About this ebook
ولماذا يجدد؟ والعالم قديمة هنا ...!
قديمة قدم التاريخ في أوله ...
وفأسه ومعوله ...
العالم هنا من السلالة الباقية المذكرة:
بأن الظلم باقٍ ما يزال ...
وبين الظالم في قصره ...
والمظلوم في أسره ...
نامت عين الحقيقة ...
وتفشى قهر الرجال ...
رفعت رأسها عن غزل قميص صوفي لها، وهو ماصارت تكتفي به بعد أن داهمها الوهن مبكراً وثقلت يدها -كما تقول- وباتت تخسر الكثير من الزبائن.
دنا إليها، وقبل منها رأسها وكفها الكريم:
- السلام عليكم.
Related to ما بين الرامي والمرام
Related ebooks
نور Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsشمس بيضاء باردة Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsمتاهة الأفكار: "محاورات العبث واليقين" Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsعمارة يعقوبيان Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsأبو قلم Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsأديب Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالشاذب Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsمغترب غنى بكت العصافير Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsتعب السر Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالقاتل الأشقر Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsملك الفجوات Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsأعراس الكرة الأرضية Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsأن تكون وحيدًا Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsأبي الذي أكره: تأملات حول التعافي من إساءات الأبوين وصدمات النشأة Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsمهنة الكتابة: ما تمنيت معرفته في بداياتي Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsأقوى من الحب Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsقبض الريح (رؤى نقدية) Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsلأنها تستحق Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsحكايات حارس الكتب Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsتفاصيل Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsعدةٌ من أفكار أُخر Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالحياة خارج الأقواس: سيرة غير ذاتية للمدعو سعيد Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsأوقات العبيد Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsمن النافذة Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsمن وراء المنظار: صور انتقادية فكهه من حياتنا الاجتماعية Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالطيور على أشكالها تطير Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsالمختلف Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsصندوق الدنيا Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsاسطرهاب Rating: 0 out of 5 stars0 ratingsسلام أسود: مذكرات التعافي وما بعد الاكتئاب Rating: 0 out of 5 stars0 ratings
Related categories
Reviews for ما بين الرامي والمرام
0 ratings0 reviews
Book preview
ما بين الرامي والمرام - احمد عافشي
ما بين الرّامي والمرام
الكتاب: ما بين الرّامي والمرام
المؤلف: أحمد بن عباس عافشي
التصنيف: رواية
الناشر: دار مدارك للنشر
الطبعة الأولى: فبراير (شباط) 2020 م
الرقم الدولي المتسلسل للكتاب: 9 - 775 - 429 - 614 - 978 :ISBN
أحمد عافشي
ما بين
الرّامي والمرام
كنت أكتب «أبوتركي» في نهايات دفاتر مرحلتي المتوسطة...
كنت أُناديني به حين أقطع على نفسي عهداً...
وأرسمه بقلم الخطاطين العريض خلف ظهر «الكيرم»،
وكتبته مرة يتيمة -بصراحة- على جدارٍ في الحارة،
مرة واحدة فقط!
الإهداء
... لهذا ما كنت أظن إلا أن يكون اسم ابني البكر «تركي»...
حتى اختار أخي الوحيد والأكبر لبكره اسم «زيد»، فلم أتردد أن أحمل اسم والدي قبل اسمي وبعده... شارة شرف وائتناس، فكنت «أبوالعباس».
أُهدي أبي -رحمه الله- والذي لطالمـــا تخفّى بثـــياب الصــمت والهـــدوء والترانيم الذاتية بجواهر الأدب وبواذخ القصيد، وأيضاً بمكابدة تقلّبات الحياة وصروفها، من أن يكون أديباً صريحاً...
أهديكَ هذا الجهد المُقِل...
أهديكَ بعضاً مما كنت تخفيه...
أهديكَ بعضاً منك.
يمشي ... وحاديه يحدو، وهو يحتملُ
(أظن أن الأعمال المؤلّفة -في معظمها- تبدأ بأن تُكتب فصولها أولاً، ثم تنتهي بالخاتمة فالمقدمة، كي تكون النهايات بمثابة توصية، ويكون التقديم بمثابة شرح وجيز، ومرور عابر، عما حواه المؤلَّف من مضامين.
أما هنا فسأبدأ عامداً بالمقدمة ثم الفصول ثم الخاتمة وأخيراً عنوان الكتاب، ولسبب بريء: أنني لم أحصر بعد ألوان الخيوط اللازمة للحياكة، فالأبيض لونٌ بهيج مبتسم، والأسود نضطر إليه أحياناً، وهناك من يراه لوناً فخماً، والرمادي بين بين، وهو لون مساعد يأتي ليكسر حدة الغوامق، والأخضر قريب من النفس، وأظن للطبيعة الحيّة علاقة مباشرة بهذا، فهناك قواسم يشترك فيها «الأحياء»، والسماوي سابح مريح، و»التركواز» والبرتقالي هما الدّارِجان.... أرأيتم؟ كثيرة هي الألوان، والحاذق من يجيد الانتقاء والتقديم، وعلى الله ترجى المقاصد.
ما أدريه -حتى الآن- أنه سيكون -بإذن الله- قبساً من قلق، وبثاً لخوالج ذات، وطرحاً لأسئلة نفس، لم تقنع بما جمعته من أفكار، أو ربما عجزتْ أن تجد فيمن حولها إجابات شافية لأسئلتها، أو وجدتها، ولكنّها تبحث في الوصول إلى طرائق ناجعة لتقديمها.
سأسأل نفسي... وأجاوبها أحياناً، بدلاً من أن تبقى هذه الخوالج قابعة في الأعماق بلا رفاق... ولا حراك... ولا تجاوُب!
والإنسان من دون أسئلة يظل بعيداً... بعيداً جداً، عن ذاته، وعن مطامحه.
أحياناً تزعم -هذه النفس- أنها لاقت من تجارب واطلاعات، ما خوّلها أن تدلي ببعض الشهادات الحياتية والاعترافات، من وقع الألم أو المفازات.
يأمل الكاتب من الكتاب بعد تمام إعداده، أن يكون ملء العين والفؤاد بين يدي القرّاء وثنايا حديث المثقفين، أما أنا فقد اخترت أن أكتب كي ألقي بنفسي بين الأوراق، محتمياً من نفسي، متدفئاً ببياضها المحايد، متحصناً من عواديها، أهرع للكتابة هارباً من قبضة الكتمان، وأصفاد اعتمال القلق، وكشف السواتر عن مستور الروح، كالطفل يكمن قرب المدفأة في شتاءٍ ماطرٍ قارص برده، وقد احمرت أوداجه، وتراقصت أسنانه في فيه، طالما ظل يحاصرني زمهرير البوح في عالمي الصغير المحيط، أو الكبير الغلاّب...
من محاسن الأدب أن فضاءه ممتد، وهواءه حرٌ جريء، يسخر بالقيود، كل القيود، ولا يهكل لها كبير همّ، مع ما يتضمنه غالباً أو يتحتّم عليه من إفشاء لأسرار شخصية، ومن نواقص ونواقض ذاتية، ومغامرات وخبايا لا مكشوفة ولا معنيّة.
لأنهي أزمتي أخيراً مع تفلّت الخاطرات، وومض التأملات، ونبض الشعور، ورفض للواقع الغرور، من دون «الانقضاض» عليها بحفظ أو تدوين ومن ثم الحريّة المرجوّة.
قصائدي أينما ينتابني قلقي ... ومنزلي حيثما أُلقي مفاتيحي
- محمد الثبيتي
إذا وجدتني في مقام ما أنتقدك فلا تظنني أثبّطك، أو أنني متشائم، لا، بالعكس، إنني أسعى راجياً لإيقاظ المتراخي فينا، وأطمح لإنذارنا عن خطر ما رأيته، يظنه البعـض «هيّناً» ويؤمن آخرون أنه «سيتسهل بطبيعته»، وفريق ثالث ينبـري باندفاع، برأي شحيح طمّـاع، ويقول «ما لنا وما لهذا؟ أنا أُصلي العشاء وأسكّر باب بيتي»!
وبالتالي فمن دواعي التشخيص الصحيح للأوجاع -التي نراها حولنا وحوالينا أو نعيشها ونشعرها- أن يتم عرض ما يظهر بأمانة صادقة، وأن يحرص العارض -ما استطاع- على تقديم أمل المعالجة على ألم العلاج).
- ماذا؟
- ما هو الـ«ماذا»؟
- ماذا تريد؟
- أريد من زمني ذا أن يُبلّغني ... ما ليس يبلغُهُ من نفسه الزمنُ
- أتهزأ تركي؟... لماذا دعوتني؟
- لماذا دعوتك؟! لأطلعك على ما رأيت، ما رأيك فيه؟ خلاص صديقي، انتهينا، هذه هي مفاتيح المعركة التي سأخوض. طفح الكيل... عليّ أن أبدأ، فالتردد ينهشني!
- إذن أنت تعرف الداء.
- نعم... وها أنا ذا أعترف، بل وهناك عواصف المزاجية أيضاً، وانتظار زلزلة المواقف، أترقّب المؤثرات بفارغ الصبر، تجدني أكتب بعدها كالعاشق المأخوذ، وفي النهاية أنظر لنتاجي بعد التمام فأراه لا يتعدى حجم المقالة! ثمّ أعود وأحجم! وهكذا...
- تحتاج النفس أحياناً إلى معاملتها بقسوة، اجلسْ لتكتب أي شيء، أي شيء، حتى ولو كانت كلمات بغير معنى، أكتب أنك لا تستطيع أن تكتب، اجبرْ نفسك على ألاّ تغادر مكانك إلا وقد كتبت ما يمكّنك أن تقرأه في النهاية وتعجب به، لن ينقضي وقت قصير إلا وستجد الأفكار تتقافز على الورق مخطوطة تبتسم لك، بل وتسخر من ترددك...
الخوف يحول أحياناً دون أن نكتب، لذا علينا احترامه كخصم، ومحاربته، ثم هزيمته بالكتابة... نعم بالكتابة، حتى وإن كانت على غير هدى.
- الخوف... الخوف... لماذا نخاف «ياخي»؟
- أتسألني؟ وأنت عرّاب محاربة الخوف في مقالاتك وتغريداتك؟
- لا أدري... كلما قطعت شوطاً، وشعرت أنني حجّمت حدود هذا السرطان، أراني ما أزال لم يشف غليلي منه بعد.
كثيراً ما أشعر بأنني كالصوفيّ الراقص، يدور بنشوة، مغمض العنين، يرفع ذراعيه مستجدياً بحبوحة الانعتاق، ورحابة السماء، ومدد السماء، بجلبابه الأبيض الفضفاض، الحرّ المعطّر، وكل ما فتح عينيه ليرى... وجد من ينتظره متربصاً، يهدده، يتوعّده «بالهِرَاوَة»...
الخوف -للأسف- متجّذر في أعماقنا. لا أدري لماذا يخافون الشجاع؟
لماذا يخشونه، وهم في أمس الحاجة إليه؟ ما قيمة الجبان؟
- أظن أن رواجع الخوف أشد فتكاً من تهور الشجاعة... وأكثر خطورة وأخطاءً.
- صحيح... الخوف ينمو ويتعزز ويتكاثر ويتفشّى... حتى يخاف المرء لاحقاً من مواجهة صعب الظروف... ومن لاشيء، «يخاف من الخوف نفسه»!
الخائف يكذب، ويعتدي، ويتقاعس، ويبخل، وينحرف... إلخ
- مهلاً مهلاً، والجبان ربما يفعل ذلك!
- أليس من وسائل امتداح الآباء لدينا أنه إذا دخل البيت فكل أفراد الأسرة يتجمدون مكانهم بلا حراك ولا أصوات؟ أليس من وسائل امتداح الآباء هذه السمات «الغنضفورية»؟
- بل يزيد خفقان قلوبنا «خوفاً» في أوقاتنا الجادّة عند لقاء الكبار حتى في الحوارات العامة!
- هناك خلط مخجل حسام بين الخوف والاحترام.
- صحيح.
- لا مميزات قوة «بمعناها العضلي» تظن أنه من حقك استخدامها في العملية التربوية... أبداً.
- فعلاً... آه! اسمع... عليّ أن أذهب. وعدت أمي ألاّ أتأخر، طلبتني لأشتري لها نبتة «ليمون بن زهير» (فتبسّما) لنزرعها في حديقة بيتنا الجديدة.
- تخافها أم تحبّها؟
- اطلع من رأسي!
- متى أراك؟
- سنتراسل.
ذهب حسام، وترك تركي مع ضوء جهازه الحاسوب، مسلطاً على عينيه وخوالجه، في خيمة «اصطناعية مزيّفة» بحديقة بيته، وغير المسموح لسواها باستقبال الشباب، نظر إلى الحطبتين اللتين سبق أن أشعلهما ليشعر بالدفء وربما المحاكاة والاتّقاد، فإذ بهما قد خمدتا، وعادت من جديد نوبات التردد وعدم الثقة، و«الخوف» من الإخفاق، عادت الهواجس التي يحاربها ويشتكي منها.
ما يؤمن به حقاً هذا «التركي» أن لديه مع الفن ميعاداً، ميعادُ موهوب، فنٌ وموهبةٌ وميعادٌ، «عِشّ زوجية» ما يزال يستعصي التلاقي، يستعصي التلاقي كما يجب، أو كما يُحب، عشقٌ جيّاش للأدب، بل وبلونيه الشعري والنثري، مارس الشعر، كتب العمودي منه، وقابل مع القليل الذي خطّته يده إعجاب أهل الرأي وأصحاب الذوق، يؤمن أن للأدب مفاتيح سحرية أخّاذة نافذة، ولها سلطة ومَضَاء أحدُّ وأوقع من صيت السيف المهنّد. إلا أن تجربته -حتى الآن- رآها مفرطة وربما مبدعة في الغراميات أكثر من سواها، وأكثر من اللازم، وهو ما لم ينوه حين أعجب من نفسه بهذه الملكة. كما أنه يشعر بأسف أن زمانه الذي يعيش هاجر للشعر العمودي، لم يقدّره حق قدره، ثمنه حُسِف، ورواجه كُسِف، إذا ما قارنّاه بالشعر الحر الحديث، الذي لطالما حاربه ومقته، دفاعاً عن الأصالة والفخامة والبهاء.
يؤمن بقوة مرعدة تقلقه، أنه صاحب رسالة، لا يزال يسعى لتجميع فحواها، وتدوين عناصرها، يتربص باللحظة، يقلّب المواقف، ويفكك الأحداث، يسافر حين يسافر فتراه يتفحّص أحوال الناس، وشخصياتهم، وأقوالهم، وأفعالهم، يمعن النظر في سلوك من يقابلهم، بحدّة وتركيز، وصدر رحيب، ووجه طلْق، وقد بنى صورة واثقة أوليّة أن المجتمعات العربية منهكة في معظمها وصميمها... منهكة جداً «بكل طبقاتها»، بل كأنه متربّص بالأثرياء. يؤمن أيضاً أن أروع النصح وأصدقه، ذاك الذي يحاكيك بلا صوت، ولا نظرات، ولا مواجهة، أو تعابير محرجة، ولا يكون ذلك -برأيه- إلا في الكتابة، الكتابة فقط، يتخيّل أمّته في شخصين: أخٌ صغير وَجَدَ من أخيه الأكبر سلوكاً معوجّاً، فترك له رسالة بعد أن عطّرها وخطّها بالأحمر والأخضر والأزرق، ملؤها الحب والبلاغة والحرص، ووضعها على مخدته بحذر، وفوقها وردة جورية حمراء ضاحكة، وملفوفة بشريط من الستان الأبيض الفاتن الميّاس.
ولكن... كيف يكتب؟
ومتى سيكتب؟
وماذا يقول؟ وإلى من يتحدّث؟
أطبق الحاسوب، ثم نظر عن يمينه إلى الكتاب الذي كان يقرأ: (مشكلة الحياة) للفيلسوف: زكريا إبراهيم، انتشله وأخذ يتحسس بإبهامه مكان اسم الكاتب، وقفز في ذهنه -لا يدري لماذا- شريط صورٍ لعباس العقاد، عبدالوهاب المسيري، إبراهيم المازني، غسان كنفاني، مالك بن نبي، علي بيجوفيتش، دستويفسكي، فيكتور هيجو... صور وصور، لأشخاص كُثر، مرّت كالبرق، وأخذ يسأل نفسه وملؤه الدهشة، وكأنه اكتشف اكتشافاً عصيّاً:
لماذا يشترك العظماء ممن قرأ لهم، وأغرم بقامتهم وقيمتهم، بالبحث عن مفقودات مشتركة؟ الهموم واحدة، الطموح واحد، الركض في المضمار نفسه، الأمنيات والرجاوى مكررة، وكأنهم كتبوا مؤلفاتهم تحت سقف واحد يجمعهم «زنزانة مثلاً»، أو سلطة ما مستبدة أمرتهم!
وأين باقي الناس... كل الناس عن قبول السماع لنداءاتهم؟ فقط قبول السماع... أين هم؟ وما الذي يصرفهم؟
نحّى الكتاب، وتلقف هاتفه، وأخذ يقلّب حسابات أقاربه، يبتسم هنا، ويرسل قلوباً وقبلات هناك، ويدعو لهذه المريضة، ويذكر ربه لذاك الطفل الجديد اللذيذ... بعدها دخل إحدى منصات التواصل، وقد عاهد نفسه ألّا يستدرجه أي حساب من الحسابات التافهة، التي تعرض «اللا شيء»، سوى دعاوى الإلهاء، ودعايات للمنتجات أو الأشخاص!
ثنى خدّه وغمز بعينه وهو يهز رأسه حسرة على هذه الهمم والأعمار الفارّة من أصحابها... «سُعار استهلاكي»... شراء لمزيد من الشراء، جهود في طريقها أن تحوّل الدنيا برمّتها إلى سلعة، وأن يتحوّل المشاهير إلى لوحة إعلانات متنقّلة، يتحوّلون إلى جمادات! وأن ينتقل المجتمع إلى صراف آلي، همّه جيبه، أو بطنه، أو لذّته، لا يكترث لا لروح ولا لذات حقيقة، وبالتالي الويل لمن يتقهقر، لمن يتنحّى جانباً، يرفض المواكبة، الويل له والسخرية، ومن ثم القذف بالجنون والموت من العزلة!
ماذا جرى لهذا العالم؟
صادف رسالة جديدة، من أحد أصدقائه، فتحها، وإذ بها تحفة أدبية، تغصّ بحسرات تذكر الماضي العتيق لأسرة لم يعد يلمّها شمل، تقول:
(كان الشتاء... كان الشتاء، يعني لنا صوت بائع الكاز، ووهج الصوبة، ورائحة الشاي، وأعواد القرفة، والميرمية، تختلط بأبخرة العدس، أو لبن «الششبرك»...
كنا ننام بجانب بعضنا، وكان لصوت حبات المطر، وصفير الرياح نغمة، تعني لنا التدثّر بالألحفة الصوف، نستنشق عبقها عند قصف الرّعد أو لمع البرق... ثمة صوت يصدح من الراديو القديم: إنها فيروز... تغني للشتاء، بينما الأم تدور في حركة دؤوبة بين أفراد الأسرة والمطبخ، تنهر هذا، وتوبخ ذاك، محذرة من انسكاب الماء المغلي، أو إبريق الشاي... كنا نرسم على بخار زجاج النوافذ أحلامنا، وما كنا نمسحها حين نكتب أحلاماً جديدة، كنا فقط نعيد الرسم بنفخة من أنفاسنا الدافئة... في المساء تشعل أمي الصوبة، ونلتف حولها لنستمع للحكايا: عن الغولة، عن الضبع، وعن أبي الحصين.
كان خيالنا يرسم صوراً لتلك العوالم المخيفة، والتي اكتشفنا لاحقاً عندما كبرنا، بأنهم بشر، بشرٌ ولكن بأسماء مقنّعة! ما يهمنا من ذلك الشتاء هو العطلة، والغياب عن المدرسة... كبرنا... وبقيت الذكريات، ويا ليتنا ما كبرنا! لقد ذهب صناع السواليف والحكايا. فلم نعد نجتمع حول الصّوبة، ولا نأكل الخبز المحمّص.
صرنا نذرف الدمع كلما جاء الشتاء وتطايرت أوراق الخريف... نعم ذهب صناع الحكايا، وذهبت أسرارهم معهم. وتركونا لنرى الضباع، والوحوش البشرية، تنهش بعضها بعضاً... كانت وما زالت رائحة قشور البرتقال المحروق على الصّوبة، ينتشر عبقها في الذاكرة الموجوعة. تركونا... فلم يعد للمطر رائحة، ولا للمزراب صوت، ولم يعد الخبز يسد جوعنا... نشتاق ولكن هيــهات... هيـهات) انتهى.
فردّ على المرسل: جميل... هذه من أفضال الفقد... ولهذا خلق الله الفراق!
ولم يردف صاحبه بأي جواب كما توقع تركي!
وضع هاتفه بجانبه وعاود يحدّث نفسه:
طبعاً: فلو لم يوجد الفراق في حياتنا، أكان بمستطاع هذا الأديب اليقظ أن ينسج هذه التحفة البديعة، أو يلتقط من ذاكرته هذا الحشد «السيمفوني» الهائل من الصور والأشجان؟
(حاول أن يبحث عن اسم كاتبها في محرك البحث ففشل!)
هل لو كانت الحياة مشهداً واحداً أزلياً أكنّا نستطيع حفظ كل هذا الزخم المعلوماتي؟ أكنّا قدّرناها حق قدرها، حين لا ترحل هي ولا نقلق نحن؟ أو كنّا اكترثنا أصلاً أن نعيرها أي اهتمام أو ملاحظة وهي باقية أمام العين والشعور لا تتزحزح؟
لولا «الفراق» لما احتجنا الذاكرة، ولما تجمّع لنا تاريخ.
يدعونا الفراق/الألم/الموت، إلى استنطاق الحس، والاستلذاذ بالحاضر الذي نملك، قبل فوات الفرص إلى غير رجعة.
يدعونا بألاّ نتحسّر على ضياع حظ «الأمس»، طالما أن هناك «اليوم» بعبق أنفاسه، وموسيقى ثوانيه، وأعطيات دقائقه وساعاته.
هي عملية تجاوز لألم الفقد، وسعي للمعايشة معه، وتفكيكه، وإعادة صياغته من جديد على الوجه المرضي، والملائم لواقع اليوم ولطموح الغد. وهذا بالضرورة لا يبرر أو يتعاطف مع الألم أو وحشة الفقد.
بل كلما استوعبنا الفراق -بوجه من الوجوه- واستشعرنا مرارته وخشينا ذعر انقضاضه، كلما استطعنا تعظيم قدر ما نملك، وقدر الناس من حولنا، والأشياء، والطبيعة، والحياة... ولكنّ الإنسان «نسّاي»!
تناول الكتاب وفتحه، وإذ بعينيه تقع على سطر يقول «له» فيه زكريا إبراهيم:
(صاحب الرسالة هو على وعي تام بأن الإرادة الإلهية قد اختارته لأداء هذا الدور، فهو مدرك تمام الإدراك أن الوجود محتاج إليه، وأن الكون على موعد معه!).
استجمع شتات نفسه، وأكمل القراءة، حتى وصل:
(ليس في وسع الإنسان أن يحيا ما لم يهتد إلى شيء أعظم منه، يكون عليه أن يعيش له! وليس من الضروري لهذا الشيء أن يكون فائقاً للطبيعة، أو عالياً على الكون، وإنما حسبه أن يكون «فوق سطحي» أو أن يكون عالياً على الفرد نفسه. ومن هنا فإن القضية التي يعمل من أجلها -صاحب الرسالة- هي بالضرورة قضية اجتماعية، أو أخلاقية، أو إنسانية، أو غير ذلك، بمعنى أنها «موضوع مشترك» تتلاقى عنده إرادات الكثير من الأفراد، وتتحقق عن طريقه وِحدة عدد غير قليل من الحيوات الفردية).
تنهّد تنهيدة الوله المشتاق، وربما الخائف على ضياع توالي الفرص، نظر في ساعته، جذب جهازه المحمول، وتذكّر صديقه حسام -لا يدري لماذا- وأخذ يكمل كتابته:
هل أنا أهرب من الواقع؟
أم أنني لا أقدر أصلاً على الخوض فيه؟
هل صَدَق من قال إن الكتُّاب أهل تنظير، وخيال، أبواق، غير قادرين على العمل ونزال المواجهات أصلاً، لهذا يشرعون في الحكايا عن الغير، ويعزفون عن المواجهة والمعترك الحقيقي الواقعي في الحياة؟
ماذا أملك حتى أزعم أن لديّ ما يُكتب أو يُقال؟
من أنا بين كل هذا الجمع الفخم الزاخر من أهل التأليف والفكر والفلسفة؟ وما الجديد الذي يغريني لأقدّمه للعالمين (الإنس أو الجن حتى)؟
ولكن... لماذا كل هذا التثبيط؟
ألم أرَ في حياتي من الأحداث والمشاهد ما يمكن أن يدوّن؟
ألم أتألّم بما يكفيني، وما أنا قادرٌ بالتالي على «فعله» قصّاً كي يبتسم انتصاري، ويعتز تجاوزي...؟ أليست الكتابة فِعل؟
أه..! لا تنسَ بالمناسبة: أنك ضد من يزعم أن على الإنسان نسيان آلامه... الآلام مضاد حيوي، فمن سِن إبرة النحلة اكتُشِف علاج «الروماتيزم»!
أنا مؤمن جداً بضرورة استحضار النقيض، كي تستقيم الموازنة، كي نقدّر الأحوال والظروف حق قدرها، كي ننعم بجلال الضياء علينا أن نتخيل عتمة الليل البهيم برياحه الزافرة وذئبه العوّاء، كي ندرك قيمة الذات علينا أن نسترجع الإخفاقات والعثرات، ونستوعب يقيناً أننا نملك المقدرة الكافية على التصبّر والتخطّي...
آه... ما أجمل الكتابة، ما أسلاها للروح، وأدعمها للموجود البشري...
أذكر تماماً نقطة انطلاقها من أعماقي:
كنت في السادسة من عمري حينما بدأت أستوعب أن لديّ ابنة خال في غاية النعومة والجمال، الخدود الوردية المتجنّية، والشعر المتغطرس الأشقر، والعينان أفتن من الأمل، وخفة ظلّها التي كانت أمتع عندي من «حصة الرياضة»... نجتمع حين نجتمع آخر الأسبوع مع الأسرة، بل كنت أفكّر فيها وأستعد للقائها قبلها بأيام، أتحضر لها بأنواع الألعاب وتناسق الهندام، وتصفيف الشعر الخشن العصيّ «فلافل»، كان همّي الأوحد أن أجعل من تلاقينا زخماً صاخباً مكدّساً بالحواديت والألعاب المغرية، كي لا يضطرها الملل أو ثقل دمي أن تفارقني إلا مضطرة حين ندعى لطعام العشاء، أو تأتي ساعة الفراق عديمة الإحساس...
أذكر أنني وفي نهار أحد الأيام كنت في غرفة شقيقتي الكبرى «سعاد» مستلقياً على بطني، رافعاً ساقيّ إلى الخلف، ممسكاً بالقلم وقد قطعتُ ورقة مطبوقة من منتصف دفتري، بحماسة وانهماك، وشرعت
