Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

جواهر الآداب وذخائر الشعراء والكتاب
جواهر الآداب وذخائر الشعراء والكتاب
جواهر الآداب وذخائر الشعراء والكتاب
Ebook788 pages5 hours

جواهر الآداب وذخائر الشعراء والكتاب

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

قدم المؤلف في هذا العمل مرجعًا شاملاً ومتميزًا وضروريًا لعلماء مختلف علوم الأدب العربي. بطريقة لا يحتاجها أي باحث في الشعر والنثر العربي أو المفردات والبلاغة وغيرها من العلوم. اعتبر علماء المسلمين القرآن الكريم على أنه أعلى كلمة عربية وأشاروا إلى آيات الكلمة الإلهية في القواعد والمفردات وغيرها من العلوم. في هذا العمل ، تم إيلاء أهمية خاصة للأدلة القرآنية. كما أن بعض الأحاديث الواردة في الكتاب مأخوذة من سنن ابن ماجه أو مسند أحمد بن حنبل أو غيره من الكتب الصحيحة.
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateJun 25, 1901
ISBN9786692871586
جواهر الآداب وذخائر الشعراء والكتاب

Related to جواهر الآداب وذخائر الشعراء والكتاب

Related ebooks

Reviews for جواهر الآداب وذخائر الشعراء والكتاب

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    جواهر الآداب وذخائر الشعراء والكتاب - الشنتريني

    الشعر وقائليه واختلاف أغراضهم فيه

    وتفاصيل أنواعه، وآداب عمله، وأبواب بديعه. وفيه أربعون باباً، الباب الأول: في فضيلة الشعر ومنافعه. الباب الثاني: في معايب الشعر ومضارّه. الباب الثالث: في طبقات الشعراء ومراتبهم. الباب الرابع: في اختلاف أغراض الشعراء ومذاهبهم. الباب الخامس: في أنواع الشعر وضروبه. الباب السّادس: في جمل يستعان بها على عمل الشعر. الباب السّابع: في مطالع الشعر ومقاطعه. الباب الثامن: في الاستعارة. الباب التاسع: في التمثيل. الباب العاشر: في ضرب الأمثال. الباب الحادي عشر: في التشبيه. الباب الثاني عشر: في التلويح والإشارة. الثالث عشر: في التتبيع والتجاوز. الباب الرابع عشر: في التجنيس. الخامس عشر: في الترديد. السّادس عشر: في التصدير. السّابع عشر: في التبديل والعكس. الثامن عشر: في المطابقة. التاسع عشر: في الطباق المختلط بغيره. الباب العشرون: في المقابلة. الحادي والعشرون: في التقسيم. الثاني والعشرون: في التسهيم. الثالث والعشرون: في التفسير. الرابع والعشرون: في الاستطراد. الخامس والعشرون: في التفريع. السّادس والعشرو: في الالتفات. السّابع والعشرون: في الاستثناء. الباب الثامن والعشرون: في الالتفات. السّابع والعشرون: في الاستثناء. الباب الثامن والعشرون: في التتميم. التاسع والعشرون: في المبالغة. الباب الثلاثون: في الإيغال. الحادي والثلاثون: في الغلو. الثاني والثلاثون: في التشكيك. الباب الثالث والثلاثون في المذهب الكلامي. الرابع والثلاثون: في نفي الشيء بإيجابه. الخامس والثلاثون: في الاطّراد. السّادس والثلاثون: في التضمين. السّابع والثلاثون: في التكرار. الثامن والثلاثون: في الإيجاز. التاسع والثلاثون: في البيان. الباب الأربعون: في مُستحسن الحشو ومصيبه .^

    الباب الأول منه

    فضيلة الشعر ومنافعه

    اعلم أن جيّد الشعر، وإن كان أقلَّ من جيّد النثر، فهو أشهر وأسير، والمحفوظ منه أكثر، وسبب ذلك أنَّ الأوزان والقوافي حسّنته، وحبَّبته إلى النفوس وزيَّنته فتشوَّقت، إلى درسه ونشيده، وتولَّعت بتكريره وترديده، فسهل بذلك حفظه، وهان تقييده وضبطه، ولذلك احُتمل فيه ما لا يُحتمل في غيره، من مخاطبة الملك بالكاف، ودعائه باسمه، ونسبته إلى أمّه، ويحسُن فيه من الكذب ما لا يحسُن في غيره، وليس ذلك إلا لإيثار الشعر والرغبة فيه، فأمَّا قول النبي عليه السّلام: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتَّى يريه خيرٌ له من أن يمتلئ شعراً .فقيل: أن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتَّى يريه منه، حتَّى لا يبقى فيه فضلٌ لغيره، لأنه متى كان كذلك، شغل عن الواجبات، وألهى عن المهمات. وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ذلك من الشعر الذي هُجي به النبي عليه الصَّلاة والسّلام، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} ؛لأنه استثنى منهم المؤمنين فأما قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ} ؛فإنما نزَّه نبيه عنه لما ذكرناه من جواز الكذب فيه، وذلك مَّما يقدح فيه صدق الرسول، وينافيه، وقد أُنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعر، وأثاب عليه .كان كعب بن زهير، قد وهجاه، ثم ندم، فأتاه تائباً مستأمناً، فأنشده قوله: بانت سعاد، فقلبي اليوم متبول القصيدة .فأمَّنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ووهبه بردته، فاشتراها منه معاوية رضي الله عنه بثلاثين ألف درهم، وقيل بعشرين ألفاً، وهي التي يتوارثها الخلفاء، ويلبسونها في المواسم تبرُّكاً بها، وقيل إنه وهبه معها هُنيدةً، وهي مئة من الإبل .وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، قد توقف عن إعطاء الشعراء، فقال الأحوص، يذكر عطية رسول الله صلّى الله عليه وسلم لكعب بن زهير :

    وقبلك ما أعطى هُنيدة جلَّةً ........ على الشعر كعباً من سديسٍ وبازل

    رسول الإله المستضاء بنوره ........ عليه السّلام بالضّحى والأصائل

    وروى هشام بن عروة أن النبي صلّى الله عليه وسلم بنى لحسّان في المسجد منبراً ينشد عليه. وقيل لابن المسيَّب: إن قوماً بالعراق يكوهون الشعر. فقال: نَسكوا نُسكاً أعجمياً. وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى رحمه الله تعالى: مُر من قبلك بتعلُّم الشعر ؛فإنه يدلّ على معالي الأخلاق، وصواب الرأي، ومعرفة الأنساب .وقال معاوية رضي الله عنة: يجب على الرجل تأديب ولده، والشعر أعلى مراتب الأدب .وكان العمري يقول: الشعر يَحُلُّ عُقدة اللسان، ويشجِّع قلب الجبان، ويُطلق يد البخيل، ويحضُّ على الخُلُق الجميل.

    فصل

    وقد قال الشعر الخلفاء، والقضاة، والفقهاء، فمن شعر أبي بكر:

    أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث ........ أرِقتُ ، وأمرٍ في العشيرة كارث

    ترى من لؤيٍّ فرقةً لا يصُدُّها ........ عن الكفر تذكيرٌ ، ولا بعث باعث

    في أبيات له. ومن شعر عمر رضي الله عنه قوله:

    توعَّدني كعب ثلاثاً ، يعدُّها ........ ولا شكَّ أنَّ القول ما قال لي كعب

    وما بي خوف الموت ، إني لميِّت ، ........ ولكن خوف الذنب يتبعه الذنب

    ومن شعر عثمان رضي الله عنه قوله:

    غِنى النفس ، يُغني النفس حتَّى يكُفَّها ........ وإن عضَّها حتَّى يضُرَّ بها الفقرُ

    وما عسرةٌ فاصبر لها إن لقيتها ........ بكائنةٍ إلا سيتبعها يُسرُ

    ومن شعر علي رضي الله عنه قوله:

    لمن رايةٌ سوداء ، يخفق ظلُّها ........ إذا قلت قدِّمها حُضينٌ تقدَّما

    فيوردها في الصَّفِّ حتَّى يرُدَّها ........ حياض المنايا تقطر الموت والدَّما

    أي: يوردها حياض المنايا حتَّى يردَّها تقطُرُومن شعر الحسن رضي الله عنه:

    نسوّد أعلاها ، وتأبى أصولها ........ فليت الذي يسوّد منها هو الأصل

    ومن شعر الحسين وقد عاتبه أخوه في امرأته رضي الله عنهما قوله:

    لعمرك ، إنني لأحب دارا ........ تحلّ بها سُكينة والربابُ

    أحبُّهما ، وأبذل جُلّ مالي ........ وليس للأئمي عندي عتاب

    ومن شعر معاوية:

    إذا لم أجد بالحلم مني عليكُمُ ........ فمن ذا الذي بعدي يُؤَّملُ للحلم

    ردوه هنيئاً ، واذكروا فعل ماجدٍ ........ حباكم على حرب العداوة بالسّلم

    ومن شعر جعفر بن أبي طالب يوم قُتل بمؤتة رضي الله عنه قوله:

    يا حبَّذا الجنة ........ واقترابها

    طيِّبةٌ ، وباردٌ ........ شرابُها

    والروم رومٌ قد دنا ........ عذابُها

    عليَّ إن لاقيتُها ........ ضِرابها

    ومن شعر عبد الله بن عبد المطلب:

    وأحور مخضوب البنان مُحَجَّب ........ دعاني ، فلم أعرف إلى ما دعا وجها

    بخلت بنفسي عن مقامٍ يشينها ، ........ فلست مريداً ذاك طوعاً ، ولا كرها

    ومن شعر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قوله:

    ولولا النُّهى ، ثم التُّقى ، خشية الردى ........ لعاصيت في حُبِّ الصَّبا كُلَّ زاجر

    صبا ما صبا ، فيما مضى ، ثم لا ترى ........ له صبوةٌ أخرى الليالي الغوابر

    ووجد القاضي شريح ولده يلعب بجروٍ في وقت الصَّلاة، فوجّه معه إلى معلِّمه هذه الأبيات في رقعةٍ مختومةٍ:

    ترك الصَّلاة لأكلُبٍ يسعى بها ........ طلب الهراش مع الغواة الرجَّس

    فليأتيَّنك غُدوةً بصحيفةٍ ........ مختومةٍ كصحيفة المُتلمِّس

    فإذا هممت بضربه ، فبِدرَّةٍ ........ وإذا بلغت به ثلاثاً ، فاحبس

    واعلم بأنك ما أتيت ، فنفسُهُ ........ مع ما يجرِّعُني أعزُّ الأنفس

    ومن شعر الشافعي رضي الله عنه قوله:

    وضاحكٍ ، والمنايا فوق مفرقه ........ لو كان يعلم غيباً ، مات من كمد

    من كان لم يؤت علماً في بقاء غدٍ ........ ماذا تفكُّره في رزق بعدَ غد ؟

    ومن منافع الشعر أنه قد رفع أقواماً ليس لهم سبب يرتفعون به سواه، فمنهم الحارث بن حلِّزة، كان أبرص، فأنشد عمرو بن هند قصيدته التي أولها:

    آذنتنا ببينها أسماء

    وكان بينهما سبعة حُجُبٍ، فما زال ينشد، وهو يرفع الحُجُب واحداً واحداً، إلى أن لم يبق بينهما حجابٌ، ثم أدناه وقرَّبه .ومنهم حسان بن ثابت لم يكن له ماتَّةٌ، ولا سابقة في الجاهلية، ولا الإسلام إلا شعره، فبلغ رضي الله عنه به رضى الله، ورضى رسوله. ولّما قال:

    هجوت محمداً ، فأجبت عنه ........ وعند الله في ذاك الجزاء

    قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: جزاؤك عند الله الجنة. فلمَّا قال:

    فإنَّ أبي ووالده وعرضي ........ لعرض محمَّد منكم وقاء

    قال له: وقاك الله حرَّ النار .ومنهم مسلم بن الوليد، اتَّصل بذي الرياستين، وقلَّده الفضل بن سهل أعمالاً بجرجان، فاكتسب فيها ألف ألف درهمٍ، ثم لزم منزله، وكان كريماً، فأتلف جميع ذلك، ثم سار إلى الفضل مستجدياً، فقال له: ألم أُغنك ؟فقال: ما غنائي في ألف ألف درهمٍ ولا هي قدرك، ولا قدري!! فقال له الفضل: إن بيوت الأموال، لا تقوم بك، ثم قلده الضياع بأصبهان، وضمَّ إليه رجلاً يرفع إليه من مرافقها بقدر ما يُنفق، ويبتاع له بالباقي ضياعاً، فابتيع له ضياع بألف ألف. فلما قُتل الفضل، لزم منزله، ولم يمدح أحداً حتَّى مات .وأمَّا من رفعه ما قيل فيه من الشعر، فكثيراً أيضاً، منهم المحلَّقُ، لمَّا تسامع الناس بقدوم الأعشى إلى مكة، قالت له امرأته أو أمه: هذا رجل مفوَّه مجدود الشعر، ما مدح أحداً إلا رفعه، ولا هجا أحداً إلا وضعه، وأنت رجلٌ فقير خامل الذكر ذو بنات، وعندنا لقحة نعيش بها، فلو سبقت الناس إليه، فدعوته، ونحرت له .فسبق إليه المُحلَّق فأنزله، ونحر له، وأخرجت المرأة خمراً، ونحياً فيه سمن، وجاءت بوطب لبن، فلما أكل الأعشى وأصحابه، وكان في عصابةٍ من قيس، قدّم إليه شراباً، واشتوى له من كبد الناقة، وأطعمه من أطايبها، فلما جرى فيه الشراب، سأله عن حاله وعياله، فعرف رقَّة الحال في كلامه، وذكر البنات، فقال الأعشى: كُفيتَ أمرهُنَّ، وأصبح بعكاظ، يُنشد:

    أرِقتُ ، وما هذا السّهاد المؤرِّق ........ وما بي من سُقمٍ ، وما بي معشقُ .

    ووقف المحلِّق يستمع، ولا يدري ما يريد، إلى أن قال:

    نفى الذمَّ عن آل المُحلَّق جفنة ........ كجابية السّيح العراقي تفهق

    ترى القوم فيها شارعين ، وبينهم ........ مع القوم ، ولدان من النسل دردق

    لعمري قد لاحت عيونٌ كثيرةٌ ........ إلى ضوء نارٍ باليفاع تُحرَّقُ

    تشبُّ لمقرورين يصطليانها ........ وبات على النار الندى والمُحلَّق

    رضيعي لبانٍ ثدي أُمٍّ تحالفا ........ بأسحم داجٍ عوض ، لا نتفرَّق

    ترى الجود يجري ظاهراً فوق وجهه ........ كما زان متن الهندوانيِّ رونق

    فما أتمَّها إلا والناس يهرعون إلى تهنئته، والأشراف يتسابقون إلى خطبة بناته، فلم تُمسِ منهنَّ واحدة إلا في عصمة رجل أفضل من أبيها .ومنهم بنو أنف الناقة، كانوا يكرهون هذا الاسم، ويتحامونه إلى أن ضاف أحدهم الحطيئة، وأحسن إليه، فقال:

    سيري أُمامُ ؛ فإن الأكثرين حصى ........ والأكرمين إذا ما يُنسبون أبا

    قومٌ هم الأنف ، والأذناب غيرُهُمُ ........ ومن يُسَوِّي بأنف الناقة الذَنَبا

    فصاروا يتظاهرون به، ويفتخرون بانتسابهم إليه .ومن منافع الشعر أنه يُستعطف به الكريم ويُستنزل به اللئيم، وكان المنصور قد وجد على بعض الكُتّاب، فأمر بضربه، فقال:

    ونحن الكاتبون ، وقد أسأنا ........ فهبنا للكرام الكاتبينا

    فخلَّى سبيله استحساناً لبديهته .ولما سمع المأمون قول عمارة بن عقيلٍ:

    أأترك إن قلَّت دراهم خالد ........ زيارته ؟ إني إذاً لذميم

    فقال: أوّقُلت دراهم خالدٍ ؟احملوا إليه مئتي ألف درهمٍ. فدعا خالدٌ بعمارة، فقال هذا مطر من سحابك، ودفع إليه عشرين ألفاً، فانتفع، ونفع .وقال ابن شهاب: دعاني يزيد بن عبد الملك، فأتيته فزعاً، وهو على سطح، فقال: لا بأس عليك، فغنَّت جاريته حبابة:

    إذا رُمتُ عنها سلوةً ، قال شافع ........ من الحب : ميعاد السّلوِّ المقابر

    ستبقى لها في مُضمر والحشا ........ سريرة حُبٍّ يوم تُبلى السّرائر

    فقال: لمن هذا الشعر قلت للأحوص. قال: ما صنع الله به ؟قلت: هو محبوس بدهلكٍ، فكتب من ساعته بإطلاقه، وأمر له بأربع مئة دينار، ووفد إليه فأحسن جائزته .ولقد كان الشاعر عندهم أرفع من الخطيب لحاجتهم إليه في تخليد المآثر، وحماية العشيرة، ولقد كانوا يأنفون من المكسب به إلا فيما لا يزري بقدر، ولا مروءة .كان لبيد، قد بعث إليه الوليد بن عقبة مئة من الإبل ينحرها كعادته عند هبوب الصَّبا، وكان لبيد قد أسنَّ، فقال لابنته: اشكريه، فقالت:

    إذا هبَّت رياح أبي عقيل ........ دعونا عند هبَّتها الوليدا

    أغرَّ الوجه ، أبيض ، غبشميِّاً ........ أعان على مروءته لبيدا

    بأمثال الهضاب ، كأنّ ركباً ........ عليها من بني حامٍ قُعودا

    أبا وهب ، جزاك الله خيراً ........ نحرناها ، وأطعمنا الثريدا

    فعُد إن الكريم له معادٌ ........ وظنِّي يا بن أروى أن تعودا

    وعرضتها عليه، فقال: لقد أجدت، لولا أنك استعدت .وكان ابن ميادة، قد مدح المنصور بكلمة قال فيها:

    فوجدت حين لقيت أيمن طائر ........ ووليت حين وليت بالإصلاح

    وعفوت عن كسر الجناح ، ولم تكن ........ لتطير ناهضةٌ بغير جناح

    قومٌ إذا جُلب الثناء ، إليهم ، ........ بيع الثناء هناك بالأرباح

    فأتاه راعي إبله، فشرب، ثم مسح على بطنه، وقد عزم على الرحلة، فقال: سبحان الله!! أأفد على أمير المؤمنين، وهذه الشربة تكفيني ؟ثم صرف وجهه عن قصده .ورُوي عن جميل بن معمرٍ أنه ما مدح أحداً قطُّ إلا قراباته، ولما سافر مع الوليد ابن عبد الملك، أمره أن يرجز به، فأنشد:

    أنا جميلٌ في السّنام من معدّ

    في الذروة العلياء ، والركن الأشدّ

    فقال له الوليد: اركبْ لا حُمِلْتَ !وكان بعضهم يمدح الملوك، ويأنف أن يمدح من دونهم، قال:

    وإذا لم تجد من الذل بدّا ........ فالق بالذلِّ إن لقيت الكبارا

    وقال مروان بن أبي حفصة:

    ولقد حُبيت بألف ألفٍ ، لم تكن ........ إلا بكفِّ خليفة ووزير

    ما زلت آنف أن أألِّف مدحةً ........ إلا لصاحب منبرٍ وسرير

    ما ضرَّني حسد اللئام ، وإنما ........ ذو الفضل يحسده ذوو التقصير

    ^

    الباب الثاني في

    معايب الشعر ومضاره

    اعلم أن الشعر وإن كانت فضائله كثيرة، ومنافعه معروفة مشهورة ؛فإن غوائله مخوفةٌ، ومناهله بالشرِّ محفوفة، وذلك أن رديئه عورة فاضحة، إن لم تستر، ومتوسطه فضيلة واضحة، لا تشكر، والجيد منه، لا يُنال إلا باستغراق الأوقات فيه وإهمال المهمَّات من أجله .ومع ذلك ؛فإن قائله، إن رضي كذب، وإن غضب ثلب، وإن تحرَّى الصَّدق، لان وفتر، وإن تعالى فجر وكفر، ولذلك قال الله تعالى فيهم: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} ثم استثنى منهم المؤمنين ؛لأنهم ناضلوا عن الإسلام، وانتصروا للنبي عليه السّلام، فمن أمده الله بطبع يغني به عن التكلُّف، ومادّة غزيرة يقوى بها على التصرف، ودين يبعثه على التوقي والتوقف، فذلك الذي يُقضى بفضائله، ويسلم من شره وغوائله .وأما من أهمل شأنه، وأطلق به لسانه، فبعيد أن يسلم منه، وقد كان بعضهم يتغالب لغير الكفء، وبعضهم يأنف من الهجو ويأباه، وبعضهم لا يُحسِنُه وإن كان مجيداً في سواه. قيل للعجاج .مالك لا تهجو ؟فقال: إن لنا أحساباً تمنعنا من أن نُظلَمَ، وأحلاماً تمنعنا من أن نَظلِم، وهل رأيتم بانياً لا يُحسن أن يهدم ؟قال ابن قتيبة: والهجاء أيضاً بناء، وليس كل بانٍ لشيء يُحسنُ أن يبني غيره. ولقد صدق ابن قتيبة، بل قد يتعذَّر عليه الذي يحسنه، فقد قيل: الشعر كالبحر أهون ما يكون على الجاهل أهول ما يكون على العالم، وقال :

    وقد يقرض الشعر البكيء لسانه ........ وتُعيي القوافي المرء ، وهو لبيب

    وقال الحطيئة:

    الشعر صعب وطويلٌ سُلَّمه ........ إذا ارتقى فيه الذي لا يَعلمُه

    زلَّت به إلى الحضيض قدمه ........ يريد أن يُعربه ، فيُعجِمُه

    وقال الجاحظ: من صنع شعراً، أو وضع كتاباً، فقد استهدف ؛فإن أحسن، فقد استعطف، وإن أساء، فقد استقذف .وقال حسان:

    وإن أصدق بيتٍ أنت قائله ........ بيتٌ يقال إذا أنشدته صدقا

    وإنما الشعر لُبُ المرء يعرضه ........ على المجالسّ إن كيسا ، وإن حُمُقا

    وقد قيل:

    يموت رديء الشعر من قبل أهله ........ وجيّده يبقى ، وإن مات قائله

    وممن هُجي، ولم ينتصر الأخوص وابن أخيه، قال فيهما سُحيم:

    عذرت البُزل إن هي خاطرتني ........ فما بالي وبال ابني لبون

    فلم يجيباه .وقد هجا بشار جريراً، فلم يُجبه، قال بشار: ولم أهجُهُ إلا ليُجبني، فأكون من طبقته. وهجا ابن الرومي البحتري، فأهدى إليه تخت متاع، وكيس دراهم، وكتب إليه، ليريه أن الهدية، ليست تقية:

    شاعرٌ لا أهابُه ........ نبحتني كِلابهُ

    إن من لا أُعِزُّه ........ لعزيزٌ جوابُهُ

    وقال ابن المُعذَّل في حبيبٍ:

    أنت بين اثنتين ، تبرز للنا _ س ، بكلتيهما بوجه مُذال

    لست تنفكُّ طالباً لوصال ........ من حبيبٍ أو راغباً في نوال

    أي ماءٍ لِحُرِّ وجهك يبقى ........ بين ذُلِّ الهوى وذُلِّ السّؤال ؟

    فصل

    وأما من ضره ما قال، أو قيل فيه، فكثيرٌ: منهم بنو نمير، كانوا من جمرات العرب، إذا سُئِلَ أحدهم: ممَّن الرجل ؟فخَّم لفظه، ومدَّ صوته، وقال: من نميرٍ إلى أن قال جرير:

    فغُضَّ الطرف ، إنك من نُمير ........ فلا كعباً بلغت ، ولا كلابا

    وكعبٌ وكلابٌ أخوا نمير. ومرَّت امرأة ببعض مجالسّ بني نمير، فأداموا النظر إليها، فقالت قبحكم الله، يا بني نمير! لا قول الله قبلتم: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ولا قول الشاعر:

    فغُضَّ الطرف ، إنك من نمير .

    وساير شريك بن عبد الله النميري يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاريَّ، فبرَّزت بغلة شريك، فقال له يزيد: غُضَّ من لجامها، فقال شريك: إنها مكتوبةٌ، أصلح الله الأمير! فضحك وقال: ما ذهبت حيث أردت! عرَّض يزيد بقول جرير:

    فغُضَّ الطرف . . . . .

    وعرَّض شريك بقول ابن دارة:

    لا تأمننَّ فزاريَّاً خلوت به ........ على قلوصك ، واكتبها بأسيار

    وكانوا يرمون بإتيان الإبلومنهم الربيع بن زياد، كان من ندماء النعمان، وكان بذيء اللسان، لا يسلم منه أحد يفد على النعمان، فرمي بلبيد، وهو غلام مراهق، فنافسه، وقد وُضع الطعام، وتقدّم الربيع ليأكل وحده مع النعمان على عادته، فقام لبيد فقال مُرتجلاً:

    يا رُبَّ هيجا هي خيرٌ من دعهْ

    إلى أن قال:

    مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معهْ

    فقال النعمان: لمه ؟فقال:

    إن أسته من برصٍ ملمَّعه

    فقال النعمان: وما علينا من ذلك ؟فقال:

    وإنه يولج فيها إصبعه

    يولجها حتَّى يواري أشجعه

    كأنّه يطلب شيئاً ضيَّعه

    فرفع النعمان يده عن الطعام، فقال: ما تقول يا ربيع ؟فقال: أبيت اللعن كذب الغلام! فقال لبيد: مُرهُ، فليُجَبِّه، فقال النعمان: جَبِّه يا ربيع! فقال: والله لما تسومني أنت من الخسف أشدُّ علي مما غضهني به الغلام. فحجبه بعد ذلك، وسقطت منزلته، وأراد الاعتذار، فقال النعمان:

    قد قيل ما قيل إن صدقا ، وإن كذبا ........ فما اعتذارك من قولٍ إذا قيلا ؟ ؟

    ومنهم بنو العجلان، كان عبد الله العجلان، نزل به وفد من طيِّء، فبعث إليهم بقراهم عبداً له، فقال: أعجل عليهم، ففعل، فأعتقه لعجلته، فسماه القوم العجلان، فكانوا يفخرون بهذا الاسم إلى أن هجاهم النجاشي، فضجّوا منه، واستعدوا عمر رضي الله عنه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، هجانا! فقال: وما قال ؟فأنشدوه:

    إذا الله عادى أهل لؤمٍ ودقَّة ........ فعادى بني العجلان ؛ رهط ابن مقبل

    فقال عمر: إنما دعا عليكم، ولعله لا يُجاب، قالوا: فإنه قد قال:

    قبيلةٌ لا يغدرون بذمَّة ........ ولا يظلمون الناس حبة خردل

    فقال عمر: ليت آل الخطاب كذلك! فقالوا: فقد قال:

    تعاف الكلاب الضاريات لحومهم ........ وتأكل من كعبٍ وعوفٍ ونهشلِ

    فقال: كفى ضياعاً من تأكل الكلاب لحمه! قالوا فقد قال:

    وما سمي العجلان إلا لقولهم ........ خذ القعب ، فاحلب أيها العبد واعجل

    فقال: كلنا عبدٌ، وخير القوم خادمهم. فقالوا: يا أمير المؤمنين، هجانا! فقال: ما أسمع ذلك! فقالوا: فسل حسان بن ثابت! فسأله، فقال: ما هجاهم، ولكنه سلح عليهم. فسجن النجاشيَّ، ودرأ عنه الحدَّ بالشبهة وقيل: إنه حدَّه .ومنهم الفرزدق، مرّ به رجل فيه لين، فقال: من أين أقبلت عمَّتنا ؟فقال: أنفاها الأغرُّ! فكأنّ الفرزدق صبَّ عليه الماء .أراد الرجل قول جرير في الفرزدق حين نفاه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:

    نفاك الأغرُّ ابن عبد العزيز ........ وحُقّك تُنفى عن المسجد

    فما كان أغناه عن هذا المزح. قال دعبل:

    لا تعرضنَّ بمزحٍ لامرئٍ طبن ........ ما راضه قلبه أجراه في الشفة

    فرب قافيةٍ بالمزح جاريةٍ ........ مشؤومة ؛ لم يُرد إنشادها نَمَتِ

    ومن ضرَّه شعره يزيد بن أم الحكم الثقفي، عهد له الحجاج على فارس، فأتاه يودِّعه، فقال له: أنشدني، وقد ظن أنه يمدحه، فأنشده:

    وأبي الذي سلب ابن كسرى راية ........ بيضاء تخفق كالعقاب الطائر

    فاستردَّ العهد منه، وقال لحاجبه: قل له: أورَّثك أبوك مثل هذا ؟فبلغه ذلك، فقال يزيد، قل للحجَّاج:

    ورِثت جدي مجده وفعاله ........ وورثت جدك أعنُزاً بالطائف

    واستنشد سليمان بن عبد الملك الفرزدق، فأنشده مفتخراً:

    وركب كأنّ الريح تطلب عندهم ........ لما تِرَةٌ من جذبها بالعصائب

    سروا يخبطون الريح ، وهي تلفُّهم ........ إلى شُعب الأكوار من كل جانب

    إذا آنسوا ناراً ، يقولون : ليتها ........ وقد خصرت أيديهم نار غالب .

    فتبيّن غضب سليمان، وكان نُصيبٌ حاضراً، فأنشده:

    أقول لركب قافلين لقيتهم ........ قفا ذات أوشالٍ ، ومولاك قاربُ

    قفوا خبروني عن سليمان إنني ، ........ لمعروفه من آل ودَّان طالبُ

    فعاجوا ، فأثنوا بالذي أنت أهله ........ ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب

    فقال: يا غلام، أعط نُصيباً خمس مئة دينار، وألحق الفرزدق بنار أبيه، فخرج الفرزدق مُغضباً، يقول:

    وخير الشعر أكرمه رجالاً ........ وشر الشعر ما قال العبيد

    ولما خرج محمد بن الحسن بالمدينة في أيَّام المنصور، قال سديفٌ:

    إنا لنأمل أن ترتدَّ ألفتنا ........ بعد التباعد والشحناء والإحن

    وتنقضي دولةٌ أحكام قادتها ........ فينا كأحكام قومٍ عابدي وثن

    فانهض ببيعتكم ، ننهض بطاعتنا ........ إن الخلافة فيكم ، يا بني الحسن

    فكتب المنصور إلى عبد الصَّمد بن علي بأن يدفنه حياً، ففعل .ولما رأى المتنبي الغلبة، قال له غلامه: لا يتحدث الناس بالفرار، وأنت القائل:

    فالخيل والليل والبيداء تعرفني ........ والطعن والضرب والقرطاس والقلم

    فكرَّ راجعاً، فقُتل .^

    الباب الثالث في

    طبقات الشعراء ومراتبهم وتنقل الشعر فيهم

    والتنبيه على مشهور قصائدهم

    كان الشعر في الجاهلية في ربيعة، منهم مهلهل، وهو أوَّل من قصّد القصائد وهلهل الشعر ؛أي: أرَقَّه، قال الفرزدق:

    ومهلهل الشعراء ذاك الأوَّلُ

    ومنهم المرقشان، والأكبر منها عم الأصغر، ومنهم سعد بن مالك، وهو القائل:

    يا بؤس للحرب التي ........ وضعت أراهط ، فاستراحوا

    ومنهم طرفة، وعمرو بن قميئة، والحارث بن حلزة، والمتلمس خال طرفة، والأعشى، وخاله المسيب بن علس .ثم تحول الشعر في قيس، فمنهم النابغتان، وزهيرٌ، وابنه كعبٌ، ولبيد، والحطيئة، والشمَّاخ، وأخوه مُزرِّدٌ، وأخوهما جزءٌ، وخداش بن زهير، ثم استقر الشعر في تميم: فمنهم أوس بن حجر، شاعر مضر في الجاهلية، حتَّى نشأ النابغة وزهير، فأخملاه، وهو زوج أم زهير وزهير روايته .قال حسان: وأشعر الأحياء هذيل، قال الجمحي: وأشعرهم أبو ذؤيب، وقال أبو عمرو بن العلاء: أفصح الناس أهل السّروات الثلاث: هذيل، ثم بجيلة وثقيف، ثم أزد شنوءة. وقال أيضاً: أفصح الناس عُليَّاً تميم، وسفلى قيس .وقيل بُدئ الشعر بملك، وختم بملك ؛يعنون امرأ القيس وأبا فراس .وأشعر أهل المدر حسان. وقال لبيد: أشعر الناس الملك الضليل، ثم الشاب القتيل يعني طرفة ثم الشيخ أبو عقيل، يعني نفسه .وقدم الفرزدق بشر بن أبي خازم بقوله:

    ثوى في مُلحدٍ ، لا بد منه ........ كفى بالموت نأياً واغترابا

    وفضَّله جرير بقوله:

    رهين بلىً ، وكل فتىً سبيلي ........ فشُقِّي الجيب ، وانتحبي انتحابا

    وسأل ابن العباس الحطيئة عن أشعر الناس ؟فقال الذي يقول:

    ومن يجعل المعروف من دون عرضه ........ يفره ، ومن لا يتَّقي الشتم يُشتمُ

    على أن الذي يقول:

    ولست بمستبقٍ أخاً لا تَلُمُّهُ ........ على شعثٍ أيُّ الرجال المهذَّبُ

    ليس دونه، ولكن الضراعة أفسدته كما أفسدت جرولاً، والله لولا الجشع لكنت أشعر الماضين ؛وأما الباقون فلا شك أني أشعرهم. قال ابن عباس :كذلك أنت يا أبا مليكة .وقال مرة أخرى: أشعر الناس أبو دؤاد حيث يقول:

    لا أُعُدُّ الإقثار عُدماً ، ولكن ........ فقد من قد رزئته الإعدام

    وقال الفرزدق: أشعر الناس امرؤ القيس، وقال جرير: النابغة، وقال الأخطل: الأعشى، وقال ابن أحمر: زهير، وقال ذو الرمة: لبيد، وقال ابن مقبلٍ: طرفة، وقال الكميت: عمرو بن كلثوم .وقدَّم علماء البصرة امرأ القيس، وعلماء الكوفة الأعشى، وأهل الحجاز والبادية زهيراً والنابغة، وأهل العالية لا يعدلون بالنابغة أحداً، كما أن أهل الحجاز لا يعدلون بزهير أحداً .وقال ابن عباس: قال لي عمر رضي الله عنهما: لتنشدنَّي لأشعر شعرائكم، قلت: ومن هو يا أمير المؤمنين ؟قال: زهير، كان لا يُعاظل بين الكلام، ولا يتبع حوشيَّه، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه .قيل له: كيف قلت لهرمٍ:

    ولأنت أشجع من أسامة إذ ........ دعيت نزال ولُجَّ في الذعر

    وأنت لا تكذب في شعرك ؟فقال: إني رأيته فتح مدينةٍ وحده، وما رأيت أسداً فتحها قط .وقيل: أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب، وعنترة إذا كلب، وجرير إذا غضب .وقيل ليس في المولدين أشهر من الحسن، ثم حبيب والبحتري، أخملا في زمانهما خمس مئة شاعر مجيد، ثم ابن الرومي، وابن المعتز، ثم جاء المتنبي، فملأ الدنيا، وشغل الناس .وقالت عائشة رضي الله عنها: أشعر الناس من أنت في شعرهوقالوا: ما ترك الأول للآخر شيئاً، وقال عنترة:

    هل غادر الشعراء من متردمٍ

    ولقد صدق الذي يقول:

    ما ذاك إلا لأنهم حسدوا الح _ يَّ ورقُّوا على العظام الرميم

    وقال أبو تمَّام:

    يقول من تقرع أسماعه : ........ كم ترك الأول للآخر ؟

    وقال أيضاً فأجاد:

    ولو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت ........ حياضك منه في العصور الذواهب

    ولكنه صوب العقول إذا انجلت ........ سحائب منه أعقبت بسحائب

    فصل

    والذي يصح لامرئ القيس نيف وعشرون شعراً بين طويل وقطعة، ثم لا ترى شاعراً إلا يغرف من بحره لكثرة تصرُّفه ومعانيه .ومشهورات علقمة ثلاثٌ:

    ذهبت من الهجران في غير مذهب

    و:

    طحا بك قلبٌ في الحسان طروب

    و:

    هل ما علمت ، وما استودعت مكتوم

    ومشهورات عدي بن زيد أربع:

    أرواح مودِّعٌ أم بكور

    و:

    أتعرف رسم الدار من أُمِّ معبد ؟

    و:

    ليس شيءٌ على المنون بباق

    و:

    لم أر مثل الفتيان في غير ال _ أيَّام ، ينسون ما عواقبها

    ومن أصحاب الواحدة: طرفه، وعنترة، والحارث بن حلزة، وعمر بن كلثوم. ومشهورة عمرو بن معدي كرب.

    أمن ريحانة الداعي السّميع

    ومشهورة الأسعر بن حمران:

    هل بان قلبك من سُليمى ، فاشتفى ؟

    ومشهورة سويد بن أبي كاهل:

    بسطت رابعة الحبل لنا

    ومشهورة الأسود بن يعفر:

    نام الخليُّ ، فما أحسُّ رُقادي

    ^

    الباب الرابع في

    اختلاف أغراض الشعر ومذاهبهم

    بحسب اختلاف طبقاتهم وغرائزهم

    فمنهم من يؤثر جزالة اللفظ من غير تصنيع على مذهب العرب كقول بشار:

    إذا ما غضبنا غضبةً مضريةً ........ هتكنا حجاب الشمس أو مطرت دما

    إذا ما أعرنا سيداً من قبيلةٍ ........ ذرا منبرٍ صلَّى علينا وسلَّما

    وهذا النوع دالٌّ على القوة، وأشبه مواضعه الافتخار، ومدح الملوك. ومنهم من يؤثر التهويل والقعقعة بلا طائل معنىً كقول أبي القاسم ابن هانئ في أول مذهبته:

    أصاخت ، فقال : وقع أجرد شيظمٍ ........ وشامت ، فقالت : لمع أبيض مخذم

    وما ذُعرت إلا لجرس حُليِّها ........ ولا رمقت إلا بُرىً في مُخدَّم

    وأشبه مواضعه الوعيد والتهديد دون النسيب والتغزّل، وإنما يحسُنُ في التغزّل رقَّةُ الألفاظ وعذوبتها ؛لا سيَّما في حكاية أقوال النساء، غير أنه أراد التنبيه على ما أبدته من القلق والذعر والإشارة إلى ما كانت تلبسه من الحُليِّ، فأخبر عن شاهد الحال، لا عن لسان المقال ؛لأن هذا لا يشبه قول النساء، لا سيَّما في حال الذعر والفزع. ولا يُشَكُّ في جودة طبعه، وحسن صنعته، وليس له عيبٌ إلا تعاليه ؛فمن أجود المطبوع له قوله:

    لا يأكل السّرحان شلو عقيرهم ........ مما عليه من القنا المتكسِّر

    يريد المعقور منهم، ويروى: طعينهم، وقنيصهم ؛أي لا يُقتنص الواحد منهم حتَّى يتكاثر عليه من بأسه وشدَّته، ومن أحسن المصنوع قوله:

    وجنيتم ثمر الوقائع يانعاً ........ بالنصر من ورق الحديد الأخضر

    فلقد أحسن وأجاد، وأربى على البحتري، وزاد في قوله:

    حملت حمائله القديمة بقلةً ........ من عهد تُبَّع غضةً لم تذبل

    ومنهم من آثر سهولة اللفظ حتَّى وقع في اللين المفرط كأبي العتاهية، وعباس بن الأحنف، ونظرائهما .وروى أنه اجتمع يوماً أبو العتاهية والحسين الخليع والحسن، فقال أبو نواس: لينشد كل واحد منا قصيدة لنفسه لا مدح فيها ولا هجاء، فأنشد أبو العتاهية:

    يا إخوتي ، إن الهوى قاتلي ........ فيسِّروا الأكفان من عاجل

    ولا تلوموا في اتِّباع الهوى ........ فإنني في شغلٍ شاغل

    عيني على عتبة منهلَّةٌ ........ فدمعها المسكوب كالسّائل

    وقال فيها:

    يا من رأى قبلي قتيلاً بكى ........ من شدَّة الوجد على القاتل

    بسطت كفِّي ، نحوكم سائلاً ........ ماذا تردُّون على السّائل ؟

    إن لم تُنيلوه ، فقولوا له ........ قولاً جميلاً بدل النائل

    أو كنتم العام على عُسرةٍ ........ منه فمنُّوه إلى قابل

    فسلَّما له، وقالا: أمَّا مع سهولة هذه الألفاظ، وملاحة هذا المقصد، وحسن هذه الإشارات، فلا نُنشد شيئاً .وهذا في بابه من الغزل غاية لا يفضله شيء، وهو دالٌّ على قوة الطبع، وقلة التصنُّع والتكلُّف .وأحسن المطبوع ما كان جزل الألفاظ، مُحكم النضد، مُتَحَكِّمَ القافية بعيداً عن الكلفة، كقول أبي ذؤيب، يصف الحُمُر والصَّائد:

    فوردن ، والعَيُّوقُ مقعد رابئ الض _ رباء خلف النجم ، لا يتتلَّعُ

    فَشرِبن في حَجَراتِ عذبٍ باردٍ ........ حَصِبِ البطاح تغيب فيه الأكرُعُ

    فشربن ثم سمعن حِسَّاً دونه ........ شرفُ الحجاب وريبُ قرعٍ يُقْرَعُ

    فنكرته ، فنفرن ، فأمترست به ........ هوجاء هاديةٌ ، وهادٍ جُرشُعُ

    فرمى ، فأنفذ من نحوصٍ عائطٍ ........ سهماً ، فخرَّ ، وريشه مُتَصَمِّعُ

    فبدا له أقراب هذا رائغاً ........ عنه ، فعيَّث في الكنانة يُرجِع

    فرمى ، فألحق صاعديَّاً مطحراً ........ بالكشح ، فاشتملت عليه الأضلُعُ

    فأبدَّهُنَّ حُتُوفَهُنَّ ، فهاربٌ ........ بذمائه ، أو باركٌ مُتَجعجِعُ

    فلولا قوَّته وجودة طبعه، لما اتفق له، ولا اطّرد هذا الترتيب والنسق بالفاء كما ترى، قلت: وهذا إنما يحسُنُ عند من يفهمه، ولا يحتاج إلى تفسير، فقد قيل: أحسن الكلام ما لم يحتج إلى كلام .الرابئ: الحافظ للقداح من أن تبدل، يقعد خلف الضرباء واحدهم ضارب، وقيل: ضريب. والنجم: الثريا. يتتلع: يتقدم. وحجرات: نواحي .والشرف: ما ارتفع من الأرض. والحجاب: ما استتر به الصَّائد. وامترست به: خالطته، ودنت منه. وقيل: مارسته ؛أي: ساوته في العدد. والهوجاء: التي تركب رأسها. والهادية: المتقدمة. وجرشع: منتفخ الجنبين. ونحوص: حائل. وعائط: اعتاطت رحمها، فلم تحمل. متصمِّع: منضم من الدم. والأقراب: الخصور. وعيَّث: أجال يده في الكنانة يختار سهماً. صاعدياً: منسوب إلى صاعد. مطحر: بعيد الذهاب. أبدَّهُنَّ: قتلهن بدداً ؛أي كل واحد بسهم. مُتجعجع: مصروع لازق بالأرض.

    فصل

    وأما الارتجال فهو أسرع ؛لأنه انهمار وتدفق من غير توقف ؛كما روُي أن سليمان بن عبد الملك أمر الفرزدق بقتل أسير من الروم، فدسَّ إليه بعض بني عبس سيفاً كهاما، فنبا حين ضرب به، فضحك سليمان، فقال الفرزدق ارتجالاً:

    لئن كان سيفٌ خان ، أو قدرٌ أتى ........ لتأخير نفسٍ حينُها غير شاهد

    فسيف بني عبس ، وقد ضربوا به ........ نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد

    كذلك سيوف الهند تنبو ظُبَاتُها ........ ويقطعن أحياناً مناط القلائد

    ولو شئت قدَّ السّيف ما بين أنفه ........ إلى علقٍ دون الشراسيف جامد

    ثم جلس وهو يقول:

    ولا نقتل الأسرى ، ولكن نفُكُّها ........ إذا أثقل الأعناق حمل المغارم

    فاعتذر، وعيَّر بني عبس بُبُنِّو سيف ورقاء بن زهير عن رأس خالد بن جعفر .ولما أنشد عمر بن عامر السّعدي موسى الهادي شعراً مدحه به، يقول فيه:

    يا خير من عقدت كفاه حُجزته ........ وخير من قلَّدته أمرها مُضرُ

    فقال له موسى الهادي: إلا من يابائس ؟فقال واصلاً كلامه:

    إلا النبيَّ رسول الله ؛ إنَّ له ........ فخراً ، وأنت بذاك الفخر تفتخر

    فنظروا صحيفته، فلم يجدوه فيها، فضاعف صلته .واجتمع عدة من الشعراء فيهم أبو نواس، فشرب أحدهم ماء، ثم قال: أجيزوا:

    برد الماء وطابا

    فتلعثموا! حتَّى جاء أبو العتاهية، فأخبروه، فقال من غير توقف:

    حبَّذا الماء شرابا

    وسمع صوت الديك، فقال لرفيقه:

    هل رأيت الصَّبح لاحا ؟

    قال: نعم! فقال:

    إنما بكى على المغ _ ترِّ بالدنيا ، وناحا

    وأما البديهة، فتكون بعد تأيُّدٍ وتفكُّرٍ يسير كما روي أن الشعراء اجتمعوا لباب الرشيد، فأذن لهم، وقال: من يُجيز:

    الملك لله وحده ؟

    فقال الجمَّاز:

    للخليفة بعده

    وللمحبِّ إذا ما ........ حبيبه بات ، عنده .

    فقال الرشيد: أحسنت، وأتيت على ما في نفسي. وأمر له بعشرة آلاف درهم. ولما أنشد حبيب أحمد بن المعتصم بحضرة الكندي، فقال:

    إقدام عمرو ، في سماحة حاتمٍ ........ في حلم أحنف ، في ذكاء إياس

    قال

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1