Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

فتح الأندلس
فتح الأندلس
فتح الأندلس
Ebook457 pages3 hours

فتح الأندلس

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

تدخل رواية «فتح الأندلس أو طارق بن زياد» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي الرواية الثالثة إلى جانب روايتي «فتاة القيروان» و«عبد الرحمن الناصر» التي يتناول فيها زيدان فترة الحكم الإسلامي الممتدة في الأندلس. وتتضمن هذه الرواية بيان عن التاريخ الإسباني قبيل الفتح الإسلامي، مع وصف للأحوال الاجتماعية والسياسية السائدة بين أهلها خلال حكم القوط. كما تتناول الرواية الوقائع التاريخية التي شهدت فتح الأندلس على يد القائد طارق بن زياد، ومقتل رودريك ملك القوط. وعلي الرغم من محورية شخصية طارق بن زياد كشخصية تاريخية، إلا أن البطولة الروائية كانت من نصيب فلورندا ابنة الكونت يوليان حاكم سبتة، وخطيبة ابن ملك القوط.
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateAug 24, 1903
ISBN9786485092532
فتح الأندلس

Read more from جُرجي زيدان

Related to فتح الأندلس

Related ebooks

Reviews for فتح الأندلس

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    فتح الأندلس - جُرجي زيدان

    الأندلس والقوط وطليطلة

    الأندلس إحدى مقاطعات إسبانيا وأسمها في الأصل وندلوسيا نسبة إلى الوندال أو الفندال وكانوا قد استوطنوها بعد الرومان فلما فتحها العرب سموها الأندلس ثم أطلقوا هذا الاسم على أسبانيا كلها .وكانت إسبانيا في جملة مملكة الرومان الغربية إلى القرن الخامس للميلاد فسطا عليها القوط وهم من القبائل الجرمانية الذين رحلوا من أعالي الهند إلى أوربا طلباً للمرعى والمعاش وأقاموا في بوادي أوربا كما أقام العرب في بوادي الشام والعراق. ثم سطا القوط على مملكة الرومان الغربية قبل سو العرب على المملكة الشرقية ببضعة قرون وأنشئوا الممالك في فرنسا وألمانيا وإنكلترا وغيرها وهي الدول الباقية في أوربا إلى الآن .وكان في جملة تلك القبائل قبيلة القوط الغربيين (فيسيقوط) سطو على أسبانيا في القرن الخامس استخرجوها من الرومانيين وأنشئوا فيها دولة قوطية انتهت بالفتح الإسلامي سنة 92هـ (711م) على يد طارق بن زياد القائد البربري الشهير .وكانت عاصمة مملكة القوط في إسبانيا عامئذٍ مدينة طليطلة على ضفاف نهر التاج في أواسط أسبانيا. وكانت طليطلة في ذلك العهد مدينة عامرة فيها الحصون والقلاع والقصور والكنائس والدير. وكانت مركز الدين والسياسية وفيها يجتمع مجمع الأساقفة كل عام ينظر في الأمور العامة .وكان ملك الأسبان عام الفتح الملك رودر بك والعرب يسمونه (لذريق) وهو قوطي الأصل تولى الملك سنة 709م ولم يكن من العائلة المالكة ولكنه أختلس الملك اختلاسا وترك أبناء الملك السابق ناقمين عليه. وكانت أسبانيا تنقسم يومئذ إلى ولايات أو دوقيات يتولى كل دوقية منها حاكم يسمى الدوق أو الكونت ويرجعون في أحكامهم جميعاً إلى الملك المقيم في طليطلة .وطليطلة واقعة على أكمة مؤلفة من أكمات يحيط بها نهر التاج من كل جهاتها إلا الشمال بما يشبه حدوة الفرس تماماً. وراء النهر من الشرق والغرب والجنوب جبال متسلسلة تحجب الأفق عن أهل المدينة وفيها مغارس الزيتون وكروم العنب وغابات السنديان والصنوبر. وفي منتصف المدينة الكنيسة الكبرى التي جعلها المسلمون بعد الفتح جامعاً وهي من الفخامة والمناعة على جانب عظيم. وكان الناظر إذا ألقى نظرة على أبنية طليطلة من شاهق تبين فيها من ضروب الأبنية مزيجاً من الطرز الروماني والطرز القوطي وحول المدينة من الشمال ووراء النهر من الجهات الأخرى مغارس الفاكهة والأثمار وسائر أصناف الأشجار إذا أطل الواقف من إحدى نوافذ منازلها أشرف عليها كلها .^

    الفصل الثاني

    فلورندا

    وكان في جملة قصور الملك رودريك قصر في شرقي المدينة على أكمة تشرف على ضفاف النهر. ويحدق بالقصر صنوف الأشجار والرياحين والأزهار على مرتفعات تتخللها مجاري الماء على غير نظام مما يزيدها جمالاً. ومساحة تلك الحدائق واسعة يحدق بها كلها إلا من جهة النهر حوله الحراس في منازل بنوها لهم بجانب أبواب البستان .وكان بجانب قصر الملك قصر صغير متصل به يستطرق إليه من جهة وله باب مستقل يستطرق إلى البستان من جهة أخرى. ناهيك بقصور أخرى متفرقة في جوانب ذلك البستان بعضها للحاشية وبعضها للأمراء وفي جملتها قصر كبير كان يقيم فيه أولاد الدوقات والكونتات حكام الولايات جرياً على القواعد المتبعة عند ملوك القوط في ذلك الزمان. فقد كان من عاداتهم أن يجتمع في بلاطهم في طليطلة أبناء ولاتهم المشار إليهم وبناتهم يقيمون هناك ويربون في البلاط الملوكي معاً يتعارفون ويتعاشرون فيشبون على ما يرضاه الملك ويتأدبون في خدمته ثم يتزوجون1 .ففي صباح الخامس والعشرين من ديسمبر سنة 711 للميلاد كان أهل طليطلة مشتغلين بالاحتفال بعيد الميلاد والناس يتقاطرون إلى الكنائس والدير وهم يهنئون بعضهم بعضاً. وأكثر الكنائس ازدحاماً في ذلك اليوم الكنيسة الكبرى لأن أكبر أساقفة طليطلة يصلي فيها ويحضر القداس الملك رودريك بنفسه ومعه حاشيته وكبار رجال دولته. فغضت تلك الكنيسة على سعتها وامتلأ فناؤها وما جاورها من الشوارع والأسلحة بالناس على اختلاف الأجناس والأعمار تطلعاً إلى رؤية الملك ومشاهدة موكبه الحافل. ومما زاد الناس شوقاً إلى رؤيته أنه كان لا يزال قريب العهد من ملكه وقلما رآه أهل طليطلة فكيف بأهل القرى المجاورة. فاغتنموا ذلك العيد لمشاهدة الرجل الذي أختلس الملك من غيطشة2 ملكهم السابق .ولم تبق امرأة لم تخرج من بيتها إذا لم يكن لسماع الصلاة فلمشاهدة موكب الملك رودريك إلا فتاة من أهل البلاط الملوكي اغتنمت اشتغال الملك ورعيته بذلك العيد لتخلو بنفسها وتفكر في أمرها. وكانت من جملة بنات الكونتات حكام الولايات تقيم في القصر الذي يجمعهم جميعاً بجوار قصر الملك فنقلها الملك منذ بضعة أيام إلى القصر الصغير المتصل بقصره. وهو إكرام حسدها عليه كل رفاقها ورفيقاتها ولكنه كان سبباً كبيراً في تعاستها وانشغال بالها .فلما خرج الملك ورجال دولته وسائر أهل البلاط للاحتفال بالعيد اعتذرت هي بانحراف صحتها. وكان ذلك اليوم صاحياً زاهياً ينذر مثاله في فصل الشتاء وقد أطلت الشمس من وراء الآكام وأرسلت أشعتها على نهر التاج وما على ضفافه من الحدائق وفي جملتها قصر الملك فبخرت ما كان على الأوراق والأزهار من الطل. ومثل هذا اليوم يحلو للناس الخروج فيه من المنازل إلى البساتين لاستقبال أشعة الشمس والتمتع بمناظر الطبيعة .فاغتنمت الفتاة غياب الملك وحاشيته ونزلت من القصر وتمشت في طرق تلك الحديقة وقد تدثرت فوق أثوابها برداء من الحرير الأحمر مبطن بالفرو اتقاء البرد. وقد غطى الرداء أكتافها ومعظم جسمها إلا ذيل ثوبها (الفسطان) الأرجواني المزركش بالقصب فأنه ما زال يتلألأ في أشعة الشمس ويجر من ورائها جراً خفيفاً. وأما رأسها فقد كان مكشوفاً وعليه شبكة من الحرير الأبيض تضم شعرها الذهبي ضمة واحدة وترسله إلى ظهرها مستعرضاً كأنها خارجة من الحمام وتلك عادة الرومان في لباس الشعر أقتبسها عنهم القوط في تلك الأعصار. وكان ذلك الشعر الذهبي يتلألأ من خلال تلك الشبكة وخصوصاً إذا وقعت عليه أشعة الشمس في أثناء مرور الفتاة بين الأشجار. على أن اكتساءها بذلك الرداء لم يخف جمال قامتها ورشاقة مشيتها. وأما وجهها فقد كان ممتلئاً ناصع البياض مشرباً حمرة رائقة يكاد يشف عما تحته وقد زاده الانحراف والذبول هيبة وجمالاً وزادا تينك العينين الزرقاوين حدة ومضاء. ولم تكن عيناها زرقاوين تماماً بل كان فيهما مع الزرقة شيء لا يعبر عنه إلا بالسحر. ولها فم مع صغره لا يبدو إلا مبتسماً ابتسام الجلال والحشمة .سارت الفتاة في الحديقة ومعظم أشجارها عارٍ من الورق وأكثر رياحينها خالية من الأزهار كأنها تشارك فتاتنا بالذبول والانكسار إلا الأرض فقد كانت كأنها بساط من العشب الأخضر مرصعة ببعض الأزهار التي تنفتح في الشتاء. فمشت الفتاة وهي لا تبالي بما قد يعترض طريقها من الأغصان المدلاة. فربما لطم كتفها بغصن وصدرها بآخر ورأسها بآخر وبين يديها امرأة عجوز تحوم حولها وتراعي حركاتها وتزيل العقبات من سبيلها. ولم تكن العجوز أقل منها قلقاً ولكن الزمان حنكها ومرور الحدثان علمها أن الأحوال لا تدوم على حال .وكانت الفتاة تمشي وتلتفت نحو القصر ثم ترسل نظرها من خلال الأشجار إلى ما يطل عليه ذلك البستان من الحدائق البعيدة وفوقها جبال شامخة يعلو بعض قممها ثلج تنعكس عنه الأشعة كأنها جبال من الفضة. والفتاة تارة تنزل في وادٍ وطوراً تصعد على تل والعجوز تقطف لها من هنا وثمرة من هناك فتتناول الفتاة والزهور والأثمار ولا تتكلم كأنما حكم عليها بالسكوت وجعل الكلام عليها ذنباً .وبعد التمشي برهة انتهت إلى أكمة منبسطة تطل على النهر يكسوها عشب قصير كأنه بساط من بساط من الديباج وقد تطاير عنهُ الندى بوقوع الأشعة عليه فراق لفتاتنا الجلوس عليه والتعرض لأشعة الشمس التماسا للدفء وللتمتع بمنظر السماء الأزرق الصافي. فالتفتت إلى العجوز وقالت بصوت مختنق لطول السكوت (ما قولك يا خالة ألا نقعد على هذه الأكمة نتمتع بهذا الطقس الجميل. . ؟) .فهرعت العجوز وهي تصلح نقاباً كانت قد لفت به رأسها وحول أذنيها تجنباً للبرد وقالت (أقعدي حيثما تشائين يا حبيبتي) قالت ذلك وأسرعت إلى كرسي من خشب كان في بعض طرق الحديقة وجاءتها به وقالت (أفضل هذا العشب فإن العقود عليه حسن في هذا اليوم) فقعدت وقعدت العجوز بين يديها وهي لا تزال تراقب حركاتها وقلبها يحوم حولها وقد سرها ارتياحها إلى مناظر الطبيعة. فجعلت ترغبها في تسريح نظرها بما تشرفان عليه من مجرى النهر وما وراءه من التلال التي تكسوها غابات الصنوبر والزيتون والسنديان ويتخلل الغابات بيوت متفرقة هنا وهناك كأن الناظر إلى تلك البقعة ينظر إلى صورة مكبرة. فقالت العجوز (تأملي يا فلوريدا بهذه المناظر الجميلة فينشرح صدرك واتركي عنك الأوهام) .وكانت تلك التعزية سباً في هياج شجون فلورندا فقالت (لقد ذكرتني يا خالة بأمر أحاول تناسيه. . كيف ينشرح صدري وأنا في ما تعلمين من البلبال. .. وقد زادني بلبالاً انتقالي إلى هذا القصر. ..) .فقالت (وما يخفيك من ذلك الانتقال وقد أصبحت أقرب إلى قصر الملك وأعز جانباً. .) .فقالت وهي تنظر إلى آخر ما يقع نظرها عليه من مجرى النهر كأنها ترى قارباً بعيداً (أن ذلك الانتقال هو الذي أخافني. . ويا ليته نقلني إلى أطراف المدينة بل يا ليته أرجعني إلى والدي. .. .) قالت ذلك وشرقت بدموعها فانشغلت عن النظر إلى ذلك القارب بما جال في خاطرها من أمر والدها من أمر والدها وبعدها عنه ووقوعها في ذلك الخطر .^

    الفصل الثالث

    ألفونس

    وكانت العجوز خالة أم فلورندا وقد احتضنتها من طفولتها وربتها في بيت والدها حتى إذا آن مجيئها إلى بلاط الملك على جاري عادتهم كلفها أبوها أن تكون معها. فقضت في عشرتها بضعة عشر عاماً ولم تكن تزداد إلا حباً بها وانعطافا نحوها لما فطرت عليه فلورندا من الجمال واللطف. فلما رأتها تبكي أنفطر قلبها وقالت (أما الرجوع إلى والدك فأنه ميسور ولكن هنا لا أرى فيه بأساً وخصوصاً لأجل الفونس. . )فلما ذكرت العجوز اسم ألفونس ظهرت البغتة على وجه الفتاة وكأنها كانت في غفلة وأفاقت فدق قلبها وصعد الدم إلى وجهها فزال ذبول لونها. ثم تنهدت والتفتت إلى العجوز وقالت (دعيني من الفونس. . حتى الفونس نفسه أصبح من أسباب شقائي وقد كنت كما تعلمين أحسبهُ سبب سعادتي. . آه. . دعيني أبكي. .) .فقالت العجوز (مالي تحسبين الشقاء محدقاً بك من كل ناحية وأنت من أسعد خلق الله. . ؟كيف تقولين أن الفونس من أسباب شقائك وهو خطيبك ويستهلك في سبيل مرضاتك. . ؟) .قالت (أعلم ذلك وهذا الذي يزيد بلبالي. . أحبهُ ويحبني. . وما الفائدة من هذه المحبة. .. أن الذنب ذنبك يا خالة. .. أنت علقت قلبي به وكنت خالية لا أعرف القلق. . سامحك الله. .) .قالت (لم أندم على ما بذلته من الجهد في تقريب قلبيكما لأنكما متناسبان خلقاً وخلقة وأنتما من عائلة واحدة. ولما سعيت في تقريبكما كان هو ولي عهد هذه المملكة الواسعة ولما توقفت إلى ارتباطكما برباط الخطبة حسبت إلي أوصلتك إلى أوج السعادة لأن الفونس كان لا يلبث أن يصير ملكاً على أسبانيا كلها فتكونين أنت ملكة القوط. ولم يخطر لي أن يحصل ما حصل من الانقلاب فيسعى أهل المطامع والأغراض في أهلاك أبيه وإخراج الملك إلى أحد قواده. .) ولما بلغت إلى هنا خفضت صوتها والتفتت إلى ما حولها مخافة أن يسمعها أحد ثم عادت إلى إتمام حديثها فقالت (فإذا كنت تعدين خروج الملك من يديه شقاءً فأني لا ألومك. .) .فقطعت فلورندا كلام خالتها وقالت (لا لا. . ليس ذلك سبب شقائي وإنما هو انقطاع الفونس عن المجيء إلي. . ها قد مضت أشهر ولم أشاهده وأظنني لن أشاهده بعد أعوام وخصوصاً بعد انتقالي إلى هذا القصر. . أعوذ بالله من هذا الانتقال. . إن قلبي يحدثني بسوء سيصيبني منهُ. . ولذلك ترينني منذ انتقلت إليه وأنا منحرفة الصحة لا يهنأ لي عيش. .) .قالت (أراك واهمة يا حبيبتي فما في هذا القصر إلا ما يدعو إلى انشراح صدرك وأما سبب انقباضك فإنما هو شوقك لألفونس وهذا لا ألومك فيه وإن يكن هو معذوراً في تغيبه. لأن الملك يراقب حركاته وسكناته خوفاً منهُ لعلمه بما اختلسته من قبضة يده. . )وكان القارب الذي وقع نظر فلورندا عليه في أعلى النهر قد توارى بين بعض الصخور ثم ظهر من بينها على مقربة من حديقة القصر. وحالما وقع نظر فلورندا عليه خفق قلبها لأنها رأت فيه الفونس وأثنين من رجاله. فلم تعد تعلم ماذا تقول واكتفت بالإشارة إليه فاقترب القارب من الضفة ونزل الفونس إلى البر وأشار إلى الرجلين فنزل أحدهما ومشى في جهة أخرى وظل الثاني في القارب. وأما الفونس فحالما وقع نظره فلورندا أسرع إليها وعليه لباس القواد الرسمي وهو عبارة عن سراويل منتفخة قصيرة مبطنة بالفرو إلى الركبة وحول صدره دراعة مقفلة من الإمام وفوقها قباء قصير أرجواني اللون وحول خصره منطقة من جلد عريضة وعلى رأسه قبعة صغيرة لها جناحان من ريش الطير ومن تحت القبعة شعره الأسود يسترسل إلى أكتافه. وكان الفونس في العشرين من عمره ولم يستطل شعر عارضيه وشاربيه بعد. وكان أبيض الوجه أسود العينين إذا نظرت في عينيه تبينت فيها الحب والوادعة مع النباهة ولم تر فيهما شيئاً من المكر. وكان قد علق بحب فلورندا مذ كان أبوه على عرش أسبانيا وهو ولي عهد المملكة لأنه أكبر أخوته. وكانت فلورندا تستبعد حصولها عليه يومئذ ولكن خالتها العجوز سعت لدى الملكة والدة الفونس قبل وفاتها بما لها من الدالة عليها بالنظر إلى القرابة التي بينهما فنجحت وتعلق الفونس بفلورندا تعلقاً شديداً. وكان يتردد عليها كثيراً ويجالسها كل يوم تقريباً ثم أنشغل عنها بعد وفاة والده بما أنتابه من ضياع الآمال. وأصبح رودريك الملك الجديد وقد وضع عليه العيون والأرصاد. فخاف الفونس المجيء إليها ولكنه كان يترقب الفرص لرؤيتها ويسأل عن أحوالها حتى سمع بانتقالها من القصر القديم إلى القصر الملاصق لقصر الملك وأنها تقيم فيه وحدها فهاجت فيه عوامل الغيرة ولم يعد يستطيع صبراً عن مقابلتها للتمتع برؤيتها واستطلاع فكرها فإذا رآها لا تزال على عهدها أسرع في عقد الاقتران. لأنه كان يظنها زهدت به بعد خروج الملك من يده. وأتفق احتفال أهل طليطلة بعيد الميلاد في تلك الأثناء وقد خرج الملك في موكبه إلى الكنيسة الكبرى والفونس في جملة البطانة وعليه اللباس الرسمي وهو في جملة الراكبين فخطر له وهو في أثناء الطريق أن ينفرد عن الموكب خلسة ويمضي إلى فلورندا لأنه كان قد بلغة انحراف صحتها فرجح أنها لا تخرج إلى الصلاة في ذلك اليوم فأختار المجيء في القارب لئلا يراه أحد في أسواق المدينة وجاء معهُ في القارب اثنان من خاصته. فلما نزل البر أرسل أحدهما لاستقدام فرسه حتى يعود عليه راكباً إلى الموكب قبيل خروج الملك من الصلاة. وأستبقى الآخر في القارب لحين الحاجة. . أمر خادمهُ بذلك والتفت فوقع بصره على فلورندا فلم يتمالك أن أسرع نحوها وهو يثب وثباً والمسافة بينهما نحو مائة متر .^

    الفصل الرابع

    لسان الغرام

    أما هي فلما رأته قادماً بغتت وظهرت البغتة في عينيها وأسرعت دقات قلبها وارتعدت ركبتاها وأرادت أن تقف لملاقاته فلم تستطيع من شدة التأثر وامتقع لونها وشخصت ببصرها إليه وهي لا تصدق أنها تراه. أما هو فلما دنا منها ولم تقف لهُ ولا رحبت به تحقق عنده ما كان يظنه من زهدها فيه. وبعد أن كان مسرعاً بلهفة المشتاق تباطأ وندم على مجيئه ولطفه. ثم ما لبث رأى العجوز تهرول إليه وهي تعثر يطرف بطرف ثوبها حتى كادت تقع وهي تقول (أهلاً وسهلاً بحبيب القلب الفونس) .فأطمئن بالهُ ولكنه ما زال خائفاً فمشى حتى أقترب من فلورندا فإذا هي لا تزال جالسة وقد ألتفت بالرداء ويداها مختبئتان فيه إذا وقف بين يديها رفعت بصرها إليه ونظرت فيه نظرة خرقت أحشاءه وقرأ في عينيها بتلك اللحظة ما لو كتب على القرطاس لملأ عدة صفحات - قرأ فيهما العتب والتعنيف قرأ الشوق والوجد. قرأ فيهما الحب والغرام والاستعطاف والاستفهام. فلم يستطع جواب على تلك المعاني إلا بالجثو على ذلك البساط الأخضر وهو يقول بنغمة المحب الولهان (السلام يا فلورندا السلام) ومد يده وأحنى رأسه كأنه يسألها إحساناً. فظلت هي شاخصة فيه ويداها لا تزالان مختبئتين في ذلك الرداء. ولبث الاثنان شاخصين برهة وعيونهما تتخاطب وتتفاهم حتى غلب الدمع على فلورندا فغشى عينيها فحجب عنهما وجه الفونس. فأخرجت يدها من الرداء لتسمح عينيها فسبقها الفونس إلى استخراج منديله ومسحها به ثم مسح به وجهه وتنشق رائحته وتنهد تنهداً شديداً وأعاد يده فمدها إلى فلورندا فلم تمد يدها إليه. ففهم أنها تتعمد ذلك دلالاً وعتباً فلم ينتظرها فمد يده وقبض على يدها قبضة ارتعدت لها فرائض الاثنين كأنهما أمسكا بطارية كهربائية قوية .مضت فترة وهما يتخاطبان بالالحاظ ولها من قراءة الأفكار ما يغنيهما عن الألفاظ وكانت العجوز تتشاغل عنهما بقطف بعض الأزهار والاستتار بين الأغصان رفقاً بعواطفهما وإغضاء عما قد يبدو منهما في مثل هذه الحال. وظل الفونس ساكتاً وقد عول على الصبر حتى تكون فلورندا البادئة بالكلام. فقضيا برهة واليد باليد والعين والقلبان يتسارعان كأنهما يتفاهمان بالخفقان. وقد غشي الأعين ماء لامع هو من أكبر دلائل الهيام .ثم فتحت فلورندا الحديث فقالت بنغمة الدلال والعتاب (ما الذي جاء بك يا الفونس ؟. . )قال (لا أدري ما الذي جاء بي يا حبيبتي فهل تعلمين أنت ؟وأما الذي أعلمه فهو أني أسير هواك. وأني حي برضاك ميت بجفاك. . حبيبتي فلورندا. . هل عندك مثل ما عندي ؟. . نعم أعلم أنك كنت تحبيني ولكن هل أنت باقية على ذلك أو على بعضه أم غيرك ما غير أحوالنا وأضاع آمالنا. . ؟) .فأدركت أنه يشير إلى خروج الملك من يده فسحبت أناملها من بين أناملهِ بلطف وأظهرت أنها تحول وجهها عنهُ ونظرها لا يزال ثابتاً في نظره كأنها تقول لهُ (أ هذا هو مبلغ علمك بالحب وعواطف المحبين ؟. .) ففهم الفونس مغزى تلك الإشارة فقال لها (لم أكن أشك بصدق مودتك وقد أمتزج قلبانا - ولكنني حسبت سوء حظي غيرك وبعد أن خسرت أبي وملكي جرني سوء الطالع إلى خسارة ما هو أثمن من ملك العالم كله. .) قال ذلك وقد أبرقت عيناه وانبسطت أسرتهُ وهو لا يزال ينظر إليها ويتوقع أن يسمع قولها. فعادت إلى السكوت والتفت بردائها وحولت نظرها إلى مجرى النهر وأصغت إلى صوت هديره. فاستولى على تلك الحديقة سكوت لم يكن يتخيله إلا خرير الماء وزقزقة العصافير .فلما طال سكوتها بحث الفونس عن العجوز فإذا هي قادمة وفي يدها بعض الأزهار فناداها وهو يقول (تعالي يا خالة كلمي فلورندا عساها أن تتعطف علي بكلمة أبرد بها لظى وجدي. .) .^

    الفصل الخامس

    المحب كثير الشكوك

    وكانت العجوز قد وصلت إليهما فقدمت الزهور إلى فلورندا وأجابت الفونس قائلة (إذا كنت لا تفهم بدون كلام فما أنت من أهل الغرام. أ تحتاج مع ما تراه في فلورندا إلى إيضاح. وهل تظن ما يليق بالشبان من التصريح يليق بالفتيات أيضاً) ثم التفتت إلى فلورندا وقالت (هذا هو الفونس كلميهِ واسأليه. . وقد سمعت منك شكا في محبته فهل رأيت صدق قولي في ثباته. ..) .فرفعت فلورندا بصرها إليه وقد أخذ الهيام منها مأخذا عظيماً حتى ظهر ذلك جلياً في عينها لما اعتراهما من الذبول واللمعان فشخصت بصرها إليه برهة وهو يكاد يختطفها ببصره وقد نسي مصيبته في الملك وضياع حقهِ فيه عليه أن ترضى فلورندا ولو خسر العالم بأسره. وفيما هو غارق في تلك الهواجس سمعها تقول (هل شككت في حبي يا الفونس. .) .قال (نعم يا منيتي. . والمحب كثير الشكوك. . )فأطرقت وهي تقول (صدقت أن المحب كثير الشكوك فقد خامرني مثل ما خامرك كما قالت خالتي. . ولكن. ..) .فقطع الفونس كلامها وقال (لا أرى مسوغاً لشكك في وأنت تعلمين أني مستهلك في هواك. وأما أنا فيحق لي أن أرتاب ببقائك على عهدي لما أصابني من نوائب الزمان. فقد كنت ولي عهد هذه المملكة فأصبحت مثل سائر رجالها. .) .فلما سمعت ذلك ابتدرتهُ بالجواب قبل استيفاء كلامه فقالت (لما أحببتك يا منيتي إنما أحببت الفونس ولم أحب ولي عهد مملكة القوط. إن الحب لا يعتبر الرتب ولا المناصب. والقلوب يا الفونس تتعاقد وتتحد وهي لا تبصر ولا تقيس ولا تكيل ولا تزن. وهي لا تتعارف بالتوصيات ولا تعرف المجاملات ولا تفرق بين الحقوق والواجبات. القلب يا الفونس لا يرى علامات الشرف ولا يهوى التيجان ولا يخاف الصولجان - القلب يا حبيبي لا يهوى إلا القلب. .. )قالت ذلك وقد توردت وجنتاها وبان الاهتمام في محياها ثم أطرقت وسكتت وفي ملامح فمها أنها لم تستتم الكلام بعد. . فلم يشأ الفونس أن يقطع سلسلة أفكارها فظل صامتاً وهو ينظر إليها نظر المستزيد ولسان حاله يقول أتمي كلامك. فلما رأته يتوقع كلامها قالت (على أني آسفة لخروج هذا الأمر من يدك لا لأني لا أحب أن أكون ملكة ولكني. ..) قالت ذلك وغلب عليها الحياء والغضب معاً. فتزايد احمرار وجهها وقد قطبت أسرتها والتفتت نحو القصر كأنها تخاف رقيباً وسكتت. فأنشغل خاطر الفونس بذلك السكوت وأدرك بعض مرادها ولكنه تجاهل وقال لها (ولكن ماذا يا فلورندا يا حبيبتي ؟قولي. . أفصحي) .قالت وهي تخفض صوتها (ولكنني لولا هذا التبديل لم أكن أقاسي هذه المتاعب. . لم أكن أحسب نفسي بين أنياب الأسد. . وملاكي الحارس بعيد عني. ..) وخنقتها العبرات ولكنها استمرت في الكلام فقالت (ألم أكن أنعم بالاً لو ظل غيطشة على كرسي الملك أو لو أنه عهد به إليك فلم يكن لهذا المختلس سبيل إلى إقلاق راحتي. .) .فقطع الفونس كلامها وقد علته البغتة واتقدت الغيرة في قلبه (بماذا أقلق راحتك ؟. . هل خاطبك في شيء ؟. . هل بدا لك منه سوء.

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1