس، وشحنه بالمقاتلة، وأقلعوا في البحر. ففرقة أقاموا على حصن أيلة يحاصرونه، وفرقة ساروا نحو عيذاب وأغاروا على سواحل الحجاز، وأخذوا ما وجدوا بها من مراكب التجار. وطرق الناس منهم بلية لم يعرفونها لأنه لم يعهد ببحر السويس إفرنجي محارب ولا تاجر وكان بمصر الملك العادل أبو بكر بن أيوب نائباً عن أخيه صلاح الدين فعمر أسطولاً وشحنه بالمقاتلة، وسار به حسام الدين لؤلؤ الحاجب قائد الأساطيل بديار مصر، فبدأ بأسطول الإفرنج الذي يحاصر أيلة فمزقهم كل ممزق .وبعد الظفر بهم أقلع في طلب الآخرين وانتهى إلى عيذاب فلم يجدهم فرجع إلى رابغ وأدركهم بساحل الحوراء، وكانوا عازمين على طروق الحرمين واليمن والإغارة على الحاج. فلما أظل عليهم لؤلؤ بالأسطول أيقنوا بالتغلب وتراموا على الحوراء وأسلموا إليها، واعتصموا بشعابها. ونزل لؤلؤ من مراكبه وجمع خيل الأعراب هنالك وقاتلهم فظفر بهم، وقتل أكثرهم وأسر الباقين فأرسل بعضهم إلى منى فقتلوا بها أيام النحر وعاد بالباقين إلى مصر، والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء.

    وفاة فرخشاه

    ثم توفي عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه أخو صلاح الدين النائب عنه بدمشق، وكان خليفته في أهله ووثوقه به أكثر من جميع أصحابه. وخرج من دمشق غازياً الإفرنج وطرقه المرض. وعاد فتوفي في جمادى سنة ثمان وسبعين. وبلغ خبره صلاح الدين وقد عبر الفرات إلى الجزيرة والموصل، فأعاد شمس الدين محمد بن المقدم إلى دمشق وجعله نائباً فيها واستمر لشأنه، والله تعالى يورث الملك لمن يشاء من عباده.

    استيلاء صلاح الدين على آمد وتسليمها لصاحب كيفا

    قد تقدم لنا مسير صلاح الدين إلى ماردين وإقامته عليها أياماً من نواحيها، ثم ارتحل عنها إلى آمد كما كان العهد بينه وبين نور الدين صاحب كيفا فنازلها منتصف ذي الحجة، وبها بهاء الدين بن بيسان فحاصرها، وكانت غاية في المنعة وأساء ابن بيسان التدبير وقبض يده عن العطاء، وكان أهلها قد ضجروا منه لسوء سيرته وتضييقه عليهم في مكاسبهم. وكتب إليهم صلاح الدين بالترغيب والترهيب فتخاذلوا عن ابن بيسان وتركوا القتال معه، ونقب السور من خارج بيت ابن بيسان، وأخرج نساءه مع القاضي الفاضل يستميل إليه صلاح الدين ويؤجله ثلاثة أيام للرحلة، فأجابه صلاح الدين وملك البلد في عاشوراء سنة تسع وسبعين .وبنى خيمة بظاهر البلد ينقل إليها ذخيرته فلم يلتفت الناس إليه، وتعذر عليه أمره فبعث إلى صلاح الدين يسأله الإعانة فأمر له بالدواب والرجال، فنقل في الأيام الثلاثة كثيراً من موجوده. ومنع بعد انقضاء الأجل عن نقل ما بقي. ولما ملكها صلاح الدين سلمها لنور الدين صاحب كيفا وأخبر صلاح الدين بما فيها من الذخائر لينقلها لنفسه فأبى. وقال ما كنت لأعطي الأصل وأبخل بالفرع، ودخل نور الدين البلد، ودعا صلاح الدين وأمراءه إلى صنيع صنعه لهم، وقدم لهم من التحف والهدايا ما يليق بهم، وعاد صلاح الدين، والله تعالى أعلم.

    استيلاء صلاح الدين على تل خالد وعنتاب

    ولما فرغ صلاح الدين من آمد سار إلى أعمال حلب فحاصر تل خالد، ونصب عليه المجانيق حتى تسلمه بالأمان في محرم سنة تسع وسبعين. ثم سار إلى عنتاب فحاصرها وبها ناصر الدين محمد أخو الشيخ إسماعيل الذي كان خازن نور الدين العادل وصاحبه. وهو الذي ولاه عليها فطلب من صلاح الدين أن يقرها بيده، ويكون في طاعته فأجابه إلى ذلك وحلف له. وسار في خدمته، وغنم المسلمون خلال ذلك مغانم فمنها في البحر سار أسطول مصر، فلقي في البحر مركباً فيه نحو ستمائة من الإفرنج بالسلاح والأموال قاصدون الإفرنج بالشام فظفروا بهم، وغنموا ما معهم، وعادوا إلى مصر سالمين. ومنها في البر أغار بالدارون جماعة من الإفرنج، ولحقهم المسلمون بأيلة واتبعوهم إلى العسيلة، وعطش المسلمون فأنزل الله تعالى عليهم المطر حتى رووا. وقاتلوا الإفرنج فظفروا بهم هنالك واستلحموهم، واستقاموا معهم وعادوا سالمين إلى مصر، والله أعلم.

    استيلاء صلاح الدين على حلب وقلعة حارم

    كان الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين العادل صاحب حلب، لم يبق له من الشام غيرها، وهو يدافع صلاح الدين عنها فتوفي منتصف سنة سبع وسبعين، وعهد لابن عمه عز الدين صاحب الموصل وسار عز الدين صاحب الموصل مع نائبه مجاهد الدين قايماز إليها فملكها. طلبها منه أخوه عماد الدين صاحب سنجار على أن يأخذ عنها سنجار إلى ذلك، وأخذ عز الدين سنجار، وعاد إلى الموصل. وسار عماد الدين إلى حلب فملكها، وعظم ذلك على صلاح الدين، وخشي أن يسير منها إلى دمشق. وكان بمصر سار إلى الشام، وسار منها إلى الجزيرة، وملك ما ملك منها وحاصر الموصل، ثم حاصر آمد وملكها. ثم سار إلى أعمال حلب كما ذكرناه فملك تل خالد وعنتاب. ثم سار حلب وحاصرها في محرم سنة تسع وسبعين، ونزل الميدان الأخضر أياماً. ثم انتقل إلى جبل جوشق وأظهر البقاء عليها وهو يغاديها القتال ويراوحها، وطلب عماد الدين جنده في العطاء، وضايقوه في تسليم حلب لصلاح الدين. وأرسل إليه في ذلك الأمر طومان الباروقي، وكان يميل إلى صلاح الدين فشارطه على سنجار ونصيبين والرقة والخابور، وينزل له عن حلب. وتحالفوا على ذلك وخرج عنها عماد الدين ثامن عشر صفر من السنة إلى هذه البلاد. ودخل صلاح الدين حلب بعد أن شرط على عماد الدين أن يعسكر معه متى عاد .ولما خرج عماد الدين إلى صلاح الدين صنع له دعوة احتفل فيها وانصرف، وكان فيمن هلك في حصار حلب تاج الملوك نور الدين أخو صلاح الدين الأصغر، أصابته جراحة فمات منها بعد الصلح، وقبل أن يدخل صلاح الدين البلد. ولما ملك صلاح الدين حلب سار إلى قلعة خارم، وبها الأمير طرخك من موالي نور الدين العادل، وكان عليها ابنه الملك الصالح فحاصره صلاح الدين ووعده، وترددت الرسل بينهم وهو يمنع، وقد أرسل إلى الإفرنج يدعوهم للانجاد، وسمع بذلك الجند الذين معه فوثبوا به وحبسوه. واستأمنوا إلى صلاح الدين فملك الحصن، وولى عليه بعض خواصه. وقطع تل خالد الباروقي صاحب تل باشر. وأما قلعة إعزاز فإن عماد الدين إسماعيل كان خربها فأقطعها صلاح الدين سليمان بن جسار وأقام بحلب إلى أن قضى جميع أشغالها وأقطع أعمالها، وسار إلى دمشق والله تعالى أعلم .

    غزوة بيسان

    ولما فرغ صلاح الدين من أمر حلب ولى عليها ابنه الظاهر غازي، ومعه الأمير سيف الدين تاوكج كافلاً له لصغره، وهو أكبر الأمراء الأسدية. وسار إلى دمشق فتجهز للغزو، وجمع عساكر الشام والجزيرة وديار بكر، وقصد بلاد الإفرنج فعبر الأردن منتصف سبع وسبعين، وأجفل أهل تلك الأعمال أمامه فقصد بيسان وخربها وأحرقها، وأغار على نواحيها واجتمع الإفرنج له. فلما رأوه خاموا عن لقائه واستندوا إلى جبل وخندقوا عليهم، وأقام يحاصرهم خمسة أيام ويستدرجهم للنزول فلم يفعلوا فرجع المسلمون عنهم، وأغاروا على تلك النواحي وامتلأت أيديهم بالغنائم وعادوا إلى بلادهم، والله تعالى ينصر من يشاء من عباده.

    غزو الكرك وولاية العادل على حلب

    ولما عاد صلاح الدين من غزوة بيسان تجهز لغزو الكرك وسار في العساكر، واستدعى أخاه العادل أبا بكر بن أيوب من مصر وهو نائبها ليلحق به على الكرك، وكان قد سأله في ولاية حلب وقلعتها فأجابه إلى ذلك، وأمره أن يجيء بأهله وماله فوافاه على الكرك، وحاصروه أياماً وملكوا أرباضه، ونصبوا عليها المجانيق، ولم يكن بالغ في الاستعداد لحصاره لظنه أن الإفرنج يدافعون عنه، فأفرج عنه منتصف شعبان وبعث تقي الدين ابن أخيه شاه على نيابة مصر مكان أخيه العادل واستصحب العادل معه إلى دمشق فولاه مدينة حلب ومدينة منبج وما إليها، وبعثه بذلك في شهر رمضان من السنة. واستدعى ولده الظاهر غازي من حلب إلى دمشق .ثم سار في ربيع الآخر من سنة ثمانين لحصار الكرك بعد أن جمع العساكر، واستدعى نور الدين صاحب كيفا وعساكر مصر واستعد لحصاره، ونصب المجانيق على ربضه فملكه المسلمون، وبقي الحصن وراء خندق بينه وبين الربض عمقه ستون ذراعاً. وراموا طمه فنضحوهم بالسهام، ورموهم بالحجارة فأمر برفع السقف ليمشي المقاتلة تحتها إلى الخندق. وأرسل أهل الحصن إلى ملكهم يستمدونه ويخبرونه بما نزل بهم فاجتمع الإفرنج وأوعبوا وساروا إليهم فرحل صلاح الدين للقائهم، حتى انتهى إلى حزونة الأرض فأقام ينتظر خروجهم إلى البسيط فخاموا عن ذلك فتأخر عنهم فراسخ، ومروا إلى الكرك. وعلم صلاح الدين أن الكرك قد امتنع بهؤلاء فتركه وسار إلى نابلس فخربها وحرقها وسار إلى سنطية وبها مشهد زكرياء عليه السلام فاستنقذ من وجد بها من أسارى المسلمين، ورحل إلى جينين فنهبها وخربها. وسار إلى دمشق بعد أن بث السرايا في كل ناحية، ونهب كل ما مر به، وامتلأت الأيدي من الغنائم وعاد إلى دمشق مظفراً والله تعالى أعلم.

    حصار صلاح الدين الموصل

    ثم سار صلاح الدين من دمشق إلى الجزيرة في ذي القعدة من سنة ثمان، وعبر الفرات. وكان مظفر الدين كوكبري علي كجك يستحثه للمسير إلى الموصل في كل وقت، وربما وعده بخمسين ألف دينار إذا وصل. فلما وصل إلى حران لم يف له فقبض عليه، ثم خشي معيرة أهل الجزيرة فأطلقه وأعاد عليهم حران والرها. وسار في ربيع الأول، ولقيه نور الدين صاحب كيفا، ومعز الدين سنجار شاه صاحب جزيرة ابن عمر، وقد انحرف عن عمه عز الدين صاحب الموصل بعد نكبة مجاهد الدين نائبه. وساروا كلهم مع صلاح الدين إلى الموصل، وانتهوا إلى مدينة بلد فلقيه هنالك أم عز الدين، وابنة عمه نور الدين وجماعة من أهل بيته يسألونه الصلح ظناً بأنه لا يردهن، وسيما بنت نور الدين .واستشار صلاح الدين أصحابه فأشار الفقيه عيسى وعلي بن أحمد المشطوب بردهن وساروا إلى الموصل وقاتلوها، واستمات أهلها وامتعضوا لرد النساء فامتنعت عليهم وعاد على أصحابه باللوم في إشارتهم. وجاء زين الدين يوسف صاحب إربل وأخوه مظفر الدين كوكبري فأنزلهما بالجانب الشرقي. وبعث علي بن أحمد المشطوب الهكاري إلى قلعة الجزيرة ليحاصرها فاجتمع عليه الأكراد الهكارية إلى أن عاد صلاح الدين عن الموصل، وبلغ عز الدين أن نائبه بالقلعة زلقندار يكاتب صلاح الدين فمنعه منها، وانحرف عنه إلى الاقتداء برأي مجاهد الدين وتصدر عنه .ثم بلغه خبر وفاة شاهرين صاحب خلاط فطمع صلاح الدين في ملكها، وأنه يستعين بها على أموره. ثم جاءته كتب أهلها يستدعونه فسار عن الموصل إليها، وكان أهل خلاط إنما كاتبوه مكرا لأن شمس الدين البهلوان بن ايلدكز صاحب أذربيجان وهمذان قصده تملكهم، بعد أن كان زوج ابنته من شاهرين على كبره، وجعل ذلك ذريعة إلى ملك خلاط. فلما سار إليهم كاتبوا صلاح الدين ودافعوا كلا منهما بالآخر فسار صلاح الدين وفي مقدمته ناصر الدين محمد بن شيركوه، ومظفر الدين صاحب إربك وغيرهما. وتقدموا إلى خلاط وتقدم صاحب أذربيجان فنزل قريباً من خلاط. وترددت رسل أهل خلاط بينه وبين البهلوان، ثم خطبوا للبهلوان، والله تعالى ينصر من يشاء من عباده .

    استيلاء صلاح الدين على ميافارقين

    ولما خطب أهل خلاط للبهلوان، وصلاح الدين على ميافارقين، وكانت لقطب الدين صاحب ماردين فتوفي، وملك ابنه طفلاً صغيراً بعده، ورد أمرها إلى شاهرين صاحب خلاط. وأنزل بها عسكره فطمع فيها صلاح الدين بعد وفاة شاهرين، وحاصرها من أول جمادى سنة إحدى وثمانين، وعلى أجنادها الأمير أسد الدين برنيقش فأحسن الدفاع، وكان بالبلد زوجة قطب الدين المتوفى ومعها بناتها منه، وهي أخت نور الدين صاحب كيفا فراسلها صلاح الدين بأن برنيقش قد مال إليها في تسليم البلد، ونحن ندعي حق أخيك نور الدين فأزوج بناتك من أبنائي، وتكون البلد لنا. ووضع على برنيقش من أخبره بأن الخاتون مالت إلى صلاح الدين، وأن أهل خلاط كاتبوه .وكان خبر أهل خلاط صحيحاً فسقط في يده، وبعث في التسليم على شروط اشترطها من إقطاع ومال. وسلم البلد فملكها صلاح الدين وعقد النكاح لبعض ولده على بعض بنات خاتون. وأنزلها وبناتها بقلعة هقناج وعاد إلى الموصل، ومر بنصيبين، وانتهى إلى كفر أرمان، وأعتزم على أن يشتو به، ويقطع جميع ضياع الموصل ويجبي أعمالها، ويكتسح غلاتها. وجنح مجاهد الدين إلى مصالحته وترددت الرسل في ذلك على أن يسلم إليه عز الدين شهرزور وأعمالها وولاية الغرابلي، وما وراء الزاب من الأعمال .ثم طرقه المرض فعاد إلى حران وأدركه الرسل بالإجابة إلى ما طلب فانعقد هنالك، وتحالفوا وتسلم البلاد وطال مرضه بحران، وكان عنده أخوه العادل، وبيده حلب، وبها الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين. واشتد به المرض فقسم البلاد بين أولاده، وأوصى أخاه العادل على الجميع. وعاد إلى دمشق في محرم سنة اثنتين ثمانين، وكان عنده بحران ناصر الدين محمد بن عمه شيركوه، ومن اقطاعه حمص والرحبة فعاد قبله إلى حمص، ومر بحلب، وصانع جماعة من أمرائها على أن يقوموا بدعوته إن حدث بصلاح الدين أمر. وبلغ إلى حمص فبعث إلى أهل دمشق بمثل ذلك، وأفاق صلاح الدين من مرضه، ومات ناصر الدين ليلة الأضحى، ويقال دس عليه من سمه وورث أعماله ابنه شيركوه، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، والله تعالى أعلم.

    قسمة صلاح الدين الأعمال بين ولده وأخيه

    كان ابنه العزيز عثمان بحلب في كفالة أخيه العادل، وابنه الأكبر الأفضل علي بمصر في كفالة تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه، بعثه إليها عندما استدعى العادل منها كما مر. فلما مرض بحران أسف على كونه لم يول أحداً من ولده استقلالاً، وسعى إليه بذلك بعض بطانته. فبعث ابنه عثمان العزيز إلى مصر في كفالة أخيه العادل كما كان بحلب. ثم أقطع العادل حران والرها وميافارقين من بلاد الجزيرة، وترك عثمان ابنه بمصر. ثم بعث عن ابنه الأفضل وتقي الدين ابن أخيه فامتنع تقي الدين من الحضور، واعتزم على المسير إلى المغرب واللحاق بمولاه قراقوش في ولايته التي حصلت له بطرابلس، والجريد من إفريقية فراسله صلاح الدين ولاطفه. ولما وصل أقطعه حماة ومنبج والمعرة وكفر طاب وجبل جوز وسائر أعمالها. وقيل إن تقي الدين لما أرجف بمرض صلاح الدين وموته تحرك في طلب الأمر لنفسه، وبلغ ذلك صلاح الدين فأرسل الفقيه عيسى الهكاري، وكان مطاعاً فيهم وأمره بإخراج تقي الدين من مصر والمقام بها فسار ودخلها على حين غفلة. وأمر تقي الدين بالخروج فأقام خارج البلد، وتجهز للمغرب فراسله صلاح الدين إلى آخر الخبر، والله تعالى أعلم.

    اتفاق القمص صاحب طرابلس مع صلاح الدين ومنابذة البرنس صاحب الكرك له وحصاره والإغارة على عكا

    كان القمص صاحب طرابلس، وهو ريمند بن ريمند بن صنجيل تزوج بالقومصة صاحبة طبرية، وانتقل إليها فأقام عندها، ومات ملك الإفرنج بالشام وكان مجذوماً كما مر، وأوصى بالملك لابن أخيه صغيراً فكفله هذا القمص، وقام بتدبير ملكه لعظمه فيهم، وطمع أن تكون كفالته ذريعة إلى الملك. ثم مات الصغير فانتقل الملك إلى أبيه، ويئس القمص عندها مما كان يحدث به نفسه. ثم إن الملكة تزوجت ابن غتم من الإفرنج القادمين من المغرب، وتوجته وأحضرت البطرك والقسوس والرهبان والاسبتارية والداوية والبارونية، وأشهدتهم خروجها له عن الملك .ثم طولب القمص بالجباية أيام كفالته الصبي فأنف وغضب، وجاهر بالشقاق لهم. وراسل صلاح الدين وسار إلى ولايته وخفف له على مصره من أهل ملته. وأطلق له صلاح الدين جماعة من زعماء النصارى كانوا أسارى عنده فازداد غبطة بمظاهرته. وكان ذلك ذريعة لفتح بلادهم وارتجاع القدس منهم. وبث صلاح الدين السرايا من ناحية طبرية في سائر بلاد الإفرنج فاكتسحوها وعادوا غانمين، وذلك كله سنة اثنتين وثمانين .وكان البرنس أرناط صاحب الكرك من أعظم الإفرنج مكراً وأشدهم ضرراً. وكان صلاح الدين قد سلط الغارة والحصار على بلده حتى سأل في الصلح فصالحه فصلحت السابلة بين الأمتين .ثم مرت في هذه السنة قافلة كثيرة التجار والجند فغدر بهم وأسر وأخذ ما معهم، وبعث إليه صلاح الدين فأصر على غدرته فنذر أنه يقتله إن ظفر به، واستنفر الناس للجهاد من سائر الأعمال من الموصل والجزيرة وإربل ومصر والشام. وخرج من دمشق في محرم سنة ثلاث وثمانين وانتهى إلى رأس الماء. وبلغه أن البرنس أرناط صاحب الكرك يريد أن يتعرض للحاج من الشام، وكان معهم ابن أخيه محمد بن لاجين وغيره فترك من العساكر مع ابنه الأفضل علي، وسار إلى بصرى. وسمع البرنس بمسيره فأحجم عن الخروج، ووصل الحاج سالمين .وسار صلاح الدين إلى الكرك، وبث السرايا في أعمالها وأعمال الشوبك فاكتسحوهما. والبرنس محصور بالكرك، وقد عجز الإفرنج عن إمداده لمكان العساكر مع الأفضل بن صلاح الدين. ثم بعث صلاح الدين إلى ابنه الأفضل فأمره بإرسال بعث إلى عكا ليكتسحوا نواحيها، فبعث مظفر الدين كوكبري صاحب حران والرها وقايماز النجمي وداروم الياروقي، وساروا في آخر صفر فصبحوا صفورية وبها جمع من الفداوية والاسبتارية فبرزوا إليهم. وكانت بينهم حروب شديدة تولى الله النصر فيها للمسلمين، وانهزم الإفرنج، وقتل مقدمهم، وامتلأت أيدي المسلمين من الغنائم وانقلبوا ظافرين. ومروا بطبرية، وبها القمص فلم يهجهم لما تقدم بينه وبين صلاح الدين من الولاية، جمظم هذا الفتح وسار البشير به في البلاد، والله تعالى أعلم.

    هزيمة الإفرنج وفتح طبرية ثم عكا

    ولما انهزم الفداوية والاسبتارية بصفورية ، ومر المسلمون بالغنائم على القمص ريمند بطبرية ، ووصلت البشائر بذلك إلى صلاح الدين عاد إلى معسكره الذي مع ابنه ، ومر بالكرك ، واعتزم على غزو بلاد الإفرنج فاعترض عساكره وبلغه أن القمص ريمند قد راجع أهل ملته ونقض عهده معه . وأن البطرك والقسيس والرهبان أنكروا عليه مظاهرته مسلمين ، ومرور عساكرهم به بأسرى النصارى وغنائمهم . ولم يعترضهم مع إيقاعهم بالفداوة والإستبارية أعيان الملة ، وتهددوه بإلحاق كلمة الكفر به فتنصل وراجع رأيه ، واعتذر فقبلوا عذره ، وخلص لكفره وطواغيته فجددوا الحلف والاجتماع . وساروا من عكا إلى صفورية ، وبلغ الخبر إلى صلاح الدين . وشاور أصحابه فمنهم من أشار بترك اللقاء وشن الغارات عليهم حتى يضعفوا . ومنهم من أشار باللقاء لنزول عكا واستيفاء ما فعلوه في المسلمين بالجزيرة فاستصوبه صلاح الدين واستعجل لقاءهم .ثم رحل من الأقحوانه أواخر رمضان فسار حتى خلف طبرية ، وتقدم إلى معسكر الإفرنج فلم يفرقوا خيامهم . فلما كان الليل أقام طائفة من العسكر إلى طبرية فملكها من ليلته عنوة ونهبها وأحرقها . وامتنع أهلها بالقلعة ، ومعهم الملكة وأولادها فبلغ الخبر إلى الإفرنج فضج القمص ، وعمد إلى الصلح . وأطال القول في تعظيم الخطب وكثرة المسلمين ، فنكر عليه البرنس صاحب الكرك واتهمه ببقائه على ولاية صلاح الدين . واعتزموا على اللقاء ووصلوا من مكانهم لقصد المعسكر ، وعاد صلاح الدين إلى معسكره ، وبعدت المياه من حوالي الإفرنج وعطشوا ولم يتمكنوا من الرجوع فركبهم صلاح الدين دون قصدهم . واشتدت الحرب وصلاح الدين يجول بين الصفوف يتفقد أحوال المسلمين .ثم حمل القمص على ناحية تقي الدين عمر بن شاه حملة استمات فيها هو وأصحابه فأفرج له الصف ، وخلص من تلك الناحية إلى منجاته ، وأختين مصاف الإفرنج ، وتابعوا الحملات . وكان بالأرض هشيم أصابه شرر فاضطرم ناراً فجهدهم لفحها ، ومات جلهم من العطش فوهنوا ، وأحاط بهم المسلمون من كل ناحية فارتفعوا إلى تل بناحية حطين لينصبوا خيامهم به فلم يتمكنوا إلا من خيمة الملك فقط ، والسيف يجول فيهم مجاله حتى في أكثرهم ، ولم يبق إلا نحو المائة والخمسين من خلاصة زعمائهم مع ملكهم . والمسلمون يكرون عليهم مرة بعد أخرى حتى ألقوا ما بأيديهم وأسروا الملك وأخاه البرنس أرناط صاحب الكرك وصاحب جبيل ، وابن هنفري ، ومقدم الفداوية ، وجماعة من الفداوية والاستبارية . ولم يصاحبوا منذ ملكوا هذه البلاد أعوام التسعين والأربعمائة بمثل هذه الوقعة .ثم جلس صلاح الدين في خيمته وأحضر هؤلاء الأسرى فقرع الملك ووبخه بعد أن أجلسه إلى جانبه وفاء بمنصب الملك ، وقام إلى البرنس فتولى قتله بيده حرصاً على الوفاء بنذره بعد أن عرفه بغدرته ، وبجسارته على ما كان يرومه في الحرمين ، وحبس الباقين . وأما القمص صاحب طرابلس فنجا كما ذكرناه إلى بلده ، ثم مات لأيام قلائل أسفاً . ولما فرغ صلاح الدين من هزيمتهم نهض إلى طبرية فنازلها واستأمنت إليه الملكة بها فأمنها في ولدها وأصحابها ومالها ، وخرجت إليه فوفى لها وبعث الملك وأعيان الأسرى إلى دمشق فحبسوا بها . وجمع أسرى الفداوية والاسبتارية بعد أن بذل لمن يجده منهم من المقاتلة خمسين ديناراً مصرية لكل واحد وقتلهم أجمعين .قال ابن الأثير ولقد اجتزت بمكان الواقعة بعد سنة فرأيت عظامهم ماثلة على البعد أجحفتها السيول ومزقتها السباع . ولما فرغ صلاح الدين من طبرية سار عنها إلى عكا فنازلها ، واعتصم الإفرنج الذين بها بالأسوار ، وشادوا بالاستئمان فأمنهم وخيرهم فاختاروا الرحيل ، فحملوا ما أقلته رحالهم ودخلها صلاح الدين غرة جمادى سنة ثلاث وثمانين . وصلوا في جامعها القديم الجمعة يوم دخلوهم ، فكانت أول جمعة أقيمت بساحل الشام بعد استيلاء الإفرنج عليه . وأقطع صلاح الدين بلد عكا لابنه الأفضل ، وجميع ما كان فيه للفداوية من أقطاع وضياع . ووهب للفقيه عيسى الهكاري كثيراً مما عجز الإفرنج عن حمله ، وقسم الباقي على أصحابه . ثم قسم الأفضل ما بقي في أصحابه بعد مسير صلاح الدين . ثم أقام صلاح الدين أياماً حتى أصلح أحوالها ورحل عنها ، والله تعالى أعلم .

    فتح يافا وصيدا وجبيل وبيروت وحصون عكا

    لما هزم صلاح الدين الإفرنج كتب إلى أخيه العادل بمصر يسيره ويأمره بالمسير إلى جهات الإفرنج من جهات مصر، فنازل حصن مجدل وفتحه وغنم ما فيه، ثم سار إلى مدينة يافا ففتحها عنوة واستباحها وكان صلاح الدين أيام مقامه بعكا بعث بعوثه إلى قيساريه وحيفا وأسطورية وبعلبك وشقيف وغيرها في نواحي عكا، فملكوها واستباحوها وامتلأت أيديهم من غنائمها وبعث حسام الدين عمر بن الأصعن في عسكر إلى نابلس فملك سسطية مدينة الأسباط، وبها قبر زكريا عليه السلام. ثم سار إلى مدينة نابلس فملكها واعتصم الإفرنج الذين بها بالقلعة فأقرهم على أموالهم .وبعث تقي الدين عمر ابن شاهنشاه إلى تبنين ليقطع الميرة عنها وعن صور فوصل إليها وحاصرها وضيق عليها، حتى استأمنوا فأمنهم وملكها. ومر إلى صيدا ومر في طريقةبصرخد فملكها بعد قتال. وجاء الخبر بفرار صاحب صيدا فسار وملكها آخر جمادى الأولىمن السنة. ثم سار من يومه إلى بيروت وقاتلها من أحد جوانبها فتوهموا أن المسلمين دخلوا عليهم من الجانب الآخر فاهتاجوا لذلك، فلم يستقروا ولا قدروا على تسكين الهيعة كثرة ما معهم من أخلاط السواد فاستأمنوا إليه. وملكها آخر يوم من جمادى لثمانية أيام من حصارها. وكان صاحب جبيل أسيراً بدمشق فضمن لنائبها تسليم جبيل لصلاح الدين على أن يطلقه فاستدعاه وهو محاصر لبيروت، وسلم الحصن وأطلقه، وكان من أعيان الإفرنج وأولي الرأي منهم، والله تعالى أعلم .

    وصول المركيش إلى صور وامتناعه بها

    كان

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1