Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

عوليس
عوليس
عوليس
Ebook506 pages4 hours

عوليس

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

عوليس أو يوليسيس أو بالإنجليزية (Ulysses) هي رواية للكاتب الأيرلندي جيمس جويس، وقد نشرت للمرة الأولى كسلسلة في صحيفة (ذا ليتل ريفيو) (The Little Review) الأمريكية بين شهري آذار/مارس 1918 وكانون الثاني/ديسمبر 1920، ثم نشرته سيلفيا بيتش في باريس في كتاب صدر في 2 شباط/فبراير 1922. وتعد هذه الرواية من أبرز الأعمال في الأدب الحداثي حتى أنها اعتبرت نموذجًا وإجمالًا للحركة بأكملها وتسجل الرواية خط سير ليوبولد بلوم داخل مدينة دبلن خلال يوم عادي هو 16 يونيو 1904 (وهو تاريخ اللقاء الأول بين جويس وزوجته فيما بعد نورا بارناكل)، ويشير العنوان إلى أوديسيوس (الذي اقتبس اسمه عن اللاتينية إلى يوليسيس (عوليس))، وهو بطل أوديسة هوميروس، ويفتح المجال لعدة موازنات بين شخصيات وأحداث ملحمة هوميروس وبين شخصيات وأحداث رواية جويس (مثلًا: الموازنة بين ليوبولد بلوم وعوليس، وبين مولي بلوم وبينيلوبي، وبين ستيفن ديدالوس وتليماك). ويحتفل معجبو جويس في مختلف دول العالم بما يسمى "يوم بلوم" (بالإنجليزية: Bloomsday) في 16 يونيو من كل عام. يستخدم جويس في رواية "عوليس" قاموسًا يصل إلى 30 ألف مفردة، تشمل أسماء الأعلام وصيغ الجمع ومختلف تصريفات الأفعال)، وتنقسم الرواية إلى 18 فصل. ومنذ نشرت الرواية دار حولها الكثير من الجدل والانتقادات، من بينها حظر الرواية لفترة لاتهامها بالإباحية، وما عرف بحروب جويس (Joyce Wars) التي دارت حول الرواية. ومما يجعل الرواية ذات قيمة مميزة بتاريخ الأدب الحداثي استخدامها تقنية تيار الوعي، وبنيتها المحكمة، وثراؤها بتجسيد الشخصيات وحس الفكاهة. وقد تصدرت الرواية سنة 1998 قائمة أفضل 100 رواية باللغة الإنجليزية في القرن العشرين.
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateJan 1, 2017
ISBN9786603299034
عوليس

Related to عوليس

Related ebooks

Reviews for عوليس

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    عوليس - جيمس جويس - James Joyce

    مقدمة المترجم

    كانت - وما تزال - دراسة العبقرية عن قربٍ وعن بعدٍ من أهمّ ما يستهويني ويشغل بالي؛ لاعتقادي أن العبقري هو المخلوق الكامل في الجنس الإنساني، فهو أجدر بالعناية.

    ومن بين المسائل: أرى دائمًا أن دراسة الرجل أهمّ من دراسة عمله، أو أن دراسة العمل تحرضّني دائمًا على دراسة الرجل.

    ولما كان هذا العنصر الشخصي معدومًا تقريبًا في الفنون العربية – فيما عدا حياة النبي محمد عليه الصلاة والسلام الذي أنا مشغول بتاريخ حياته(1)– فكان من الضروري جدًّا أن أهتم كثيرًا بأحوال العبقريين من الإفرنج، وإن كنت أفرح كثيرًا عندما أجد قليلًا أو كثيرًا عن حياة عباقرة الشرق.

    ومن العجب أن الشرقيين وإن كانوا أكثر ذاتية Subjectivity، وأكثر انشغالًا بالشخصيات من الناحية الموضوعية objective في الأعمال الأدبية؛ فإنهم أهملوا هذا الجانب في أنفسهم، ولا نجده إلا في كتب قليلة، مثل: الأغاني التي ترجمت ترجمات جيدة لأبطاله.

    وإنني أقيّد اهتمامي بتراجم كل الذين قرأت كتبهم من الإفرنج، وعشت مع عقولهم وأعمارهم. فمثلًا: أفلاطون، وأرسطو، وسقراط، كانت تهمني حياتهم كاهتمامي بفلسفتهم، ولكنهم قدماء جدًّا، ولكن الذين قرأت لهم بشغف أمثال: جوتة، وشوبنهاور، ونيتشة، وسبنسر – وهو رجل عاقل – إذ كتب ترجمته بقلمه، وهذا واجب كل مفكر، وإن كانت المغالاة تشغله كثيرًا بنفسه، وشغلت بتراجم الأحياء المعاصرين، وأعجبني كتاب ياقوت معجم الأدباء، وإن كان اهتمامه بآثار المترجم له أكثر من حياته الشخصية، وكل غايتي هو أن أجد وحدة التكوين عند النوابغ، والمشابهة في الأخلاق والمواهب، وإن اختلفوا تاريخًا وعصرًا وموطنًا وصفة؛ لأثبت لنفسي صحة وجود هذا النوع من الرجال، وكونهم نوعًا قائمًا بذاته من الجنس البشري، وقد وصلت إلى ما يؤيد هذا الرأي تأييدًا تامًّا حتى بين العباقرة في الشرق والغرب، وفي كل زمان

    Les ames bien nées

    ولأصل الآن إلى موضوع هذه الكلمة، وهو جـيمس جـويس، وكتابه عُوليس Ulysses، فأقول إن عثوري على نسخة من كتابه كان بمحض المصادفة في سنة 1932 في بورسعيد، على يد تاجر كتب زنجي اسمه عبده ولا أتذكر باقي اسمه، يعيش في بورسعيد الآن ناجحًا، وسبق لي أن تعاملت معه سنة 1903 في طريقي إلى بيروت، إذ اشتريت منه كتاب Eotten، تأليف Kinglake، أي بعد ثلاثين سنة تقريبًا. وقد عانيت في قراءته وغموضه عناءً كبيرًا على مدى أربع سنوات، إلى أن وصلت إلى حقيقته سنة 1936، وما زلت أقرأه إلى الآن سنة 1942. وقد اكتشفت وحدي ومن تلقاء نفسي ودون دليل أهميته وعظمته وأثره وجدّته، ونسختي مؤشر عليها في أماكن كثيرة. ولم أجد أحدًا في القطر المصري قد قرأه إلا ثلاثة أو أربعة أشخاص. ولم أعلم مقدار ما عانوه، غير أنني التمست في كل كتب الأدب الحديث بصيصًا من النور عن ترجمة المؤلف، فلم أجد إلا نتفًا قليلة معظمها يصف الكتاب بأنه(2) obscene وأنه من وضع رجل مختل الشعور، وأنه لا غاية له في الأدب... إلخ. وقد كاد الإجماع يغلبني خصوصًا في تهمة الغموض، وهو في الحقيقة غامض في أماكن كثيرة ومكشوف في أماكن كثيرة، ولكنني اعتقدت دائمًا أنه من أعظم الكتب التي رأيتها وأعظم كتاب ألف في هذا القرن من سنة 1900 إلى سنة 1940، وأنه شق طريقًا جديدة هيهات أن يستطيع مقلدوها أن يسلوكها. فلم يغب عن ذهني لحظةً أنني أمام Monument من الأدب والفن، وعلم النفس، وفهم حقائق الطبيعة البشرية (راجع ملحوظاتي في الصفحات الأولى من نسختي من الكتاب). وسمعت أنه فقد بصره جرّاء عمله في الكتاب الذي سلخ فيه 7 سنوات من سنة (1914-1921)، وكتبه في جملة ممالك.

    وحيث إنه عمل خيالي imagination، فهو يفوق كل أعمال الحقيقة، أعني أنني لا أقارن به أعمدة الحكمة السبعة The seven Pillars of Wisdom، الذي ألفه لورنس الإنجليزي أيضًا على طريقة حديثة عن وسط غريب عنه، وفيه كثير من الصراحة والإخلاص والصور الجديدة.

    ولكن يحضرني كتاب فاوست Faust تأليف جوتة، وبضع قطع من شكسبير مجتمعة، مثل همليت وماكبث وكليوباترا، ولكن هذا استعان بفن الدراما والحوادث التاريخية التي كانت معلومة للبشر. أما جـيمس جـويس، فقد صعد إلى أرقى درجات الفن في العصر الحديث مع مراعاة القواعد الأصلية القديمة، فهنا وحدة المكان (مدينة دوبلن)، ووحدة الزمان (24 ساعة في 16 يونيو 1940)، ووحدة العمل action؛ لأنه عن جماعة من الطبقة الوسطى المنحطة law middle class، وتكهن بما يدور في خلدهم جميعًا في هذا اليوم، وقصّ دون أن يسمع إلا قليلًا جميع أقوالهم مع دقة في الوصف المحيرة للأشخاص والجهات والهيئات، وبعبارة صحيحة استخرج صورة إنسانية خالدة من توافه الأشياء، ورسمها على أبدع وأقوى وأظهر مثال.

    ولِمَ اختار جـويس المكان والزمان المذكورين؟ ليس لحبه لدبلن أو لعلمه بها أكثر من غيرها، قد يكون عرف أهل زيوريخ أو تريستا أو باريس أو روما أكثر منها، ولكن ليقول إن دبلن في 16 يونيو سنة 1904 مثل كل بلاد العالم منذ الخليقة إلى آخر الدهر، فإنه لا يتغير في الناس إلا الثياب والعادات المعاصرة، أما الإنسان، فهو الإنسان في كل زمان ومكان، وقد أعجبني جدًّا؛ لأنه ينطبق على الحقيقة الثابتة في ذهني بعد الخبرة الذاتية.

    أو ليعبر عن غيظه art for art's sakeويظن الكثير أنه عمل هذا لأجل الفن من الـجـيزويت الذي كبتوه في تعليمه، أو أهل بلده الذين احتقروه... أبدًا إنه عمل علمي بأكمل معنى؛ لأنه سجل على أحسن حال صورة معاصرة (وهذا من أصعب الأمور). هي صورة عالمية، بل وكونية أبدية، وعلى طريقة موضوعية objective.

    وقد كنت في حيرة حول حياة الرجل إلى أن ظهرت ترجمة وافية كافية في وصف المؤلف – وأراخا ناقصة – تأليف Herbert Gorman سنة 1940 إلى ما قبل وفاة جـويس بعام واحد، فطابقت قصدي في طريقة فهم الكتاب ولم تطابقه فيما كنت أتخيله عنه، فقد كشفت لي أنه نشأ في أسرة وسط في إيرلندا وتعلم عند الـجيزويت، ونبغ في اللغات، وهاجر مبكرًا في سن 20 سنة إلى القارة الأوروبية نافرًا وهاربًا من وطنه الذي كان خليقًا بأن يبتلعه، وسرّني أنه عرف اثنين من أصدقائي وهما: (4) F. Ryanو Tom Kettle، وكلاهما إيرلندي وتوفي، وأنه عاش ثلاثين سنة من هجرته من التدريس بغية 10 بنسات في الساعة، وضيع معظم عمره في السعي على رزقه ورزق أولاده، وأن الأوقات التي قضاها في التأليف أقل من القليل، وقد اغتصبها ونتشها نتشًا من الزمان.

    وخليق بي أن ألاحظ كيف أن المواهب الصريحة الموهوبة للرجل، يضحي بها دائمًا وعلى مرأى ومسمع من المعاصرين والأقارب، في سبيل العمل المذل الذي حول السعي للرزق، وهذه قصة مشاهدة إلا في نوابغ ونوادر سعداء الحظ أمثال: جوته وآينشتاين، ولكن الجميع – الآخرين – كانت الأعمال المستعدون لها التي احترمتها الإنسانية بعد فوات الوقت، هي التي عملت اختطافًا واغتصابًا من الزمان ومن مشاغل الحياة، وإنك ترى رجالًا حميرًا يقضون عشرات السنين في أعمال غير مجدية، ونجد عندهم الفراغ وفسحة الوقت والطمأنينة، وغير مكلفين بالسعي على الرزق، وليس وراءهم ما يشغلهم غدًا. غير أنني بعد طول التفكير، هذه المشغولية، وهذه الهموم، أدعى للتأليف والإنتاج والتفكير المجدي، لا في حالة الحمير المطمئنين، بل في حالة النوابغ.

    وأضيف أيضًا إن أعمالهم – وإن كانت خطفًا واغتصابًا – فإنها تكون مسهلة؛ لأنهم يعملونها بلذة وسرور وتوفيق؛ لاستغراقهم فيها بطريقة غير إدراكية unconscious.

    غير أنني بعد أن أسرد كل حياته، أقول رأيي(5).

    ثم إنه تنقل من باريس إلى دبلن إلى زوريخ إلى تريستا إلى يولا إلى روما، وكان من ساعة مبكرة يعاني أمراض الأسنان والعينين وعمل عشر عمليات، واستمر على الرغم من ذلك في العمل حتى أخرج الكتب الآتية في مدى 25 سنة وهي:

    - موسيقى الغرفة.

    - إيرلنديون من دبلن (1914).

    - صورة للفنان في شبابه (1904 / 1914 – 1906).

    - المنفيون (1918).

    - عُوليس (1914 / 1921 – 1922).

    - قصائد (1927 / 1932)

    - فينجانزويك (1922 – 1939).

    - البطل ستيفن (1944).

    وقد استمر في عمله من 1904 إلى 1938، أي هذا جيل كامل (34 سنة)، وأنا لا يهمني من كل هذه الكتب غير عُوليس Ulysses الذي هو تحفة (master piece)وعمل أدبي عالمي.

    عندما استعرضت في ذهني صورته، تأكدت أنه كان مسوقًا مرغمًا على عمله، وأنه بمثابة شخص ممسوس Possessed على ظهره عفريت، وهو تارة راكب هذا العفريت لا يتخلص أحدهما من الآخر حتى ينتج عمله، وقست الأمة التي قاساها، فقلت: هل هذا الأدب وهذا الفن يستحق كل ما يقاسيه الإنسان في سبيله في دنيا لاهية عنه مشغولة بالماديات واللذات، معرضة عن هؤلاء الضحايا، ومستعدة لاستغلالهم عندما ينضجون ويصبحون صالحين للاستغلال؟

    في النهاية، قلت نعم وأكثر من ذلك، لأن الأدب والفن والإنتاج للرجل العبقري يجعله صاحب وظيفة ضرورية للمجتمع: كالنبوة، والشاعرية العظمى، والاختراع، والاكتشاف، كل هذه ضرورية للحياة وللإنسانية، ولذا، يتم إنتاج النابغ ولو في غفلة من عصره وقومه وبعد عصره وبعد قومه، ولكن لبعض حسن الحظ أنهم يتنبهون الآن في أوروبا وبعض بلاد الشرق قبيل النهاية بقليل أو بعدها بقليل(6)، والفرق في الشرق والغرب أن تنبّه الشرق كتنبّه السكران، يتلوه الخمود والنوم والنسيان، أما في الغرب، فيبقى التنبّه طويلًا والاهتمام مستمرًا.

    إن حياة جـويس نفسها هي نوع من الملاحم Epopée، واختيار اسم يوليسيس Ulysses هو quite omenous لأن حياته أشبهت حياة عُوليس وأحداث حياته كالأحداث التي حصلت لذلك البطل القديم. غير أن عُوليس وجد هوميروس يرويها له، أماجـويس، فقد رواها عن نفسه مع مجموعة أبطال كتابه، ولم يجئ الرجل الذي يرويها مستقلة.

    إنني أعتقد أن ترجمة هربرت جورمان لـجـيمس جـويس ناقصة ومستعجلة، ولكنها جيدة، لأنها كتبت في حياته، ولابد أنه راجعها ونقّحها وفيها لمحات بلا شك من قلمه. وما كتبه جورمان ظاهر؛ لأنه ختمها وطبعها في 15 نوفمبر سنة 1936 بعد عيد ميلاد جـويس الذي كان في 2 فبراير من السنة نفسها عند ظهور كتابه الأخير، ولكن الذي يستطيع أن يكتب ترجمته الصحيحة هم ثلاثة أشخاص: (1) جورمان نفسه، (2) زوجته نورا Nora (3) عزرا باوند، فضلًا عن سكرتيره المدعو بان ليون، وأخيه ستانسلاوس جـويس، وألفرد برجان، والمرأة بييتش التي نشرت كتابه عشر مرات، وساعدت في نقله إلى اللغة الفرنسية، وعاش أمامها أكثر من 15 سنة في باريس وهي سنواته الأخيرة، وأخيرًا الأستاذ الدكتور فوجت Vogt الذي عالج عينيه.

    طبعًا إن المؤلف جورمان قابل وكاتب، وسأل هؤلاء وعشرات غيرهم لاسيماجـويس نفسه وزوجته، ووافق كلاهما على كل ما جاء في هذه الترجمة وقدّما له معلوولكن هناك نواحٍ خفية من حياته لم تكتب في حياته ولا عبرة بما وصف به المترجم كتابه من أنه ترجمة أو سيرة نهائية Definitive Biography وهي – على كل حال – كافية ومشبعة للرجل فوق العادي الذي قرأ كتابه، ودعاية واسعة لمن لم يقرأه، ولذا، طبعه ناشر كتاب يوليسيس، وهو جون لين John Lane.

    ولكن الإجابة عن الأسئلة الآتية تظل غائبة:

    - من هن النساء اللواتي عرفهنجـويس في إيرلندا والبلاد الأخرى غير زوجته؟

    - ما الكتب التي قرأها جميعها في أثناء حياته؟

    - من هم الأشخاص الذين قابلهم وكان لهم تأثير في حياته؟

    - من هم الأشخاص الحقيقون الذين جعلهم أبطال قصته؟

    - نماذج من كتاباته الشخصية في مذكراته أو زوجته أو أخيه.

    - طريقة عمله وتكوين أفكاره.

    - تفصيل حياته في باريس في الـ 15 سنة الأخيرة، وما كتبه عنه أصدقاؤه.

    - هل كان Leading a dissipated life (متصعلكًا) في أي فترة من حياته؟

    - من هم أعداؤه الحقيقيون في إيرلندا، وكيف صورهم في كتابه؟ وطبعًا بعض هذه النقاط يدخل فيها تحليل مؤلفاته.

    وعلى كل حال، فإن هربرت جورمان الذي أظنه مأجورًا أو مدفوعًا لوضع الترجمة يستحق الشكر.

    محمد لطفي جمعة

    مارس سنة 1942

    (1)

    عُولِيس

    أطلَّ بكَ مُلجَنْ، الأملس الدليص، في جلال وبهاء على رأس السلالم، حاملًا وبين يديه طاسًا من طاسات الحلاقة، ملأى برغوة الصابون، وعلى حافة الطاس مرآة وموسي، وضعتا على هيئة الصليب، وقد ارتدى لبسه المتفضل مهفهفة صفراء بغير حزام، هندمها وألصفها بظهره نسيم الصبح اللطيف، ولما ظهر ملجن على السطح رفع يده مرتلًا باللاتينية: هذا يوم جديد يدخل علينا فلنستقبله بالبشر والتيمن، ثم انحنى مشرفًا على مسقط السلم المظلم، ونادى بأعلى صوته الأجش الخشن: هيَّا إلى الصعود ياكنش!.. هلمَّ أيها الـجزويتي المخيف..، ثم تقدم مُلجَنْ في خشوع واعتلى قاعدة المدفع القديم وأخذ يقلب وجهه ثلاثًا في مهابة ووقار، وبارك ذلك البرج الذي صعد إلى سطحه. كما بارك البطحاء والجبال المحيطة بها، وكأن الجبال نهضت متيقظة من سباتها، وبصر فجأة بستيفن ديدلوس الذي بلغ قمة السلم ملبّيًا نداءه فانحنى ملجن أمام صاحبه، راسمًا صليبية، وهو يغرغر ويبقبق من حلقه، مرسلًا من صوته ما يحاكى به تهدج القساسة في صلاتهم، وقد اهتز رأسه يمنة ويسرة من أثر الكرى.

    أما ستيفن ديدالوس الذي بقيت في عينيه هو الآخر أثار كحل الوسن، فبدا غير راضٍ متزمتًا، وارتكن بذراعيه على مشرف السلم ونظر في فتور إلى رأس صاحبه، وما زال مهتزًا وإلى وجهه الشبيه بوجوه الخيل في استطالتها، وكان ملجن متماديًا في محاكاة الصلاة. أما ستيفن فأخذ يحدق في شعر ملجن الطويل الذي خاصمته أدوات القص والجز، لاسيما أم رأسه، ذلك الشعر السندياني اللون الكث المتلبد.. فنظر ملجن من تحت المرآة وأخفى طاس الحلاقةفي خفة ورشاقة، وصاح بشدة مداعبًا مازحًا مهرّجًا: العود إلى الثكنات! ثم بدأ يحاكي ألفاظ الوعاظ وأصواتهم قائلًا: ... لأنه أيها الحبيب الأعز هو المسيح الحق، الحي بالجسد والروح، والنفس والدم.. أرجو من فضلكم يا سادة ألا تسرعوا في عزف الأنغام.. أغمضوا أعينكم يا سادة دقيقة واحدة.. تعب قليل بسبب كريات الدم البيضاء.. سكوتًا وصمتًا حتى يتيسر الاستماع لكم جميعًا، ثم صاح مبتهجًا: شكرًا لك يا صديقي القديم، حسبك هذا! فاقطع الآن تيار الكهرباء!.

    ولم يلبث بك ملجن أن ينتهي من تلك المحاكاة والمداعبة طرفة عين، حتى وثب من مقعده، وهو مدار المدفع العتيق، وانتصب قائمًا، ينظر إلى صاحبه ستيفن في جد ووقار، ثم ضمّ أطراف ثوبه حول ساقيه كمن يتأهب لأمر مهم، وبدا وجهه برمًا متجهّمًا، وكان ذا وجنتين عاليتين بيضاوتين، تذكران ستيفن بتصاوير كبار الأساقفة والكرادلة الغابرتين، من حماة الفنون الرفيعة في القرون الوسطى.. ثم أفتر ثغره عن ابتسامة هادئة انفرجت لها شفتاه وبدأ يتكلم وكأن فرحة تغمره بعد المزاح والمداعبة، قال: يا لها من سخرية إن اسمك يا صاحبي لون من المحال لأنه إغريقي قديم، ثم أشار بسبباته في دعابة تنم عن مودة صادقة لستيفن.. وسار قدمًا إلى الجدار الحاجز المحيط بسطح البرج، ضاحكًا ولكنه مستأثر بضحكه، فخطا ستيفن ديدالوس بضع خطوات متتبعًا سير صاحبه وقد بدأ يشعر بالضجر. أما ملجن فقد عاد إلى قاعدة المدفع وجلس على حافتها وأخذ يركز مرآته على الجدار الحاجز، وما زال ستيفن يرمقه فرآه يغمس فرجون (فرشون) الحلاقة في الطاس ويغمر خديه وما يليهما من منابت الشعر برغوة الصابون، ثم أخذ ملجن في استكمال حديثه الذي بدأ به عن اسم صاحبه؛ قال وهو يردد صوته في بهجة وحبور: وأنا أيضًا اسمي كاسمك عجيب فوق العجب، ومحال وراء المحال، مالاتشي ملجن. مقطعات قصيرات من مقاطع الشعر، لاسمك الإغريقي الأصل معنىً وهو التاج.. أما اسمي، فله رنين إغريقي عريق.. أليست عليه مسحة من أشعة الشمس المشرقة.. وفيه أطياف معان ترمز للتنقل والاغتراب والقفز والوثب، كالتيس الجبلي، ذلك الأعصم الذي لا ينال؟ ينبغي لنا في الحق بعد أن وقفنا على سر اسمينا أن نرحل إلى أثينا، أتأبى أن ترافقني إذا احتالت على الخالة – يقصد إلى أم المتحدث – واستخلصت لي ولك منها عشرين جنيهًا تكفينا نفقة لتلك الرحلة؟، ثم وضع الفرجون جانبًا وهو يضحك مسرورًا باقتراحه وقال: أيقبل الـجزويتي الصغير دعوتي إلى السفر؟، ثم تناول الفرجون وصمت وعاد إلى حلاقة ذقنه، وانتهز ستيفن فرصة سكوت ملجن وابتدره في هدوء قائلًا: خبرني بربك يا ملجن، أجاب ملجن من فوره: لبيك يا حبيب الروح! متى ينوي هذا الإنجليزي البغيض، الرحيل عنا ومغادرة البرج، وإلام تطول إقامته بيننا؟ أجاب ملجن:

    - رباه، إنه لأمر وهر مرير مرعب، سكسوني ثقيل الدم ينكر عليك أنك سيد كريم ومهذب أريب! هؤلاء الإنجليز النوكي الأغرار السمجون! يكادون ينفجرون من وفرة المال والتخمة والبشم! إلا أنه خريج جامعة أكسفورد، وأنت خريج جامعة دبلن، فلست سيدًا ولا مهذبًا مع أنك يقينًا كما تعلم مطبوع على عادات أكسفورد وأخلاق طلابها كما وضعت.. ولذا تراه لمنهجيته وسوء ظنه عاجزًا عن الاطمئنان إليك.. عامدًا في إعراضه عنك!

    ألا ترى أن الاسم ااذي اخترته لك خير الأسماء، بلا ريب كنش أي حد المدية! إن فيه لحدة وقوة ووعيدًا، ونفعًا أكيدًا.. كنْش. حد المدية..ثم عاد ملجن إلى حلاقة ذقنه بعد خديه. قال ستيفن – كان هنز يهذي ويهرتل طوال ليلته – مشغولًابفهد أسود يحاول صيده.. ويقول في لهفة: أين جراب سلاحي؟.

    قال ملجن: مجنون، مخبول ذو آفة وعاهة، يورثنا الغم والهم بالنهار والخوف والوجل بالليل! أجزعت يا ستيفن لهذيانه؟

    قال ستيفن: أي نعم بلى! لقد دبّ الرعب في قلبي. أهنا في الظلام أستطيع أن أرقد مطمئنًا إلى رجل لا أعرفه، يبيت ليلة يهذي ويتأوه، ويتحدث إلى نفسه عن اصطياد فهد أسود، ويسأل عن جراب سلاحه ليطلق الرصاص عليه! أنا أعلم يا ملجن أنك شهم شجاع، أنقذت غرقى مشرفين على الهلاك، ولكنني لست بطلًامجازفًا، ولا باسلًا مغامرًا، إن طالت إقامة هذا الرجل بيننا، فإنني لا شك راحل. فعبس ملجن وهو يرمق رغوة الصابون على حد الموسي، ثم وثب من مقعده، وأخذ يبحث في جيب سراويله بلهفة وعجلة. فلم يهتدِ إلى ضالته، فسب ذاكرته، ولعن السهو الذي أنساه، ما كان ينشده ويبحث عنه، ثم جاء إلى قاعدة المدفع حيث كان ستيفن واقفًا، فدس يده في جيب صاحبه دون إذنه وقال: أعرني، فديتك، يأ أخي، خرقة أنفك الأشم، لأمسح بها حد الموسى وأنظفه مما لصق به من الرغوة، فصبر ستيفن على مضض حتى سحب ملجن منديله من جيبه، فإذا هو قذر مغضن مجعد متقلص، فاشمأز ستيفن، وخجل، ولم يأنف أن يمسح حد الموسي بطرف من المنديل القذر، وهو يتصنع الدقة والأناقة، ثم ألقى نظرة على المنديل وقال:

    - خرقة رقيقة لأنف شاعر عريق.. لون جديد لأهل الفن المواطنين، سواء كانوا شعراء أم مصورين الأخضر المخاطي! ألا تكاد تتذوقه؟ ألا تستطيع أن تستوعب اللون والطعم معًا؟

    ثم وثب إلى مقعده، وألقى نظرة شملت خليج دبلن على سعته، وكان الهواء يلعب بشعره الشبيه بلون البلوط في صفرته. وقال: الله! أليس البحر كما وصفه الجي حقًّا أم شهباء حلوة، بلون أخضر مخاطي. آه يا ديدالوس ما أعظم الإعريق وأبصرهم.. وأصدق تفكيرهم.. لا مناص لي من أن أعلمك اليونانية القديمة حتى تحذقها، فلا غني لك عن أن تقرأ آثار شعرائهم وكتابهم في أصولها بمتونها وحواشيها، ونصوصها وهوامشها.. البحر أمنا الحلوة، تعال وانظر! فنهض ستيفن، وقصد إلى الجدار الحاجز ومال عليه وتأمل الماء وبصر بسفينة البريد خارجة من ثغرة الميناء في كنجستن.

    فقال ملجن – أمنا - القديرة القوية! ثم استدار فجأة، وحول وجهه عن صفحة الماء إلى وجه ستيفن، وحدق فيه بعينيه الواسعتين الفاحصتين، وقال:

    - إن الخالة – يقصد بها أمه – تظن أنك قتلت أمك، ولذا، تنهاني عن صحبتك، فقال ستيفن واجمًا. لابد أن يكون أحد قد قتلها، أنا أو غيري، قال ملجن: ماذا منعك عن أن تركع بجانب فراشها، بعد أن طلبت إليك ذلك يا كنش؟ أف لك.. يا لها من لعنة! أتسألك أمك وهي تجود بروحها فتعصيها وهي الرمق الأخير! لا تقل لي: أنا مثلك، بل أشد تمسكًا بأخلاق أهل الشمال، ولا أكون أبدًا أسير العواطف، ولكن كيف أتصور والدتك متوسلة إليك وهي تجود بنفسها الأخير، وقد بلغت روحها التراقي أن تركع بجوارها.. وتصلي إلى الله عنها.. وتدعو لها.. أنت ولدها، وفلذة كبدها، فتأبى عليها، وتخرج عن طاعتها، وتضنّ بركعة وصلاة.. يا لك من ابن عاق! لابد أن يكون الشر عنصرًا كامنًا في طبعك، ثم قطع ملجن الحديث، وعاد يغمر خده برغوة الصابون، وبزغت على فمه إنسانية ملؤها الصفح والعفو، والرحمة، وهمس:

    - بهلوان! كنش.. ولكن أحب البهلوانات إلى قلبي.. ثم عاد يحلق في عناية وجد، ولزم الصمت.

    أما ستيفن، فأسند كوعه إلى حجر الجرانيت الذي تصدع من هبوب الرياح الملحة. ووضع بطن راحته على جبينه، فكان أول ما صادف عينيه طرف كمه الأسود اللامع لمعان القدم، فإن بعض الصوف إذا اعتراه البلى ظهر له بريق، يا له من تناقض.. ألم طغى عليه، ولكنه لم يصر بعد ألم الحب الذي هاج قلبه. وفي سكون النفس، تذكر فجأة أمه منذ ظهرت له في رؤيا بُعَيْدَ وفاتها، كأنها تزوره.. ترى أجاءت عاتبة أم معلقة القلب بحب ولدها.. وكأن جسمها أدركه الضنى وهي تدلف في ثوب رمادي فضفاض.. هل كان ثوبًا، أم كفنًا تفوح منه رائحة الشمع المشتعل وبخور الندِّ والورد.. لقد مالت عليه تنفخ فيه من أنفاسها صامتة مؤاخذة، تهب منها رائحة خفية كرائحة الرماد البلل.. ومن خلال طرف كمه بصر ستيفن البحر الذي نعته صاحبه بالأم الحلوة؛ فرأى حلقة الخليج عند التقائها بمحيط الأفق.. وقد احتوت كتلة كاملة من السائل الأخضر.. كان بجوار فراشها على منضدة صغيرة طاسة بيضاء من الخزف الرقيق.. فيها سائل أخضر داكن.. وهو الصفراء التي استفرغتها كأنها كانت تنتزعها من كبدها التي أتلفها المرض وفي كل نوبة قيء تصيبها.. ويقتلعها الداء من أحشائها.. تبتليها رجفة.. ووخزة من الألم مصحوبة بتأوهات صارخة يتلوها أنين فظيع.. يمر بالأذن، ثم يخترق القلب، فيعصره عصرًا.

    وكان بك ملجنيمسح حد الموسى من أثر رغوة الصابون، فخاطب ستيفن: آه يا صاحبي.. يا لك من مسكين شقي، قالها بصوت ينبض بالحنان والشفقة.. يجب عليّ أن أعطيك سراويل وبضعة مناديل وجوارب.. كيف وجدت السراويل المخلوعة عليك أو المهداة إليك؟ قال ستيفن:

    - لا بأس بها.. وعاد ملجن إلى حلاقة ما بين شفته السفلى وذقنه، وقال: يا للسخرية، كان يصح أن يقال سراويل الساق الثانية بدلًا من قولهم اليد الثانية!

    الله يعلم أي سكير مخمور وعربيد مدمن مريض كان يستر بتلك السراويل ما خفي من بدنه، لا سيما الجزء السفلي.. ما أمر الدين والآداب بستره.. ثم تخلى عنها حيًّا رغم أنفه، أو غادرها ميتًا. تركة مرذولة.. مرغوبًا عنها.. لك عندي زوج سراويل سوداء مخططة بأقلام شهباء ستبدو بها أنيقًا رائعًا.. لست مازحًا يا كنش في قولي إنك حسن السمت، جميل الهيئة والهندام، تبدو في مصاف الأعيان، فتعجبني عندما ترتدي ثيابًا جيدة جديدة.

    فقال ستيفن: شكرًا يا أخي، إن كانت السراويل شهباء، فلا أستطيع أن أرتديها. قال ملجن وهو يحدث خياله في المرآة: اسمع وأعجب.. إنه لا يستطيع أن يرتدي السراويل الشهباء، فالعرف في الأناقة واللياقة عنده.. هما العرف في اللياقة والأناقة.. يقال أمامه، ثم لا يستطيع أن يرتدي السراويل الشهباء.

    ثم أطبق ملجن حد الموسي في عناية، وأخذ يتحسس بأطراف بنانه نعومة خديه الحليقتين، وأدار ستيفن نظرته وحوّل وجهه من البحر إلى الوجه الأملس البدين، ذي العينين الزرقاوين بلون دخان الطباق! وهما دائمتا الحركة كأنهما ركبتا على محجرين من الزئبق المترجرج. قال ملجن: تذكر يا كتش ذلك المخلوق الذي صاحبني في العشيّ بالسفينة؟ إنه قال لي إنك مصاب بداء ش. ع. ج.. أي الشلل العام المصحوب بالجنون، يصاب به المزمنون بالزهري، وينتهي حتمًا بموتهم يهلك أجسامهم ويذيب عقولهم.. يظهر لي أنه طبيب

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1