Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

في ذاكرتي مكان: In My Memory is a Place – Roots Fi Thakirati Makan – Al-Judhur
في ذاكرتي مكان: In My Memory is a Place – Roots Fi Thakirati Makan – Al-Judhur
في ذاكرتي مكان: In My Memory is a Place – Roots Fi Thakirati Makan – Al-Judhur
Ebook526 pages3 hours

في ذاكرتي مكان: In My Memory is a Place – Roots Fi Thakirati Makan – Al-Judhur

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook


In a masterful work of historical fiction, readers are given a glimpse of the lives of an imagined Qatari family, living in a northern village about one hundred and fifty years ago. 

On a Wednesday afternoon in the spring of 1896, Hessa bint Ghanem pleads at the feet of her husband, Mubarak bin Mishref, begging him not to take their seven-year-old son, Mishref, on the annual spring diving trip – a treacherous journey that has cut short the lives of many men. She has had a recurring nightmare about this very day, one that haunts and terrifies her. But her husband thinks nothing of the silly ramblings of his imaginative wife and insists on taking his son on the Khankiya trip. Will Hessa’s devastating premonitions about her beloved child come true? 
Languageالعربية
Release dateSep 20, 2021
ISBN9789927151927
في ذاكرتي مكان: In My Memory is a Place – Roots Fi Thakirati Makan – Al-Judhur

Related to في ذاكرتي مكان

Related ebooks

Related articles

Related categories

Reviews for في ذاكرتي مكان

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    في ذاكرتي مكان - Kuwari Shamma Shaheen Al

    الإهداء

    إلى أناس يعيشون في ذاكرتي، رغم أني لم أرهم!

    شمة

    لا يمكن أن تكون هناك حياة بدون ذاكرة. ذاك أنه يمكننا أن نخزن في أذهاننا قصصًا وحوادث كثيرة جرت في مرحلة ما قبل الذاكرة؛ لعلها لم تمر على أسماعنا من قبل، ومع ذلك تظهر بين حين وآخر في حياتنا كظلال. هي جزء من المكان والزمان، جزء مشكِّل للذاكرة، وليست الذاكرة كلها، فحتمًا في الأزمنة الغابرة، ثمة ظلال ملتصقة بنا، لذا تستذكرنا قبل أن نستذكرها.

    والحق، أن الشخوص والأمكنة التي تستذكرني -هنا- لم أتعرف عليها أو أعش تفاصليها، على الرغم من أني أندهش باستمرار لاكتشافي إلى أي مدى هي متوغلة في ذاكرتي، ففيها وجدتُ روايتي التي طالما بحثتُ عنها، إنها بحق الجذور.

    شمة بنت شاهين الكواري

    الفصل الأول

    قبل الذاكرة

    1

    نَظَر عيني

    لن ينسى مشرف ذاك اليوم الذي تجرأت فيه والدته حصة بنت غانم وعاودت فيه إعلان رأيها صراحة. فبحق كان يومًا فاصلًا في حياته. وقد حدث هذا أول ما حدث في أوائل عصر أربعاء من ربيع عام 1896. ففي ذاك اليوم، تشجعت حصة -رغم حالتها الصحية المنتكسة وكونها حبلى في شهرها التاسع- فتغلبت على خوفها وتحدثت إلى زوجها بما يجول في خاطرها من هواجس!

    من المحتمل، أن حصة قبل أن تجرؤ ويخرج الكلام من فيها، مرنته بإغلاقه وفتحه مرددة في سرها الجملة ذاتها، وهي في الوقت نفسه تتحسر على خروجها من دارها الطينية في مسقط رأسها؛ قرية الغارية الساحلية التي ولدت ونشأت فيها، وانتقالها إلى عذبة(1). وقد راودها هذا الشعور رغم معرفتها بحتمية عودة كل أفراد الفخيذة إلى الغارية خلال أسبوعين من يومها ذاك. ورغم يقينها من استحالة وجود أحد من أقاربها هناك في مثل هذه الأيام من كل سنة، فقد كان من طبيعة القبيلة التي تنتمي لها حصة النزوح خلال مواسم الشتاء، إلى عذبة ونصب خيام متراصة منذ بداية الموسم الشتوي وحتى آخره، ولأجل ذاك كان ولا يزال يراوح جل أفراد القبيلة شعور اعتيادي في عدِّ عذبة مقرًّا ثانيًا لهم، ورغم كل هذا وذاك، كانت هواتف حصة الداخلية لا تبارح ترفض الشعور بالحسرة؛ لأسباب تعرفها هي!

    في ذاك العصر البارد، من يوم الأربعاء ذاك، هيمن سكون غير مريح على الخيمة التي تضم حصة وزوجها مبارك وابنهما مشرف، خلا سعال مزعج كانت تطلقه حصة بتواصل، ولأن أحدًا لم يأخذه على محمل الجد، فقد تحول إلى رنة طبيعية في طبلة آذان قاطني الخيمة، علمًا بأنه لم يشتد ويتضاعف إلا في الأيام الأخيرة.

    وقد كان من الجلي، أن سعال حصة مزعج وموجع في الحين عينه. ولما كان الكلام، الذي سيخرج من فيها خلال ثوان من اللحظة الحالية، لا يزال يتصارع في ذهنها، والهواجس تتعارك في صدرها، فقد كان الاهتمام بشأن حالتها الصحية، آخر أولوياتها ولا ريب.

    تربعت حصة في الجانب الخارجي للخيمة، تتحرى غليان ماء في إبريق معدني ضخم، مركب بحرص فوق أربع حصيات ضخمة يشتعل وسطها اللهب. لاحظت حصة تبقبق الماء، وتصاعد البخار، فمدت كفها البيضاء الصغيرة في جيب سُفلي لدراعتها، وسحبت منه بخفة كيس قماش ألوانه قرمزية زاهية، ثم دعست كفها في وسطه، محدثة جلبة خفيفة، وقبضت في كفها على حفنة من عشبة زعتر جاف، وبرشاقة أخرجتها، ثم رمتها داخل الأبريق بتمرس، فصخب وثار الماء، وعلا أزيزه. رجعت حصة بظهرها للخلف، مثنية ظهرها على بطنها الكبيرة الممتدة أمامها، مزعجة كل عضلات بطنها وظهرها، ومخلوقًا راقدًا بداخلها. تنفست بغير ارتياح، وراقبت عيدان الزعتر الجاف تضج صاخبة وهي تصعق بحرارة المياه، فتلين الأوراق، وتطرى العيدان ويقفز الجميع للسطح، ويتحول السائل الشفاف إلى لون أصفر راق، فيما لا تستحي من التطاير داخل الخيمة رائحته النفاذة.

    وفي اللحظة التي نشرت فيها حصة ذراعيها بهدف الوصول إلى قبضة الإبريق لرفعه عن اللهب، داهمتها نوبة سعال حادة. حتى أنها حولت حصة الحبلى إلى تمثال شبه متصلب، مما منعها من حمل الإبريق. وسرعان ما تحول سعالها الموجع إلى نوبة مفزعة من كحات متلاحقة؛ أبت أن تتوقف إلا بعد أن تبعها لهاث استمر برهة قصيرة، فيما حسبت المسكينة أن أنفاسها ستنقطع، وأن السعال لن يكتفي بذلك بل سيودي بحياتها.

    أثناء ذلك، تقدم منها صغيرها مشرف. جلس القرفصاء قبالتها، وقد طأطأ رأسه، وهو يلقي عليها نظرات الشفقة والوجل، فلما شهد أمهُ تهتز إلى الإمام والخلف، ونوبة السعال تكاد تطيحها أرضًا، هرع وسحب قربة الماء ووضعها بين كفيها على عجل، وهو يردد بوجل: بسم الله عليج يمه، شربي الماي يمه، شربي الماي، ما تشوفين شر.

    على عجل رفعت حصة قربة الماء، قرَّبتها من فمها، شربت معظمه على دفعات متفاوتة، فيما سال بعضه على جانبي فمها، وبقيت المسكينة برهة من الزمن تتنفس بصعوبة، حتى استعادت تماسكها. وبعدما هدأ السعال، حدث ما لم يخطر على بال! فقد تجاهلت حصة مرورها بحالة التصلب من الأساس وكأنه ما كان!

    هكذا، بسهولة تناست أمره. وعاودت شحذ همتها، وترتيب الكلام الذي تمرنت عليه، والذي ستلقي به بعد لحظات في وجه زوجها. لذا، وفيما كانت تحمل الأبريق الساخن بكمَّي دراعتها، عاودت ترديد الكلام في سرها للمرة الأخيرة، ثم مضت تجلس قبالته، وهي توصي نفسها بالثبات والصبر.

    وفيما كانت تصب شراب الزعتر في كوبين شفافين قابعين في المسافة القصيرة الفاصلة بينها وبين زوجها الجالس على بعد خطوات منه، طأطأت رأسها، وتحركت شفاهها، فيما كفها اليمنى تقرب أحد الكوبين له.

    من المحتمل، أن الرجل الذي يدعى مبارك، وهو زوجها، لم يشعر بالوجل جراء نوبة السعال المخيفة التي تكررت مؤخرًا معها، ومذ قليل -على وجه الأخص- حيث حدثت أمامه. فهو لم يكلف نفسه مشقة فتح فمه بعدما شاهد بأم عينيه ما انتابها، ليقول لها: خطاكِ الشر. غير أنه في الحين عينه، ورغم قدرته غير العادية على الملاحظة، لم يغفل عن تأمل ألوان الكيس الزاهية الذي يحوي عشبة الزعتر الجاف، وهو يظن أن الكيس الزاهي -والذي في وسطه زخرفة زهرة صفراء متفتحة كالشمس، وألوانه حلوة متداخلة من قرمزي وحتى أحمر فاقع إلى زيتي باهت- هو في الحقيقة أكثر أهمية من سعال زوجته ومن حديثها المزعج الممل! ربما، لأن لهذا الكيس الذي يعرفه جيدًا، له ذكرى خاصة في نفسه، وتقبع خلفة قصة لا يمكنه أن ينساها، لكنه لا ينوي استذكارها. لا، ليس الآن، ولا حتى مستقبلًا! تمامًا، كما أنه لم يكن قبل لحظات آبهًا لحالة زوجته الصحية! ليس لأنه لا يرغب في استرجاع المواجع، بل لأنه لا يأبه وحسب.

    أما المسكينة حصة، فلم تكن تكترث لموقفه من صحتها، وحتى هي أيضًا لم تكن لتتخذ موقفًا لصالح صحتها، ربما لأنها تعتبر نفسها نكرة! وكل ما يشغلها هو حسم الأمر بشأن هواجسها الأخيرة. ولما أتمت شرب نصف كوب مغلي الزعتر دفعة واحدة، عاودت استجماع شجاعتها، وحشدتها في لسانها؛ ففتحت فمها وتوجهت بحديثها إلى زوجها وابن عمها مبارك بن مشرف، وقالت بنبرة انكسار، وبدون صوت عال:

    - لا أزال قلقة من الحلم، طلبتك يا بو مشرف لا تحرمني من ولدي، نَظَر عيني!

    حقيقة ما كان قد حدث في أيام قلائل مضت، أن حصة قد بكت، وضمت صغيرها، وتوسلت إلى زوجها كي يبقيه في حضنها، وألا يصحبه معه في رحلة الخانكية(2) المقبلة، مؤكدة أن حلمًا مزعجًا لا يزال يراودها، ويثير في نفسها الفزع. وما حدث بالأمس فقط لا يمكن أن ينسى، فقد انفجر زوجها صائحًا في وجهها؛ متوعدًا إياها بما لا تحمد عقباه إن تجرأت وفتحت الحديث في هذا الشأن. ثم ها هي ذي تفعل!

    لقد ضاق مبارك ذرعًا بتوسلها وسعالها. ففي نظرهِ، هي امرأة لا تكبح جماحَ نفسها، وتحاول فرض رأيها؛ وهذا ما لن يسمح بحدوثهِ!

    سيكون لي معها شأن آخر بعد عودتي من رحلة الخانكية القصيرة هذه، خاطب مبارك نفسه. ثم إننا لا نُسيِّرُ حياتنا وفق الأحلام، أكمل حديثه لذاته. فيما امتقع وجهه، وتحول إلى لون قرمزي محتقن، وهو يقرر في سره: تتحداني! كيف تجرؤ؟ هذه ليست شفقة قلب أم، أو تأثير حلم مزعج كما تدعي!

    وبعيدًا عن خيالات مبارك، بدت حصة أكثر شفقة وحنانًا من أي وقت آخر؛ فلا قدرة لها على التحكم بما يعتصر قلبها. فكانت المستضعفة تضم صغيرها مشرف ذا الأعوام السبعة إلى صدرها بطريقة جنونية، وعيناها السوداوان تلمعان بنظرات رجاء، وفي طرفيهما شيء من الشفقة.

    وقد كانت حصة ترتدي دراعة(3) خضراء واسعة أكثر من المعتاد. وتلف رأسها بملفع(4) قطني أسود، وتغطي وجهها الشاحب ببطُّولة(5) لا تتخلف عن ارتدائها طوال النهار، فيما تضعها بحرص عند رأسها، عندما تستلقي على جنبها الأيمن ليلًا، وقد دأبت على عمل هذا الصنيع، منذ ليلة زفافها قبل ثمانية أعوام. وهي تخفي خلف البطُّولة، تعابير حزينة عميقة الجذور.

    ومن المؤكد أنها امرأة جميلة، لكنها لا تدري عن جمالها شيء، ولم تقم قط بحساب سنين عمرها، وهي لا تعلم أنها بلغت العشرين قبل شهر ونصف الشهر. وكان كل ما يشغل بالها، هو شأن هذا الصبي؛ ولدها مشرف، الذي لا تناديه إلا: يا وليدي ويا نَظَر عيني. والذي ينوي والده حمله معه في رحلته البحرية الحالية. وعادة، ما تكتفي حصة بالتفكير فيما يخصها وحسب، ولأنها مريضة، فلا يعنيها مدى خطورة مرضها، وتأثيره السلبي على حبلها الحالي، لكن تحريًّا للدقة، فإن حصة المسكينة لو علمت بتأثير المرض على صحة جنينها لاكترثت لأمر العلاج الذي نصحته بها جارتها معالِجة الأعشاب أم عجلان، والمتمثل في شرب عشبة زعتر جاف بعد غليه، ثلاث مرات في اليوم، وكانت قد أوصتها بهذا الصنيع، صباح أحد أيام الأسبوع المنصرم. ففي ذاك الصباح، بعدما استمعت أم عجلان إلى خشخشة صدرها، غمغمت بقلق:

    - حالتك غير مطمئنة.

    ثم نبهتها بقولها:

    - سأبعث لكِ بعشبة ستساعدكِ على التخلص من السعال، وفي الوقت عينه، لن تضر الجنين في بطنكِ.

    ردت حصة، وهي تدفع عنها نوبة سعال تحاول افتراس أنفاسها:

    - حرام عليج، شنو اللي تقولينه يا أم عجلان.

    صوبتها أم عجلان بنظرة حارقة، وصوبت فكرة حصة بقولها:

    - قلتُ حالتكِ، وليس حالة حملكِ، انتبهي للقصد من الكلام يا أم مشرف، ولا بد لكِ من تناول شيء يخفف السعال، فكثرته قد تسرع من الولادة، ألا تلاحظين كيف يجعلكِ السعال تضغطين على رحمكِ؟

    فقالت حصة متداركة:

    - لكنه شهري.

    قاطعتها أم عجلان، وهي تستعجل القيام:

    - والآن، أرسلي ابنكِ مشرف كي يتبعني إلى داري، سأرسل معه كيس زعتر بري مجفف، ارمِه في الماء المغلي ولا تدعيه يفوح كثيرًا، ثم اشربي منه، وليشرب منه زوجكِ وابنكِ فلن يضرهما، بل هو نافع شاف بإذن الله.

    كان الصغير مشرف، ذو السنوات السبع، هو بكر حصة، وبعد ولادته اليسيرة، حملت خمس مرات متتالية، لكنها وضعت الأجنة الأربعة الأوائل في حالة مواليد مرضى ميؤوسٍ من عيشهم فماتوا فور ولادتهم، أما الحمل الخامس فقد تكلل بمولود ذكر عاش بضعة أيام، ثم لحق بإخوته الذين لم يعلموا عن أمر الدنيا شيئًا ولم يروا بصيص نورها إلا سويعة. وكانت حصة في تلك الأوقات ممزقة الفؤاد، فقد بكت في كل مرة من المرات في الحالات الأربع، أما في المرة الخامسة فبكت بحرقة عظمى. لكنها وفي أي مرة من تلك المرات، لم يتربع بداخلها القنوط واليأس وفقدان الأمل، بل كانت تحمدُ الله وتسترجع وتصبر. وهذا الحال، من الثبات والاحتساب، لم يكن حالة خاصة بحصة وحدها، بل هو ديدن كل من يعيش في قريتها، وفي سائر أحواله.

    وعودًا إلى تلك اللحظة، التي كانت حصة ترجو فيها أن تستدر شفقة مبارك، وتحريك عواطفه التي لم يسبق لها أن شعرت بها، فإنها وهي المرأة الحامل في شهرها الأخير، ولكونها تحديدًا، في انتظار أن تضع مولودها الجديد بعد يومين أو ثلاثة وربما أقل! فقد راحت تشحذ همتها -في سابقة غير منتظرة- لمواجهة غير محمودة العواقب مع زوجها وابن عمها مبارك.

    كان مبارك رجلًا أربعينيًّا، مهيب الهيئة، مديد الطول، قوي العضلات، لوحت حرارة الشمس وجهه الذي يحمل سيماء غلظة، ويمتاز صوته بجهورية عالية. والحق، أنه ضجر من إلحاحها اللجوج، وفي هذه اللحظة بالذات، كان يحدق فيها هنيهة بنظرة قاسية. ثم وقف فارشًا طوله في مساحة داره الصغيرة، رافسًا بغضب كوب الزعتر، متسببًا في دلق شراب الزعتر بلا ذنب!

    أفزعها تصرفه؛ وبدا مبارك كمارد عملاق خرج لتوه من مصباح سحري، راسمًا على وجهه تكشيرة امتعاض بالغة الحدة، قابضًا بكف غليظة على كف ابنه مشرف الضئيلة، ساحبًا إياه بقسوة من حضنها، حاسمًا نقاشًا طال وتشعب، وقال وفي صوته ما ينم عن ضيق بالغ:

    - سبق وأعلمتكِ أنني سأصطحب «مشرف» معي في رحلة الخانكية، فلا تراجعيني في هذا الأمر.

    لم تيأس حصة، رغم أنها تأتأت وشعرت أنها قد فقدت القدرة على النطق وقد جف ريقها، وبعد لحظات، قالت وقد استعادت القدرة على الحديث:

    - الغطس بارد في هذا الوقت، ومشرف لن يتحمل مشقة الموسم، حتى لو كان قصيرًا.

    بحنق أجابها:

    - عن أية مشقة تتحدثين، تعلمين أنه لن يغوص، سأدربه وأعلمه كي يصبحُ تبابًا(6) تمامًا كما فعل والدي معي، ثم إننا سنغيب أربعين يومًا وحسب.

    راجعته حصة بضعف:

    - أربعون يومًا ليست بالمدة القصيرة؛ كيف يقضيها صبي صغير في البحر والجو بارد؟

    أجابها بالنبرة الضائقة ذاتها:

    - كانت أول رحلة لي وأنا في السابعة من عمري، وكانت رحلة تجارية سافرت فيها مع جدي وأبي وأعمامي إلى بلاد فارس والهند، وغبت فيها أكثر من ستة أشهر عن أمي، ولم تفتح المسكينة فمها أو تقل شيئًا؟ وأنتِ الآن تراجعيني في رحلة قصيرة لن تستغرق أكثر من أربعين يومًا، وإن زادت فإنها ستزيد بسبب من هبوب الرياح.

    ثم توقف مبارك هنيهة، وهو غير مصدق لنفسه؛ فهو يبرر لها قراره، ويشرح لها طريقتهم في الحياة، وهو أمر قد كبرت ونمت عليه! فاستأنف كلامه بحدة:

    - أليست هذه هي حياتنا؟ فلماذا تتحدثين وكأنك لا تعرفينها!

    أجابته وهي لا تصدق أذنيها أنها تفعل:

    - بل أعرف أنه كان لي أخوين توفيا في سن صغيرة وهما في الموسم الصغير مع أبي، حتى أن قبرًا لم يضمهما؛ لقد ألقيا في عرض البحر، وهذا ما حرق قلب أمي، وجعلها تموت بعدهما بأشهر ولولا زواج أبي الثاني لما صارت لي أخت و...

    قاطعها مبارك بحدة، وكشف عن ضيقه، بتأففهِ وقولهِ:

    - دخلتُ البحر لأول مرة وأنا في السابعة، ولم أمت بعد. لذا، سواء أدخل مشرف الموسم أو لم يدخل فلن يغير هذا من قدرهِ شيئًا. ألست تعلمين أن الأعمار بيد الله؟

    - أنني لا أعترضُ على قدر الله، لكن... لو أنك يا «أبو مشرف» تتروى قليلًا، ثم تصحب «مشرف» معك بعد الموسم الكبير إلى بندر تبن مع النوخذة بو سالم المفتري، فهو نوخذة مشهور بتسامحه لما فتحتُ فمي، إنها الخانكية التي يهابها الرجال يا «أبو مشرف»، والبرد قارس في الربيع.

    رمقها بغضب، وعلق على شرحها بجملة قصيرة حانقة:

    - أصبح مشرف رجلًا!

    ثم توقف مبارك هنيهة، وفتح عينيه مندهشًا، وبحلق فيها باستغراب، وأكمل بنبرته الحانقة ذاتها:

    - ولا تنتظري من مبارك بن مشرف ولد مبارك بن مشرف الكبير تبريرًا، فلستُ أنا بالرجل الذي يتبع شور(7) امرأة.

    حدقت حصة فيه من وراء جفنيها المنتفخين من أثر البكاء، الذي لم يفارقها طوال اليومين الماضيين، وقالت بنبرة تغص بالألم:

    - إنني أم!

    - وهل أنا رجل عديم الرحمة، لأحرم أمًّا من طفلها؟

    في الواقع، لم يقل مبارك هذه الجملة، فلم يكن ليكون مباركًا لو كان قد فعل، ولكن، لأنه مبارك ولد مشرف ولد مبارك بن مشرف الكبير، كما صرح باعتزاز مذ ثوان، فقد انفجر صائحًا بصوت مبحوح من الغضب:

    - صج عقل المرأة صغير!

    ثم أستأنف بلا توقف:

    - لن نرحل بعيدًا، سنصل لهير(8) بلهمبار ونعود.

    - ستأخذ ابني بعيدًا عني، هذا ما أعرفه جيدًا.

    - يا خبلة، لو أبقت كل أم أبناءها في حجرها، ما صاروا رجالًا، وما دخلوا المواسم.

    - طلبتك يا «أبو مشرف»، لا تحرق قلبي على ولدي.

    - سيعود لك ابنكِ سالمًا غانمًا، إذا ما أطبقتِ فمكِ، وتوقفتِ عن الإلحاح.

    - لكن...

    قاطعها، صائحًا بحدة:

    - أوف، أوجعتِ رأسي بكثرة إلحاحكِ.

    كان ابنهما مشرف، رغم صغر سنه، قد استوعب مطلق الاستيعاب الخلاف الدائر بين والديه، ولم يستطع إلا أن يلوم نفسه على مشهد التوديع غير الودود هذا. وقبل أن يقفل مبارك الرجل الشرس خارجًا من الدار، التفت مواجهًا حصة وكأنه قد تذكر شيئًا عزيزًا عليه للتو. فرفع يمينه وفرش كفه على بطنها، وقال برضا وتسليم تامَّينِ: أستودعُ الله الذي لا تضيع ودائعه ما في بطنكِ.

    ثم رفع رأسه وأمر زوجته قائلًا بنبرة حاول أن تكون عادية:

    - إن وضعتِ ولدًا فأسميه على اسم عمي غانم، وإن وضعتِ بنتًا فأطلقي عليها اسم أمي سلامة.

    نطق مبارك كلماته بصورة حاسمة وقاصمة، بحيث قطع آخر خيوط أمل ورجاء كانا يقرقعان في صدر حصة، فانتفض قلبها كجناحي طير ذبيح. ونشرت بذعر ذراعيها في الهواء، وعاودت ضم صغيرها مشرف وشمّ رائحته، ثم تمتمت في أذنه بكلمات، وتنفست بعمق، وكأنها تودُعه قلبها، وتصبُّ في روحه حبها صبًّا، ثم وجهت الحديث إلى مبارك بشفقة ووجل:

    - ليس بوسعي أن أعيش بدونه، عدني أن تعيده لي.

    سكت مبارك هنيهة وهو يحس بضيق شديد، وكأن قلبه -لا سمح الله- قد لان لنبرتها المشفقة، لكنه استل سكين قسوته الاعتيادية، وقال بفتور وهو يستسخف رجاءها، ويعلن استسلامه للقضاء والقدر:

    - الأمر لله من قبلُ ومن بعد.

    فتمتمت مكررة باستسلام وانكسار ظاهرين:

    - ونعم باللهِ، ونعم باللهِ.

    ثم لم تطمئن حصة، وغلبتها عاطفتها فكررت رجاءها بخنوع:

    - عدني أن تعيدهُ لي.

    فرد عليها بغلظة وضيق:

    - اسمعي يا امرأة، إذا لم ترجعي إلى صوابكِ؛ هجرتكِ، وحرمتكِ من مشرف وهذا الذي في بطنكِ وحملتهم إلى ضرتكِ، ولا يغرنكِ صغر سنكِ، فيجعلكِ تنسين أني متزوج قبلك من امرأة مطيعة؛ لا يسمعُ لها حس.

    لم يفاجئها التهديد. فليست هذه هي المرة الأولى التي يهددها فيها مبارك بالهجر والتعليق، وانتقاله للمعيشة الدائمة عند زوجته الأولى، عوضًا عما يفعله منذ زواجه بها؛ المبيت عندها ليلة وعند زوجته الأولى ليلة مماثلة. لكنها المرة الأولى التي تسمعه فيها يذكرُ شيئًا عن حرمانها من أبنائها، ثم إنه لم يكتف بتهديده، بل أنهاه بموعظة بالغة:

    - يا امرأة، عودي إلى رشدكِ، وتذكري أنه لن يصيبنا إلا ما هو مقدر لنا.

    ثم تعجل الخروج، قبل أن يسمع أي تعليق. وقبل أن تستوعب هي الموقف، كان زوجها وابنها قد اختفيا عن ناظريها، فوضعت كفها على رأسها المليء بالوجع. وتيقن لها قلة حيلتها! وأنها لا محالة مفارقة ابنها، فتعتم ذهنها بمشاهد الكابوس المفزع الذي مر عليها مرارًا وتكرًار في الليالي السالفة. ولم تقدر على منع شفتها السفلى من الارتجاف، لتبدو كقوس حزين، ثم انسابت دمعاتها واحدة تجرُّ أختها، حتى انزلقت واختفت تحت غطاء البطُّولة لتتصبب على جيدها وصدرها. وبعد برهة قصيرة، حاولت مواساة نفسها بالكلام، فغصّ حلقها وتمزق، وبح صوتها، واكتشفت أنها فاشلة حتى في مواساة نفسها بفضفضة كلامية، فاكتفت بالبكاء، وهي ترتجف، ولا تدري أترتجفُ بسبب وجع صداع يكسر رأسها أم بسبب مداهمة آلام المخاض لرحمها؟

    في تلك الأثناء، وعلى بعد خطوات من الخيمة، ضاع صوت نشيج حصة في طنين أفكار دارت في أذني مبارك، وهو يمشي بصحبه ابنهِ بين الخيام. ولما غادر الحدود الشرقية لعذبة كانت ثنايا الطريق من على الجانبين تتزين بحشائش برية وأشجار موسمية من قرون السلم والسمر والأسن وحمض الأرنب والعوسج والأثل. على أن أكثر نبته كانت تجذبُ عيني مشرف هي باقات زهور العرفج(9) المنتشرة على مدّ البصر.

    هكذا مضيا معًا، أب غاضب يهتزُ بدنهُ بمشاعر الحنق، وابن قلق، يخشى أن تثير خطواته المتلاحقة السريعة شبه المتعثرة مزيدًا من أحاسيس الغضب لدى والده. وفيما كانا على حالهما ذاك، ظهر إمامهما جارهما الشيخ أحمد بن محمد، إمام ومؤذن المسجد الشرقي في الغارية، وهو رجل طويل مشرق الوجه طلق اللحية، وكعادته ظهر مبتسمًا، وقد حياهما مبادرًا بإلقاء السلام، بلهجة لطيفة:

    - السلام عليكم يا «أبو مشرف»، دعني أودعك فسيغادر محملكم سحر الغد.

    لم يتوقف مبارك لردّ السلام، ولم يجب على سؤال جاره الطيب، كما لم يشهد علامات دهشة ترتسم على وجه الشيخ أحمد العريض، فدمدم الأخير بخيبة ولحيته الكثيفة الطويلة تهتزُّ معه:

    - السلام لوجه الله. سامحك الله يا «أبو مشرف».

    واصل مبارك ماضيًا في طريقه، فيما التفت ابنه مشرف بوجهه في لحظة زمنية استثنائية، مسجلًا في ذهنه تعابير مؤلمة، ارتسمت على وجه جارهما. وخلال لحظات، علق المشهد في ذاكرة مشرف للأبد. فبالنسبة لمشرف كان مشهدًا فارقًا، لا ينسى، وهو لا يعلم لمَ هو كذلك؟

    ففي تلك الدقيقة، كانت الشمس ترتدي

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1