سلطان الأولياء: رواية عبد القادر الجيلاني
By نورية تشالاغان and Arabookverse
()
About this ebook
لم يوجد سلطان للأولياءْ..
منذ الأزل، كعبد القادر
وهو صاحب كرامة وفكر وقّاد
منذ أن خلق الحقُّ الأرضَ ورفع السماءْ
يونس إمرة
Read more from نورية تشالاغان
ابني محمد عليه السلام: السيدة آمنة والسيدة حليمة Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsعفة القلب - مريم العذراء Rating: 0 out of 5 stars0 ratings
Related to سلطان الأولياء
Related ebooks
الباحث عن الحقيقة: قصة Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsعمارة آل داوود Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsلا تخبر الحصان Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsلص يطرق الأبواب Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsمختارات من أعمال جبران خليل جبران: النبي • يسوع ابن الإنسان • الأجنحة المتكسرة • الأرواح المتمردة • رَمْلٌ وزَبَدٌ Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsضمائر خاوية Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsرسالة البصائر فى المصائر Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsفَضَّةُ الصَّرْخَةِ ـ الجحيم نظرة عن كثب Rating: 5 out of 5 stars5/5آسر.. الأسر والقصر Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsدروب الحياة Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالآن تأمن الملائكة Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsنماذج بشرية Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsشق الجبل Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsعلى مائدة داعش Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالغادة الإنجليزية Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالمنتظر Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsظل التفاحة Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالقوة والمجد Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالفابريكة Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsإنك لمن المنظرين Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsزنبقة الغور Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsكى أكون إنساناً أجمل: مشاهد من الحياة Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsاعترافات كاهن Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsحكايات نجيع Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsشاعر ملك Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsعراف القرية Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالبدائع والطرائف Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsعلامات Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالماضي لا يعود Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsاللص والكلاب Rating: 0 out of 5 stars0 ratings
Related categories
Reviews for سلطان الأولياء
0 ratings0 reviews
Book preview
سلطان الأولياء - نورية تشالاغان
سلطانُ الأولياء
رواية عبد القادر الجيلاني
نورية تشالاغان
رواية
ترجمة: أحمد سليمان الإبراهيم
نورية تشالاغان
Nuriye Çeleğen
Hay Sultan
Timaş publishing
تخرّجت نوريَّة تشالاغان في قسم اللغة التركيَّة وآدابها في كليَّة العلوم والآداب في جامعة مرمرة. نالت في الجامعة عينها رسالة الماجستير، في كليَّة الشريعة، قسم الأدب التركيّ- الإسلاميّ. وهي الآن تعمل في مهنة التعليم مدرِّسة للآداب.
من أهمّ أعمالها: رواية عشق السكون: المترجمة إلى العربيَّة، والصادرة عن دار نينوى - دمشق، بترجمة أحمد سليمان الإبراهيم. سلطان الأولياء، وأبي النبيّ محمَّد (ص)، عشق الحزن، وغيرها الكثير من الروايات.
سلطانُ الأولياء
لم يوجد سلطان للأولياءْ...
منذ الأزل، كعبد القادر
وهو صاحب كرامة وفكر وقّاد
منذ أن خلق الحقُّ الأرضَ ورفع السماءْ
يونس إمرة
المتدفِّقون فـي الوقت...
في الخارج ثلجٌ...
مبعثرٌ، كما الدراويش الذين غزاهم الشيبُ...
لجأ الجميع إلى منازلهم. جلالُ الطقس في الخارج في أشهر الشتاء، يرمي الناس بجمالٍ آخرَ في أحضان منازلهم...
ثلجٌ ناعمٌ.
يداعبُ الأرواحَ برقَّةٍ.
تطايرتْ ندفُ الثلج إلى النافذة الباردة. تصدَّى الزجاج بصدره للبرد، يقاومه. يلتصق البخار اللطيف الموجود في الداخل بالنافذة، فاضحاً الدفءَ الموجودَ في الداخل... تضطرم النيران في المدفأة، ويرتفع لهيبها فيسقط على أرجاء الغرفة بضوءٍ خافت.
حينما يتجوَّل البرد في الخارج، تحلو في الداخل الأحاديثُ، وتُكسب الجوَّ دفئاً، فمع الكلام تصبح ليالي الشتاء مفعمة بالفرح والدفء. أهتزُّ على أرجوحة النعاس. حينما يدبُّ النعاس في العيون، يتأرجح الإنسانُ على نسمة عليلة. حينما يتصارع النعاسُ مع الكلام، تنفتحُ عينايَ اللتان طرق النعاسُ بابيهما بحماس آتٍ من الكلام الذي سمعته. أعرف مدى تفوّق الأذن على العين. أنظر إلى أبي وهو يتحدَّث محاولاً إحياء الأحداث أمامنا. أستند على ركبتَي أمِّي... وهل ثمَّة سرير في الكون أطيب من رُكَب الأمَّهات!! كم هو جميل أن أعيش دلال طفولتي على هذا السرير! اتَّسعت عيون إخوتي بسبب الفضول، وأمَّا عينايَ فلا تزالان تصارعان النعاس. أهو نعاسٌ هذا الذي يمضي أم زمنٌ، لستُ أدري!!
حينما يتدفَّق الوقت في الماضي، ويزحف الزمن إلى المستقبل، يبدأ والدي حديثه. أتشبَّث بأيدي الكلام، وبمركبة الخيال...
للمرَّة الأولى، يأتي إلى المدينة التي وُلِد فيها، جاء وداخله مفعمٌ بالقلق، وقلبه ممتلئ بالدعاء. هذه المدينة عبارة عن منطقة جبليَّة تقع في جنوب غرب بحر الخزر، وهي مشهورة بأشجارها الضخمة، وبكثرة كلابها، وجمال نسائها... سمِع أنَّها تتمتَّع بجغرافيَّةٍ قاسية. طوال الطريق، وكلَّما صادف وادياً أو تلةً أو هضبةً، كان لسانُ حاله يقول: «حقّاً إنَّها كذلك». الطرق محاطة بالأشجار أو بسفوح الجبال، وهذا ما يعوق المرور والحركة، كأنَّها أدارت ظهرها إلى العالم، وأغلقت أبوابها كلّها في وجهه. سمع أنَّ أمطارَ هذه المنطقة غزيرة، حيث يبقى المطر مستمرّاً يهطل أربعين يوماً بلياليها. قال في سرِّه: «أجل، كلُّ هذا الشجر لا بدَّ وأن يجذب كلَّ هذه الأمطار». فكَّر؛ كيف يعيش الناس هنا؟ ثمَّ تذكَّر أنَّ سكَّان هذه المنطقة لم يتذمّروا قطُّ، فهم يعرفون أنَّ التذمُّر رفيق الذنوب. ردَّد الدعاء كي لا تمطر، لأنَّ المطر يعني الانتظار، وهو كان يريد إنهاء عمله والمغادرة في أقصى سرعة.
الطقس في هذه المنطقة حارٌّ ورطب. شعر بالغثيان، فمشى باتِّجاه السوق للبحث عن مكان له. وصل إلى مركز المدينة. توقّف. لم يستطع التقدُّم خطوة واحدة أمام ما رآه. تسلَّل الخوف إلى قلبه، شعر بأنَّ لونه مالَ إلى الاصفرار. كانت صرخات الرجل تؤلم القلب، وهو يتعرَّض للضرب المستمرِّ. شكَّل الناس حلقة حول الرجل الذي يتعرَّض للضرب، وهم يتفرَّجون عليه.
ازداد فضوله لمعرفة الذنب الذي اقترفه هذا الرجل. تخلَّص قليلاً من الخوف الذي غزا قلبه منذ قليل، فمشى باتجاه الشخص الذي يتعرَّض للضرب. قال لنفسه: «كم سريع الإنسان في التأقلم!» تمزَّقت ثياب الرجل، والدَّم ينزف من فمه وأنفه. ازداد فضولاً لمعرفة زمن انتهاء فصل الضرب هذا. اقترب بصمتٍ من الحشد، ثمَّ اقترب من رجلٍ متوسّط في العمر، مظهره يعطي شعوراً بالأمان والطمأنينة، وتحدَّث إليه بصوتٍ يدلُّ بوضوح على أنَّه قادم من مكان بعيد جداً:
- السَّلام عليكم.
ردَّ الرجل المتوسّط في عمره بهدوء ومحبَّة:
- وعليكم السَّلام.
هنا جميع الناس يعرفون بعضهم. قال الرجل الذي تلقّى التحيَّة للرجل الذي ألقاها، بلهجة تشير إلى أنَّه لم يعرفه:
- أعتقد أنَّك غريب.
أجل، هو غريب عن هذا المكان، غريب عن كلِّ ما فيه. فهم الرجل المتوسّط في عمره عينَي الغريب، اللتين تنظران بخوفٍ. أشار برأسه إلى الرجل الذي يتلقَّى الضرب، وقال موضِّحاً:
- إنَّها عادات هذه المنطقة.
ازدادت دهشة الغريب. للمرَّة الأولى يسمع أنَّ تجمُّع الناس وفُرجتهم على رجلٍ يتعرَّض للضرب، هي عادة من العادات. سأل بصوتٍ خافت مفعم بالحيرة:
- مَن الذين يُضربون حسب عاداتكم؟
- الذين يقترفون ذنباً.
- لا يوجد في ديننا عقاب كهذا لكلّ شخص يرتكب الذنوب.
- هنا، ارتكاب الذنوب ممنوع. لهذا يتمُّ ضرب الذين يقترفون أيَّ نوع من أنواع الذنوب.
- ألا يوجد حاكم هنا؟
- يوجد أميرنا.
- وما الذي يقوله أميركم في هذا الوضع؟
- لقد أخذنا إذناً من أميرنا كي نحضر الأشخاص الذين يرتكبون ذنوباً إلى هذه الساحة ونضربهم.
صمت، ثمَّ نظر إلى الغريب الصامت. كان الرجل يعرف قراءة لغة الصمت، أردف قائلاً:
- هنا جيلان. لا يُسمح لأحدٍ هنا باقتراف أيِّ ذنب.
ازدادت دهشة التاجر القادم من بلادٍ بعيدة، إذ لم يسمع من قبلُ بأنَّ ثمَّة بلاداً يُمنع فيها اقتراف الذنوب. هذا يعني أنَّ اقتراف الذنب ليس مكسباً لكلِّ شجاع. اتَّجه نحو المكان الذي سيقيم فيه وهو يشعر بالدهشة من جهة، وبالإعجاب من جهة أخرى بجيلان، المدينة التي يأتي إليها للمرَّة الأولى. كان مسيطراً على نفسه فيما يخصُّ منعها من اقتراف الذنوب، لكن هنا، يجب أن يكون أكثر انتباهاً طيلة فترة مكوثه في هذه المدينة، فمن جهة، لا يريد أن يُضرب أمام جميع الناس، ومن جهة أخرى هو ضيف فحسب، يريد إنجاز عمله ويغادر من فوره. لَمَّا كان يضع رأسه المتعب فوق الوسادة، وقبل أن يسقط بين يدَي النوم، أراد أن يحمي ذاته من نفسه، ومن الذنوب فقال:
- يا حافظ...
البشارة
كان وقت التهجُّد
لمَّا استيقظ، شعرَ ببشارة الحلم في روحه، وبسعادته في قلبه. خرج من الغرفة. لامس جلدَه الهواءُ الباردُ الذي داعب روحه كما الحلم. شعر بقشعريرة. تهطل الرحمة منذ أيَّام على قريتنا الصغيرة. هدأ المطرُ قليلاً. أخذ نفَساً عميقاً مفعماً برائحة التراب، التي فاحت بعد المطر. داعب الهواءُ النظيف عينيه فتطايرت كسرات النوم التي كانت لا تزال عالقة فيهما.
نظر أبي، «أبو صالح»، إلى السماء الممتلئة بقطع السحاب. شبَّه وجه السماء المغطَّى بقطع السحاب الرماديَّة والسوداء، التي تكشفه حيناً ثمَّ لا تلبث أن تعود وتغلقه حيناً آخر، بالحالة التي يمرُّ بها العالم الإسلاميّ.
مضى على وفاة رسول الله أكثر من ثلاثمئة عام، وجاء دور كتابة تاريخ خلفاء العبَّاسيين، الذين باتوا في أوج ضعفهم، وكتابة تاريخ الفاطميين، الذين حكموا مصرَ بين صراعات ونقاشات حادَّة، على صفحات التاريخ المتدفّق، وهو يحمل بين طيَّاته الأحزان حيناً والأفراح حيناً آخر. كما مضت ستُّ سنوات على وفاة ألب أرسلان، الذي فتح أبواب الأناضول أمام المسلمين، وأخذ مكانه ابنه ملك شاه. كانت الدولة السلجوقيَّة تمرُّ بأزمة، بسبب اعتراض رؤساء القبائل على السلطة. وبينما كانت الأراضي الإسلاميَّة كافَّة تئنُّ وتتلوَّى بسبب الاضطرابات السياسيَّة، جاءت الأوبئة لتكسر ظهر الشعوب الإسلاميَّة؛ فقد مات الآلاف في مصرَ في يومٍ واحد بسبب الأمراض السارية، في حين تحرَّكت الجبال من مكانها، ودُمِّرت المناطق السكنيَّة بأكملها في الشَّام ومحيطها بسبب الزلزال الذي ضربها.
كان القدر مفعماً بالأسرار، ولكلِّ حركة انعكاس للقدر، ولها أيضاً منه ثمن ومقابل. لا أحد يعلم سبب هدم تحقُّق الوحدة والحيويَّة بين أهل الإسلام في أيِّ حالٍ من الأحول، أهو بسبب حبِّ السلطة، أم بسبب الذين قسَّموا أحباب رسول الله (ص)، أم الذين قطفوا رياحين رسول الله عن أغصان الحياة، أم بسبب الذين هجَّروا أهل بيته وأذاقوهم ألوان العذاب والظلم؟!
مدّ أبي، أبو صالح، جسمه باتِّجاه الإبريق وهو يردِّد الدعاء من أجل انقشاع قطع السحب التي تخيّم فوق رؤوس المسلمين، وكي تحلَّ الطمأنينة والسلام في ديار العالم الإسلاميِّ. يسكب الماء من الإبريق على يديه، ومن يديه على جسده الهرم الذي حمل حياته، فشعر بالارتياح. لمَّا توضَّأ وولج إلى الداخل، شعر أنَّ الهواء المعتدل قد أحاط جلده المقشعرَّ بدفء يحميه. شكر ربَّه خالق البرد والدفء. مدَّ سجَّادة الصلاة فوق حصير صغير.
كان أبي من أهل الليل.
كان الليلُ رداءً... وثمَّة عددٌ قليل من عباد الله يرتدونه، فالليل لدى أهل الليل كما الغيب لله تعالى. وكما أنَّ غيرَ المعتاد الغيبَ لا يعرف عوالم الغيب، كذلك لا يعرف حالة أهل الليل مَن لم يتحرَّر من النوم والغفلة، ولم يضع جبينه على الأرض سجوداً بكلِّ إخلاص في لحظة اتّحاد مع حبيبه. يسمّي الله ما يخفيه غيباً، وميَّز الخاصَّة من عبيده بين أهل ليلٍ وأهل نهار، وأطلق على أهل الليل اسم أولياء، وعلى أهل النهار أطلق اسم أهل الدنيا.
وكي يريح الله أهل الليل، يسدل، كلَّ ليلة، ستارة على عيون أهل الدنيا تسمَّى النوم، وبالنوم أيضاً يغلق آذانهم، ويقطع أصواتهم. وكان الله ينزل بالتجلّي إلى السماء القريبة كي يلتقي مَن يحبّهم، وكان أهل الليل يهزّون النهار كي يطهّرونه من ظلام المادَّة بخطابهم لمعشوقهم: «مَن يدَّعي أنَّه يحبُّني وينام حينما يحلُّ الليلُ، كاذب». بهذا التوق يهربون من بين أذرع النوم التي تحتضن الدّنيا، ويهرعون إلى السجود، وتدخل النشوة قلوبَهم بالذكر، ويعلّقون على أعمالهم صلوات التهجُّد التي يقيمونها كقناديل نور تضيء عتمة البرزخ.
استيقظ أبي، أبو صالح، من أجل صلاة التهجُّد كي لا يكون من الكاذبين. وقف في الصلاة مع عشقه. كانت تسري في داخله تلك الطمأنينة المتبقِّية من الحلم الذي رآه منذ قليل. فكَّر، طوال صلاته، في الحلم الذي رآه، وهو يشعر بالاضطراب. وفي هذه الحضرة الإلهيَّة، زاد ركعات صلاته، ومدَّد سجداته، سجدة تلو سجدة، من أجل الطمأنينة التي وُهِبت له هذه الليلة.
قُرع الباب، وظهرت أمام الباب المرأة المسنَّة التي قرعته، وهي تضع على وجهها حجاباً أسودَ. نادت أبي بصوتٍ مرتجف مجبول بالفرح:
- يا أبا صالح.
نظر أبي إلى العتمة، كأنَّه يعلم ما الذي ستقوله المرأة المسنَّة.
- إنَّه زمن الشكر يا أبا صالح، إنَّه وقت الشكر.
سقط في أرجاء الغُرف حمدٌ مقتطع من القلب، وتلعثمت المرأة من صوت الحمد. كانت تعرف والدي، وتعرف أحواله المعنويَّة. قال لسان حالها: «هكذا يكون حمدُ صديق الله». الذكر الخارج من اللسان هو ذكرُ كلامٍ فقط، وأمَّا الذِّكر الخارج من شغاف القلب، فهو تسبيحُ ذِكرٍ متَّحدٍ مع الكائنات. سقط في الغرفة ككرة المدفع، كأنَّ العالم دخل في الوجد، كبُرت الغرفة حتَّى صارت بحجم الكائنات.
ارتجفت المرأة.
أقام أبي صلاة الشكر. نظر إلى المرأة المسنَّة التي حملت البشارة. زفَّت المرأة البشارة:
- يا أبا صالح، لقد وهبك الله ولداً ذكراً.
شعر والدي أنَّ الدنيا والآخرة وُهِبتا له. ظنَّ أنَّ العرش سقط وسط قلبه، ولفَّه وجدٌ إلهيٌّ، فألقى نفسه في سجدة شكرٍ، بصوتٍ مفعمٍ بالعشق، قال:
- الله أكبر.
حَمَدَ الله بعينين مغرورقتين بالدموع أنْ وهبه ولداً في هذا العُمر. تذكَّر والدي، أبو صالح، الحلم الذي رآه منذ قليل، وأصيب بالدهشة. كان الحلم صادقاً. كلُّ حلم يدخله سيّدنا (عليه الصلاة والسلام) يكون صادقاً، واليوم تلقّى أبي بشارة الولد الذي سيرزقه الله به من سيِّدنا، واستيقظ مع هذه البشارة. كان أبو صالح موسى جنكي دوست واحداً من أحفاد سيّدنا الحسن، أحد ريحانتَي رسول الله. اسمه جنكي دوست، ويعني باللّغة الفارسيَّة «محبّ الحرب». كان أبو صالح موسى جنكي دوست محبّاً للحرب ضدَّ نفسه التي يعدُّها ألدَّ الأعداء.
تجسَّد رسول الله (ص) مع كلِّ الصحابة والأولياء في حلم أبي، وبشَّره بالصبيِّ الذي سيولد عنده. «يا أبا صالح، لقد وهبك الحقُّ في هذه الليلة ولداً ذكراً، إنَّه ولدي، وستكون رتبته أرفع من الأولياء والأقطاب الآخرين. سيطيعه الأولياء كلّهم، إلَّا الأئمة الاثنا عشر، وسيضعون رجليه على رقابهم، ومن لا يطيعه سيُحرم من درجة القرب إلى الله».
لجأ أبي العجوز إلى السجود مجدَّداً، وسعادة الرؤيا انتشرت في داخله، بقي في السجود لساعات طوال، وتوّج بشارة الولد بالشكر، ثمَّ فكَّر في الاسم الذي سيطلقه على ولده القادم. الله قادر على كلِّ شيء، وهل يعجز الله عن شيء وهو الذي وهبه ولداً وهو في هذه السنِّ؟!
سالت الليلة المضاءة بالذكر والمباركة بالشكر من السجّادة ولامست الصباح. تمتم أبي بالاسم الذي وقع في قلبه:
- عبد القادر...
- عبد القادر...
ألف ومئة طفل
هطلت مياه الأمطار على قرية بوشتير الصغيرة التابعة لجيلان على مدى أيَّامٍ طويلة حتَّى سالت من مزاريب البيوت الطينيَّة كما تسيل الآمال التي لم تتحقَّق. المطر هو الشيء الأكثر بركة في هذه الديار. يجلس سكَّان القرية، الذين أجبرهم المطر على المكوث في منازلهم، مع أمِّي فاطمة خانم، التي أنجبت في الستّين من عمرها، يتكلَّمون معها عن وليدها. لقد أصيب الناس بالدهشة من جرَّاء ولادة امرأة في مثل هذه السنِّ، وبحثوا عن سرِّ ذلك في حكمة إلهيَّة. كان الناس يتحدَّثون بدهشة:
- يمكن للمرأة العربيَّة أن تلد في الخمسين من عمرها، وأمَّا في الستين فلا يمكن إلَّا للقرشيَّة أن تضع ولداً في مثل هذه السنِّ!
وكانت أمِّي، أمّ الخير أمة الجبَّار فاطمة، قرشيَّةً، من نسل سيّدنا الحسين، حفيد وحبيب رسول الله، كما يعود نسبنا، كما إلى الحسن والحسين، إلى ثلاثة خلفاء.
كانت ولادة أمِّي سهلة جدّاً. بعد أن علمت أنَّها حامل، أضافت عبادة جديدة إلى عباداتها، فلقد ازدادت لجوءاً إلى التقوى، وكانت تتجنَّب كثيراً عيون غير المحارم. كانت الحالة المعنويَّة للأمِّ في أثناء الحمل تظهر، بدايةً، في الولادة من خلال تجنُّب الحرام. فكما يزيد النظر الحرام من صعوبة الولادة، كذلك أيضاً يؤثّر سلباً في الحالتين المعنويَّة والأخلاقيَّة للطفل الوليد؛ فحينما يكبر الطفل، لن يطيع الأمَّ التي لم تحمِهِ من الحرام في فترة الحمل. إذا ما تمَّ إخفاء الحمل حتَّى الشهر السادس، فإنَّ الطفل الوليد سيكون مؤدَّباً. أخفت أمِّي قصَّة حملها، كأنَّه سرٌّ لا يمكن البوح به.
ليلة ولادتي، وُلِد أيضاً ألف ومئة صبيّ سيكونون في المستقبل تلاميذي. ولدتُ يوم الشكِّ(¹)، وكان الجوّ غائماً، ومن غير الممكن رؤية الهلال. كانت ثمَّة عادة في جيلان، مفادها: إذا امتنع الطفل المولود في رمضان عن رضاعة الحليب، فسيكون في المستقبل شريفاً ومحظوظاً وصاحب مكانة. كانت أمّي، قبل يوم ولادتها، يتراءى لها مولودها في أحلامها، وكانت ترفع البشرى من حالها المعنويَّة. جاء الناس إلى باب أمِّي كي يعرفوا ما إذا حلَّ رمضان أو لا، وقال كبار القرية لأمِّي:
- يا سيّدة أمة الجبار فاطمة خاتون، هل يرضع عبد القادر الحليب؟
أرادت أمِّي العجوز إرضاعي الحليب، فدفعت حلمة ثديها بفمي. حاولت أمِّي مجدَّداً فأغلقت شفتيَّ بقوَّة. انتظرت قليلاً، ثمَّ حاولتْ إرضاعي للمرَّة الثالثة، ومن جديد دفعت الثدي بفمي. نظرت أمِّي إلى الناس الواقفين عند الباب، وقالت:
- عبد القادر لا يرضع الحليب.
فهم الجميعُ أنَّ رمضانَ قد بدأ...
طوال شهر رمضان، تلك السنة، كنت أرضع الحليب في فترة الإفطار، وأقطعه وقت الإمساك... واستمرَّت هذه الحالة معي طوال سنيِّ طفولتي.
كان عملي في البداية، ذِكرُ الله بفمٍ ملآن
وذاع صيتي بالصوم مُذ كنتُ في المهد
اللَّعبُ معَ الأطفال
كانت قرية بوشتير جنَّة ببيوتها الطينيَّة المحاطة بمشاتل الورد الأحمر والأصفر، وبحدائقها الغنَّاء الخضراء، وبناسها الذين ينظرون إلى بعضهم بكلِّ محبَّة، وبقلوبهم الرقيقة الطيّبة التي لا تعرف الخصومة والعداء. كان الفصل ربيعاً، وبينما كان الربيع يطلق أنفاسه الزكيَّة المنعشة
