Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

فيض الخاطر (الجزء العاشر)
فيض الخاطر (الجزء العاشر)
فيض الخاطر (الجزء العاشر)
Ebook532 pages4 hours

فيض الخاطر (الجزء العاشر)

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

هو من تأليف المفكّر العربيّ الإسلامي أحمد أمين، وهو مجموعة مقالات وخواطر كتبت في عشرة أجزاء، تمّ نشر بعضٍ منها في مجلّة الرّسالة، والبعض الآخر في مجلّة الهلال، جمعها وزاد عليها من إبداعه، فاستوت في مجموعة من الكتب، تتطرّق إلى مواضيع شتّى في الحياة، تناولت الدّين، الأدب، السّياسة، اللّغة، الفلسفة، والحياة الاجتماعيّة. ونجد الأدب قد حاز على اهتمام أوسعَ من المجالات الأخرى في هذا الجزء بالتّحديد، فقد كتب في التجديد في الأدب من ناحية اللّفظ، والعبارة، والموضوع، واللّغة، والشّعر كذلك. كما ربط بين الأدب والعلم، وتناول الأدب العربي منذ عصوره الأولى. أشار إلى ملوك الإسلام وعلاقتهم بالأدب عند العرب، ثمّ تحدّث عن تعاون العرب في وضع دائرة معارف عربيّة، واعتبر أنّ الأدب الحديث ديمقراطي إذا ما قورن مع الأزمنة السّابقة. تحدّث عن الإسلام كعامل في المدنيّة، وفي موضعٍ آخر قارن بين مسلمي حاضره مع من سبقوهم، وتناول قوانين الحرب في الإسلام. كما تعرّض الكتاب إلى مواضيع أخرى كثيرة.
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateJan 1, 2017
ISBN9786672633609
فيض الخاطر (الجزء العاشر)

Read more from أحمد أمين

Related to فيض الخاطر (الجزء العاشر)

Related ebooks

Reviews for فيض الخاطر (الجزء العاشر)

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    فيض الخاطر (الجزء العاشر) - أحمد أمين

    الفصل الأول

    التجديد في الأدب

    موضوع ثار فيه الجدل بين الكتَّاب، واحتدم فيه الخلاف بين الباحثين؛ هل أدبنا العربي يحتاج إلى تجديد؟ وهل سواءٌ في ذلك شعره ونثره؟ وتعصَّب قوم للقديم يذودون عنه ويحافظون عليه، ولا يسمحون بأي تغيير فيه، وهبَّ المحدثون ينعون على المحافظين جمودهم، وينذرونهم بسوء العاقبة إن هم ظلُّوا متمسِّكين بالقديم معرضين عن الجديد.

    ولكن أسوأ ما يسوءني في هذا الموضوع وأمثاله الغموضُ والإبهامُ؛ فإذا سألت المجدِّدين ماذا يريدون بالتجديد، وما ضروبه، وما مناحيه، وماذا يقترحون أن يُدخِلوه على الأدب العربي، جمجموا في القول، وأتوا بكلمات غير محدودة المعنى، ولا واضحة الدلالة، وقد يجوز إذا حدَّدوا أغراضهم وأبانوا عن مقاصدهم، أن يوافقهم المحافظون أو أكثرهم، ولا يكون ثمَّت خلاف، وإن يكن فخلافٌ معروفٌ تُقام عليه حُجج واضحة.

    من أجل هذا كله، أحاول أن أعرض لوجوه التجديد التي يخيَّل إليَّ أنهم يريدونها، وأدلي برأيي فيها، وأدعو الكتَّاب أن يساهموا فيها بآرائهم، ويستدركوا ما يفوتني من حججهم وأغراضهم.

    في أدب كل لغة عناصر ثابتة، لا يعتريها تغيُّر ولا ينالها تجدُّد، هي قدرٌ مشترك من الأسلوب والتراكيب وتأليف الجمل، به تمتاز اللغة من سائر لغات العالم، وينفرد أدب الأمة عن آداب العالم، وقدرٌ مشترك من الفن، نتبيَّن به الجيِّد من الأدب في كل عصر وكل جيل، هو فوق البيئة وفوق العوامل السياسية والاجتماعية، وفوق ما يطرأ عليها من كل تغيير.

    وهذا وذاك هما اللذان يجعلاننا نتذوَّق الأدب الجاهلي، وندرك ما فيه من جمال، ونشعر بما فيه من نقصٍ، ويستطيع الأديب منَّا أن يعرف خيرَ ما قال امرؤ القيس، وما قال طرفة، وما قال زهير، وهو الذي يجعلنا نتذوَّق ما في القرآن الكريم من جمالٍ في الأسلوب والمعنى، وندرك ما في العصر العباسي إلى عصرنا هذا من نثر وشعر، ونَزِنُه ونقوِّمه، ونحكم على بعضه بالحسن والجمال والقوة، وعلى بعضه بالضعف والقبح والغموض، ولولا هذا القدر المشترك لانقطعت الصلة بيننا وبين القديم؛ فلا نحسُّ له جمالًا، ولا نتذوَّق له طعمًا.

    وهذا النوع من العناصر لا يقبل تجديدًا ولا تغييرًا؛ إذ بتغييره تضيع اللغة وتفقد مشخِّصاتها؛ فلو قلبنا تركيب الجمل رأسًا على عقب، أو لم نراعِ الوضع الذي تسير على نهجه اللغة، لكان لنا من ذلك لغة جديدة، ليس بينها وبين الأولى نسب.

    وهناك نوع آخر من العناصر في اللغة والأدب، خاضع للتغيُّر، قابل للتشكُّل، يتأثَّر بالبيئة وبدرجة الحضارة، وبالأساليب السياسية، وبالحياة الاجتماعية، وغير ذلك.

    وفي هذا النوع يكون التغيير والتجديد، ومن أجل هذا التغيير كانت الفروق واضحة بين الشعر العباسي والشعر الجاهلي في التعبير والتشبيه والأسلوب والموضوع ونحو ذلك، ومن أجل هذا أمكن الأديب إذا عُرِض عليه نوعٌ من الأدب، أن يعرف عصره ولو لم يعرف قائله؛ لأنه يستطيع أن يتبيَّن خصائص كل عصر ومميزاته، ويطبِّق ذلك على ما يعرض عليه من شعر أو نثر.

    ومن أجل هذا أيضًا ترى الفرق واضحًا بين لغة الأدباء الآن وبين لغتهم منذ عشرين عامًا، وتجد الفرق واضحًا بين لغة الجرائد المصرية اليوم وبين لغة الجرائد السورية والعراقية، وإن كانت كلها تصدر باللغة العربية، وتشترك في العناصر الأساسية.

    وهذا التغيير أو التجديد في الأدب وتأثُّره بما حوله خضع له الأدب العربي وكل أدب على الرغم من المحافظين والجامدين؛ فقد رأينا في العصر العباسي مدرسة — وعلى رأسها الأصمعي — لا تحب إلا الشعر الجاهلي، ولا تحب من المحدثين إلا من قلَّد القدماء، ورأينا من كان ينشد الشعر فيستحسنه، فإذا قيل له إنه محدث استهجنه واتهم ذوقه، ولكن هذه المدرسة أخضعها الزمن لحكمه، ونشأ أدب عباسي جديد احتفظ بالعناصر الأساسية للأدب العربي، ولم يأبه لما عداها، وكان الفرق كبيرًا بين الأدبين كما قال الجاحظ: كم من الفرق بين قول امرئ القيس:

    تقول وقد مال الغبيط بنا معًا

    وقول علي بن الجهم:

    فبتنا جميعًا لو تراق زجاجة

    من الماء فيما بيننا لم تَسَرَّبِ

    وجاء المتنبي وعلى أثره المعري، فجدَّدا في الشعر من ناحية الأسلوب ومن ناحية المعاني، فأنكر عليهما أدباء عصرهما نزعتهما الجديدة، حتى رأينا من بين العلماء من أبوا أن يعدوهما من الشعراء، ثم حكم الزمن على هؤلاء العلماء ووضع المتنبي والمعري في مكانهما اللائق بهما.

    وكان هذا هو الشأن في كل عصر، حتى عصرنا الحديث، نشأ قوم تأثَّروا بالأدب العربي القديم وحذوا حذوه، ولم يخرجوا قيد شعرة عنه؛ فلو ركبوا الطائرة قالوا ركبنا الهودج والبعير، وإذا استهلكت البنزين قالوا رَعَتِ السعدان١، وسموا الجنيهات الإنجليزية وعملة الورق دراهم ودنانير، وإذا لم يكن لهم من الأمر شيء قالوا لا ناقة لنا ولا جمل، وهم في الحقيقة لا ناقة لهم ولا جمل، إلى كثير من أمثال ذلك.

    وتأدب قوم بالأدب الغربي إلى ثقافتهم العربية، فثاروا على كل ذلك، واختلفوا بينهم في مقدار هذه الثورة؛ فقوم يريدون أن يتحرَّروا من الأوزان والتزام القوافي، وآخرون يريدون أن يتحرَّروا من التشبيهات البالية والمجاز العتيق، وآخرون يعافون بعض الأساليب القديمة والموضوعات التي جرى عليها السابقون، وكان صراع بين الطائفتين نعرض له بعد.

    على كل حال، دلَّتنا أحداث الزمان على أن عوامل البيئة في التغيير والتجديد لا يمكن أن تُقاوَم، كما دلَّتنا على أن ليس كل تجديد يصادفه التوفيق ويتسع له صدر الزمن، وأن نجاح من نجح من دعاة التجديد، وفشل من فشل منهم، إنما كان خاضعًا لقوانين طبيعة ظاهرة حينًا وخافية أحيانًا، وأن نوع التجديد إن كان صالحًا، وكان مما تسمح به القوانين الطبيعية للأدب، فمعارضة المعارضين لا يكون لها من أثر إلا أن تؤخر زمن الإصلاح، وهو واقع لا محالة يومًا ما، وإذا لم تسمح بها هذه القوانين كانت دعوة التجديد صيحة في فضاء أو خطًّا في ماء.

    وبعدُ، فأي أنواع التجديد يتطلبه المجددون؟ وهل من خير الأدب العربي قبوله أو رفضه؟

    ١ السعدان: نبت من أفضل مراعي الإبل، وفي المثل: (مرعى ولا كالسعدان).

    الفصل الثاني

    التجديد في الأدب (اللفظ)

    إن أول أنواع التجديد وأبسطها تجديدُ الألفاظ؛ لأنها مادة الأديب الأوَّلية، وخيوطه التي ينسج منها قطعته الفنية.

    وتجديد الألفاظ على ضربين:

    (١)

    اختيار الألفاظ التي تناسب العصر ويرضاها ذوق الجيل الحاضر؛ لأن لكل أمة في كل عصر ذوقًا خاصًّا بها، تختار ألفاظًا تناسبها وتأنس بها، وتمجُّ ألفاظًا لا تستحسنها ولا تستسيغها، وذوق الأمة في حياة مستمرة، فهو كذلك في عمل مستمر إزاء الألفاظ، وأدباء كل عصر لهم معجم يخالف معاجم اللغة القديمة؛ فلو أن أديبًا استعمل اليوم كلمة «هَبَيَّخ» للجارية الحسناء لكَفَتْ في إسقاط قصيدته أو مقالته، ولو استعمل كلمة «بُعاق» للمطر أو السيل لدلَّ على فساد ذوقه وسوء أدبه، ومن أجل ذلك، لا يُستحسن في هذا العصر بعض ما كان يُستحسن في عصور سابقة؛ فقد كان يُستحسن من أبي الطيب قوله:

    وترى الفضيلة لا ترد فضيلة

    الشمس تشرق والسحاب كَنَهْوَرا

    ولكن (كَنَهْوَرا) الآن ثقيلة في اللفظ، كريهة على السمع، وهذا بديهي لا يحتاج إلى إطالة، وكلُّ مَن جهل هذه الحقيقة لا يفلح أن يكون أديبًا.

    لقد أراد الأستاذان الشنقيطي وحمزة فتح الله أن يُحْيِيَا غريب الألفاظ، ويستعملاه في قولهم وكتابتهم، ففشلا كل الفشل، وكان الناس يستظرفون ذلك منهما كما نستظرف فتاة حضرية لبست ثيابَ بدويةٍ، وفهموا أن ذلك ليس جدًّا من القول، وليس طبيعيًا أن تعيش بداوة القرن السابع في حضارة القرن العشرين، إنما يحيا الأديب يومَ يُوفَّق لاختيار الألفاظ الرشيقة التي تناسب ذوق عصره، والعصر الآن أميل إلى السرعة والاقتصاد، وكلاهما يتطلب الوضوح والجلاء، لا الغموض والغرابة.

    لذلك أصبحت في معاجم لغتنا ألفاظ كثيرة ليس لها قيمة إلا أنها أثرية، تُحفَظ فيها كما تُحفَظ التحف في دار الآثار.

    (٢)

    ألفاظ تُخلَق خلقًا، تلك الألفاظ التي تساير المدنية الحديثة بكل ما اخترعت من أدوات وصناعات، وما ابتكرت من فن وعلم ومعاني وآراء، واللغة العربية اليوم قاصرة كل القصور في هذا الباب؛ فليس لدينا ألفاظ لكثير مما اختُرع وابتُكر، وهذه مشكلة المشاكل اليوم وقبل اليوم، تَجادَل العالم العربي فيها طويلًا ولمَّا يستقر على حال.

    وكان لقصور الألفاظ أثر كبير في ضعف الأدب؛ فكيف يستطيع الأديب أن يصف حُجرة وكل ما فيها من أثاث ليس له ألفاظ تدل عليه؟ وكيف يستطيع الكاتب أن يؤلِّف رواية، وهو في كل خطوة يعثر بمسميات لا أسماء لها؟ ولذلك يهرب كثير من الأدباء من التعبير الخاص إلى التعبير العام؛ فإذا أراد أن يصف رجلًا يلبس طربوشًا قال إنه يلبس عمامة أو قلنسوة، والحقيقة أنه لا يلبس عمامة ولا قلنسوة، وإنما يلبس طربوشًا، وإذا أراد أن يقول إنه يضرب على البيانو قال إنه عزف على آلة موسيقية، وهذا منتهى الفقر في التعبير.

    كل هذا حَقَنَ الأفكار في أدمغة الأدباء، وسبَّب ضعف الوصف والرواية وغيرها في الأدب العربي الحديث، وجعل الأدباء يفرِّون إلى الموضوعات الإنسانية العامة والأفكار الميتافيزيقية، فإن نحن شئنا أن يكون الأدب ظلًّا لحياتنا، وحياتنا الآن، وَجَبَ أن نحلَّ مشكلة الألفاظ حتى يُطلَق الأدباء من أغلالهم، وإلا ظلُّوا يدورون حول أنفسهم، وظل أدبهم غذاءً ناقصًا للأمة، ليس فيه كل العناصر التي لا بدَّ منها للحياة.

    الفصل الثالث

    التجديد في الأدب (العبارة)

    عرضتُ فيما سبق للبحث في الألفاظ وما تتطلب من جدة، واليوم أعرض لضرب آخر من ضروب التجديد، وهو التجديد في العبارة، وأعني بالعبارة الجملة التي يُؤدَّى بها المعنى على اختلاف ألوانها؛ من حقيقة ومجاز وتشبيه واستعارة وكناية.

    ومما لا شك فيه أن البليغ يستمد تشبيهاته واستعاراته، وما إلى ذلك، مما يحيط به من بيئة طبيعية واجتماعية؛ فالأدب الجاهلي — مثلًا — صورة صادقة لمعيشة العربي في الجاهلية؛ إذا بكى فإنما يبكي الأطلال والمنزل الداثر والرسم العافي، وإذا رحل، فعلى ناقة أو بعير، وإذا أعجبه نبت، فالشيح والقيصوم، والخزامى والعرار، وإذا ذكر النسيم، فصبا نجد، وإذا حنَّ إلى مكان، فموطنه من الرقمتين ورضوى وثبير.

    كذلك كان في تشبيهاته واستعاراته وأمثاله، يستوحي ما يحيط به، ويستلهم ما يقع حسُّه عليه؛ فقال: استنوق الجمل، وهو أعزُّ من الأبلق العقوق، وأبدت الرغوة عن الصريح، وهم أكثر من الحصى، وهو ليثُ غابةٍ، وما تُحَلُّ حَبْوتَه، وألقى حبله على غاربه، وقصرت الأعنة، واشتجرت الأسنة، وزلزلت الأقدام من رنين القِسِي وقراع الرماح، وطحنهم طحن الرحى، ومطله مطل نعاس الكلب، وكالباحث عن حتفه بظلفه وحط راحلته، وضرب أوتاده، وألقى عصاه، والقافلة تسير والكلاب تنبح، إلى كثير من أمثال ذلك؛ فهم في كل هذا يصفون حياتهم ويشتقُّون منها تشبيهاتهم، ويضربون منها أمثالهم.

    وتتابع أدباء العرب بعدُ، يزيديون في التعبير تبعًا لتغيُّر المعيشة الاجتماعية، وتقدُّمهم في الحضارة، فقالوا: صندل الشراب وعنبره — وكأن أخلاقه سُبِكت من الذهب المصفَّى — ويكاد يسيل الظُّرف من أعطافه — ويمازج الأرواح لرقته — قد دسَّ له الغدر في الملق — وهو من صيارفة الكلام يتطفَّل على موائد الكتَّاب — وكأن ألفاظه قطع الرياض، وكأن معانيه نسيم الآصال، وهكذا كانت العبارات المحدثة في العصر العباسي تخالف من وجوه كثيرة العبارات الجاهلية والأموية.

    وقد جارى المؤلِّفون الأدباء، يدونون ما اخترعوا، ويقيِّدون ما أبدعوا؛ فرأينا عبد الرحمن الهمذاني يجمع في كتابه (الألفاظ الكتابية) العبارات المختارة من جاهلية وإسلامية، ورأينا الحصري يملأ كتابه (زهر الآداب) بفصول يُعَنوِنها «ألفاظ لأهل العصر»، يجمع تحتها ما اخترعه أهل عصره من تعبير رقيق وتشبيه أنيق، ونَهَجَ المؤلِّفون بعد هذا المسلك، حتى كان خاتمتهم إبراهيم اليازجي في كتابه «نجعة الرائد وشرعة الوارد»، جمع فيه أحسن العبارات والألفاظ مما قال السابقون والمحدثون إلى عصره.

    وبعدُ، فلو قارنَّا بين الأدب العربي الحديث والأدب الغربي في هذا الباب — أعني باب العبارة — وجدنا في أدبنا العربي قصورًا ظاهرًا، وضعفًا بيِّنًا.

    ذلك أن الأدب الغربي ساير الزمن، واعترف بكل ما حدث فيه واستمد منه، على حين أن الأدب العربي الحديث أغمض عينه من كل ما كان، ولم يعترف بوجوده؛ نظر الأدب الغربي إلى ماضيه وحاضره ومستقبله، ولم ينظر الأدب العربي إلا إلى ماضيه؛ وزَّع الأدب الغربي لفتاته لينظر نظرة شاملة، وثبَّت الأدب العربي عينيه فيما وراءه، فلم ينظر إلا إلى قدميه، فكان ناقصًا لا يسايرنا، ولا يصفنا ولا يمس حياتنا، وإنما يمس حياة آبائنا.

    اعترف الأدب الغربي بالأدب القديم فأخذ منه خيره، واعترف بالدنيا الحديثة فاستمد تشبيهاته واستعاراته منها؛ رأى في دنياه مخترعات ومستكشفات لا حدَّ لها؛ من كهرباء ومواد كيميائية وطيارات وغواصات وغازات وأضواء وراديو، وما لا يُحصى كثرةً، كل هذه الأشياء قلبت الحياة الاجتماعية رأسًا على عقب، فلماذا لا تقلب الأدب! فأقبل الأديب عليها يتعرَّفها ويستلهمها تشبيهات واستعارات عصرية طريفة، فكان له منها ما أراد.

    ورأى الأديب علم النفس ينمو ويرقى، ويحلِّل أعمال الإنسان تحليلًا علميًّا دقيقًا، ويعرض لكل المظاهر اليومية من ابتسامة وعَبوس ورضى وغضب، فأخذ بحظٍّ وافر منه، واستعان به في أدبه وتعبيراته، حتى استطاع أحد الكتَّاب الفرنسيين؛ وهو مارسل بروست (Marcel Proust)، أن يحلِّل ابتسامة سيدة في ست صفحات.

    ورأى نُظُمًا في الحكم تقوم وأخرى تسقط، وكان لها من الأثر في حياة الناس وعقليتهم ما يخيِّل إليك معها أنهم أصبحوا بها خلقًا آخر، فجعل يتتبَّع هذه التغيُّرات ويقتبس منها ما شاء ذوقه الأدبي.

    كل هذا وأمثاله جعل الأدب الغربي يسير محاذيًا لكل نظم الحياة، ويشاركها في رقيِّها واتجاهها، وإن استضاء الناس بمصباح كهربائي فالأدب يعبِّر عنه ويستعير منه ويشبِّه به، وإن كان نظام الحكم ديموقراطيًّا فالأدب ديمقراطي، والصور التي يصورها ديمقراطية، ويتعمَّق السيكولوجي في بحثه، فيتعمق الروائي في تحليل شخصيات روايته.

    وهكذا كانت الاختراعات والصناعات والعلوم ونظم الحكم والسياسة والأدب تسير معًا، لا يخطو عنصر منها خطوة إلى الأمام حتى يدرك الآخر سرَّ تقدمه، فيعمل على أن يحتذيه، أما الأدب العربي، فيحارب متراليوزًا بقوس وسهم، ويضيء في أدبه سراجًا بزيت، والناس اليوم قادمون على أن يغيِّروا المصباح الكهربائي بخير منه، ويبكي الأطلال ولا أطلال، ويحنُّ إلى سَلْع ولا سَلْع، ويستطيب الخزامى والعرار ولا خزامى لدينا ولا عرار!

    من الحق أن نحبَّ القديم الجميل، ونحفظه ونتعلم منه، ونُعجب بما فيه من مظهر عاطفة حية وشعور قوي، ولكن لا ننشئه، وإذا قلناه وجب أن نقول معه ما نحياه ونعيش فيه.

    إذا أنت لم تحمِ القديم بحادثٍ

    من المجد لم ينفعك ما كان من قبل

    وقفتِ العبارة العربية حيث كانت في العصر العباسي، ولم تتقدَّم إلا قليلًا بما اقتُبس من الأدب الغربي، والذي تتطلَّبه من التجديد فيها أن نستمد من حياتنا الواقعية، ومن كل ما يحيط بنا، جملًا حيَّة تلائم ما في نفوسنا، وأن نخترع عبارات من المجازات والاستعارات والتشبيهات والكنايات، نستمدها من الحياة التي نعيشها، والمخترعات التي نستخدمها، وما وصلت إليه علوم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد.

    •••

    وقد عاق الأدب العربي الحديث عن الوصول إلى هذه الغاية عوائقُ كثيرة؛ أهمها:

    (١)

    ما سبقت الإشارة إليه من أن المخترعات ليس لها أسماء، وأن أئمة اللغة لم يرضوا أن يستعملوا الكلمات الأجنبية، ولا وضعوا لها أسماء عربية، وتركوا الأدباء في حيرة من أمرهم، فكيف يستطيعون أن يستلهموها في جملة لتكسب المعنى قوة، وهم يفرِّون من التلفُّظ بها، ويخشون من علماء اللغة استعمالها؛ لذلك رضينا من الأدب بالعدول عنها جملة وتفصيلًا، حقيقة ومجازًا، وبهذا سُدَّ أمام الأديب العربي بابٌ من أوسع الأبواب وأغزرها فائدة.

    (٢)

    وسبب آخر من أهم الأسباب في فقر الأدب العربي في التعبير، هو أن الأدب العربي الحديث أدب أرستقراطي لا أدب شعبي؛ وأعني أرستقراطية العلم لا أرستقراطية المال؛ ذلك أن الأدب الإنجليزي أو الفرنسي أو الألماني أدبُ شعبٍ لا أدب طبقة خاصة — نعم، قد يرقى الأدب الإنجليزي — مثلًا — فلا يفهمه إلا الراقون، ولكن بجانبه أدب إنجليزي شعبي لا يختلف عن أدب الخاصة من ألفاظه وتراكيبه وإن اختلف في دقة المعنى وبساطته — أما الأدب العربي فأدبٌ خاصٌّ لطائفة المتعلمين تعلمًا راقيًا فحسب، لا يشاركهم فيه العامة وأشباه العامة، وللعامة أدب بلدي خاص يستمتعون به في أغانيهم ونكتهم وزجلهم وموَّاليَّاتهم، وحتى الخاصة لا يتذوَّقون الأدب العربي إلا في الكتب والمجلات والجرائد، أما أحاديثهم وتنادرهم وفكاهاتهم فباللغة العامية، وليست أمة من الأمم الحية الآن بين لغتها اليومية ولغتها الأدبية من الفروق ما بين اللغة العربية واللغة العامية.

    نتج من هذه الظاهرة نقص كبير في الأدب العربي الحديث؛ لأن استعمال الألفاظ والعبارات في البيت وعلى المائدة وفي الشارع يُكسِبها حياة قوية، ويزيدها صقلًا ومرونة، ولو اقتصر في استعمالها على الكتب كانت حياتها ناقصة، لا يهذِّبها الاستعمال ولا يرقِّيها الصقل اليومي، وحسبُك دليلًا على ذلك أن النكت والنوادر، وهي من أهم أركان الأدب، لا تجد منها سائغًا عذبًا في أدبنا العربي عشر معشار ما تجده في الأدب العامي، وأن النادرة تُحكَى بالعامية فتُضحِك إلى أقصى حدٍّ، ثم تحكيها باللغة الفصحى فتخرج باردة تافهة، وأن كثيرًا من الألفاظ والتعبيرات العامية قد أفادها الاستعمال روحًا قوية، فإذا عبَّرتَ عنها بالعربية لم تجد لها من التعبير قوة العامية وحسن دلالتها على المعنى.

    وكل أمَّة قد كسبت من توحيد لغتها الكلامية والكتابية ما لا يُقدَّر؛ فقد أصبح الشعب كله منتجًا أدبًا وتعبيرًا قويًّا، وأصبح الحديث على المائدة وفي حجرة الجلوس وفي التمثيل والسينما يُخرج أدبًا جديدًا ويُحيي أدبًا قديمًا، والأمة كلها تتعاون في الإنتاج الأدبي؛ هذا بتعبيره الرقيق، وهذا بنكته ونوادره، وهذا بقصته وأمثاله، وهذا بشعره، وهكذا.

    وليس كذلك الحال في الأدب العربي؛ فالأمثال والنوادر والحكايات باللغة العامية، والأحاديث اليومية وقضاء كل شئون الحياة باللغة العامية، وليس للُّغة العربية إلا الكتاب وما إليه؛ ولذلك أصبح عندنا أدبان؛ أدب أرستقراطي، هو هذا الشعر والكتب التي تُؤلَّف، والمجلات والجرائد التي تُنشر، وأدب شعبي، هو الزجل والأغاني والحواديث وما إليها، وبين الأدبين فواصل كبيرة وحواجز متينة، وفي هذا ضرر كبير على الأمة والأدب معًا؛ أما الأمة، فلأن شعبها لا ينتفع بنتائج المتعلمين منها، وأما الأدب، فلأنه ليس أدبًا صحيحًا؛ إذ الأدب الصحيح هو ما كان ظلًّا لحياة الأمة الاجتماعية كلها، لا لحياة طبقة خاصة منها.

    ولا أمل لحياة الأدب العربي من هذه الناحية إلا بإزالة الحواجز القوية بين العامية والعربية، على أي وجه يرضاه قادة الأمة، ويحفظ للغة العربية مكانتها من حيث هي لغة الدين ورابطة الشعوب الشرقية؛ إذ ذاك تصبح اللغة حية، والتعبيرات حية، وإذ ذاك تزول الحيرة التي نعيش فيها الآن؛ فإنك تستعمل اللفظ العامي والعباراة العامية فلا تجد لهما نظيرًا في العربية، وإن وجدت لهما نظيرًا فنظير ميت ليس فيه حياتهما.

    كنت أقرأ الآن في جريدة، فوجدت فيها كلمة «بعبع»، وكنت أسمع، فسمعت من يقول: إنه بيت «مبهوأ»، ومن يقول: «رزق الهبل على المجانين»، ووجدتني إذا أجهدت نفسي قد أعثر على تعبيرات عربية مرادفة لها أو قريبة منها، ولكن ليس فيها حياتها؛ لأن الحياة وليدة الاستعمال، وأريد الاستعمال الشعبي، وهذا أحد الأسباب في أن مقالات الأستاذ فكري أباظة، والمجلات الهزلية، والهزلية الجدية، لها من الرواج في أوساط الجماهير ما ليس لغيرها، وتتفتَّح لها نفوس شعبية أكثر مما تتفتَّح للمقالات العربية الصرفة، وترنُّ الكلمة أو العبارة في الأذن رنينًا دونه رنين العربية الكلاسيكية.

    (٣)

    وسبب ثالث، هو أن الحواجز عندنا بين العلم والأدب قوية متينة، وإن شئت فقل إنه ليس هناك صلة بين كلية العلوم والآداب، وإن الثقافة التي يتثقَّفها الأديب ينقصها — غالبًا — قدرٌ ضروري صالح من المعلومات العلمية، تجعله يستطيع أن يلمَّ إلمامًا ما بالمخترعات والمستكشفات، ويستغلها في أدبه، وهذا القدر يلقفه الأديب الأوربي في بيته، وفيما يقع في يده من كتب ومجلات أولية، ثم في مدرسته، وأدباء الطبقة الأولى منهم كانوا على حظٍّ عظيم من الثقافة العلمية، استغلوها في منتجاتهم، فأصبحت هناك أنواع من الأدب ومن التعبيرات والتشبيهات القوية التي تعتمد على الثقافات العلمية، أخذها منهم الشعب واستساغها، أما برنامج الأديب العربي فقاصر من هذه الناحية كل القصور؛ ولذلك كان نتاجه قاصرًا كل القصور.

    الفصل الرابع

    التجديد في الأدب (الموضوع)

    ومن أوضح الظواهر أن الجمهرة العظمى من المتعلِّمين الذين درسوا أدبًا عربيًّا وأدبًا أجنبيًّا يعكفون على الأدب الأجنبي، يتذوَّقونه ويُكثِرون من مطالعته، في جدِّهم إن شاءوا الجد، وفي لهوهم إن شاءوا اللهو، وهم إن قرأوا في الأدب العربي ففي القليل النادر، وإن فعلوا لم يُطيلوا ولم يتعمَّقوا، وقلَّ أن يدرسوا كتابًا دراسة جيدة، إنما أكبر همهم أن يقلبوا صفحات الكتاب ليقع نظرهم على أبيات من الشعر يستملحونها، أو قصة طريفة يتفكَّهون بها، ومكتبتهم — على قلتها — تمثِّل ميلهم؛ فالكتب الإنجليزية أو الفرنسية فيها غالبة، والكتب العربية قليلة نادرة، ذلك — ولا شك — حال أغلب المثقَّفين ثقافة عصرية.

    ويذهب بعض الباحثين في تعليل هذه الظاهرة إلى أن السبب يرجع إلى فساد تعليم اللغة العربية وآدابها في المدارس؛ فإن أساتذتها لا يحبِّبون إلى الطلاب الأدب العربي، ولا يصلون به إلى نفوسهم، وإنما هي أمثلة محدودة تتكرَّر عامًا بعد عام، ونماذج من الشعر والنثر تُعرَض مرة بعد مرة، ولا غرض من دراستها إلا أن يذكرها الطلبة عند الامتحان فيؤدُّوها كما تُليَت عليهم، ثم تذهب بذهاب الامتحان؛ لأنهم قد تجرَّعوها على مضض، فهم يفرحون بنسيانها فرح المريض — وقد شفي — بالخلاص من دواء مرِّ المذاق.

    قد يكون هذا سببًا صحيحًا، ولكنه فيما أرى ليس بالسبب الجوهري؛ فإن بعض اللغات الأجنبية التي تدرس بيننا ليست دراستها بأحسن حالًا من دراسة اللغة العربية، ومع هذا فالطلبة يسيغون أدبها، ويتذوَّقون كتبها بما لا يظفر ببعضه الأدب العربي.

    أهم سبب عندي يرجع إلى موقف الأدبين؛ الأدب العربي والأدب الأوربي؛ ذلك أن كل أدب أوربي له قديم وحديث، والأدب الحديث هو الذي يناسب جمهور المتعلِّمين وعامة الشعب؛ لأنه في الغالب يعرض لما يشعرون به فيعبِّر عنه التعبير الفني؛ فالأديب المحدث يرى ظاهرة اجتماعية فيضعها في قصة، أو منظرًا جميلًا فيضعه في قصيدة، أو معنى أثارته في نفوس قومه أحداث سياسية أو اقتصادية فيضعه في مقالة أو كتاب، فيُقبِل الجمهور على قراءة ذلك ويعجبون به، وسبب الإعجاب أن الأديب شعر بما يشعر به الجمهور، واستطاع أن يعبِّر عنه التعبير الفني الذي لا يستطيعه الجمهور.

    أما الأدب الأوربي القديم، فإنما يناسب خاصة المتعلِّمين؛ لأنه يتطلَّب دراسة لغوية وأدبية عميقة، كما يتطلب — لتفوقه — أن يلمَّ المتعلِّم بشيء كثير من المسائل التاريخية والاجتماعية التي أحاطت بالأديب وبالقطعة الفنية؛ حتى يستطيع أن يفهمها فهمًا صحيحًا، وليس ذلك في مُكْنة السواد الأعظم من الناس؛ فالذين يفهمون الإلياذة والأوديسة وخطب ديمستين قليل بالنسبة إلى الذين يقرءون الأدب الحديث ويفهمونه، وكذلك الذين يفهمون الأدب الإنجليزي أو الفرنسي في القرون الوسطى ويتذوَّقونه هم الخاصة من الأدباء، وإن قرأ الجمهور شيئًا من الأدب القديم فإنما يقرأه مترجمًا إلى اللغة الحديثة، أو معروضًا في شكل جديد قد ذٌلِّلت فيه كل الصعوبات التي يحتمل أن يلقاها القارئ العادي، أما الأدب الإنجليزي أو الفرنسي الحديث، فيكاد يكون من حظِّ الإنجليز أو الفرنسيين جميعًا.

    وسبب ذلك أن الأدب هو نقد الحياة في أسلوب فني، وإذا كانت كل أمة تفهم حياتها الحاضرة فهمًا ما — وإن اختلفوا في مقدار الفهم — كان الأدب الحديث أقرب إلى فهمهم وأيسر متناولًا لجمهورهم،

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1